مع تطوّر التكنولوجيا وانجذاب الأطفال إلى عالم الإلكترونيّات، واستخداماتها اليوميّة للتعليم والترفيه في بعض المدارس أو المدن في البلدان المتقدّمة، ما زالت الكثير من المدارس، في الأرياف البعيدة والمناطق الفقيرة، تفتقد إلى ملاعب وألعاب ووسائل ترفيه الأطفال.  

انطلاقًا من تجربتي في العمل في عدد من مدارس الأرياف السوريّة، ومدارس المدن الكبيرة وضواحي المدن، فضلًا عن تجربتي الأخيرة في مدارس تعليم الأطفال اللاجئين السوريّين في لبنان، وجدتُ فارقًا كبيرًا، من حيث الإمكانات، في المدارس وفق اختلاف مواقعها وإمكاناتها؛ فوسائل الترفيه واللعب وتقنيّات التعليم في المدارس التي لا تتوفّر فيها الإمكانات المادّيّة والتقنيّة تكاد تنعدم، ولا سيّما في المناطق الريفيّة المُهمَّشة. مقابل ذلك، لاحظتُ، بإسهامي في مبادرات مسرح الدمى في بعض المدارس، إمكانيّة صناعة الدمى من مواد أوّليّة متوفِّرة في بيئة الطفل والمدرسة، فضلًا عن كيفيّة استخدامها في عمليّتي التعليم والترفيه.  

يركِّز هذا المقال على أهمّيّة مسرح الدمى شكلًا من أشكال الفنون وتأثيره في الأطفال من الناحية النفسيّة والاجتماعيّة والتربويّة، نظرًا لأهمّيّة الشخصيّات المُمثَّلة بالدمى، والتي تُعَدّ قريبة من الأطفال وعالمهم.  

أهمّيّة مسرح الدمى

یعدّ مسرح الدمى من الفنون المحبَّبة إلى الأطفال واليافعين، وله تأثيره الإيجابيّ في نفوسهم، بتعليمهم وتثقيفهم. تُقدَّم به المعلومات والإرشادات والتوجيهات والخبرات التي يحتاجون إليها في حياتهم، لما يتضمّنه من حوار يُغني لغتهم، ومفاجآت تثیر انتباههم، وحركة یتمیّزون بها في مراحل نموّهم المختلفة. من هنا، يعرِّف جوزال عبد الرحیم مسرح الدمى بأنّه "وسیلة من وسائل الاتّصال الفعّال التي لها أثرها في تكوین اتّجاهات الطفل ومیوله وقیمه، وفي تحدید نمط شخصيّته" (عبد المقصود وآخرون، 2018، ص68). لكن، لماذا الدمى؟ 

أيّ نشاط فنّيّ أو تربويّ يساعد في التخفيف عن الطلّاب ويدعم العمليّة التعليميّة مهمّ للطفل، ولكنّ الدمى أقرب إلى عالمه. يمكن للأطفال صناعة الدمى بأيديهم أو بأدوات بسيطة ومتوفِّرة في أيّ بيئة محيطة بالمدارس، مثل الأقمشة والعيدان والكرتون والإسفنج والعلب البلاستيكيّة... وغير ذلك من الأدوات التي تساعد الأطفال في اكتساب مفهوم إعادة التدوير والإفادة منها. 

من ناحية أخرى، يساعد مسرح الدمى الأطفال على نسيان المواقف التي مرّوا بها خلال فترة الحرب واللجوء، فأداء الأطفال دورًا ما أو مشاهدتهم دورًا تمثيليًّا يخفّف التوتّر النفسيّ وحدّة الانفعالات المكبوتة، ولا سيّما عند الاندماج في المشهد التمثيليّ. مع فقدان الإمكانات التقنيّة في مدارس المناطق المهمّشة والفقيرة إلى وسائل تكنولوجيا التعليم ووسائل الترفيه، يمكن أن يُستخدَم المسرح في إيصال المعلومات التعليميّة للأطفال، كما يمكن توظيف المسرح في العمليّة التربويّة، أسلوبًا من أساليب التعليم والتعلّم، فيستخدمه المعلّمون والمعلّمات في النشاطات اللاصفّيّة التي تزيد من دافعيّة تعلّم الأطفال وتفاعلهم مع المعلّم في الصفّ.  

دور مسرح الدمى في تنمية المهارات الاجتماعيّة 

لمسرح الدمى دور كبير في تغيير مفاهيم القيم والعادات الاجتماعيّة المكتسَبة أو ثباتها أو اكتساب المهارات الحياتيّة المختلفة، فضلًا عن تطوير قدرات الأطفال في كثير من الاتّجاهات ومنحهم تجارب جديدة. تقول محرِّكة الدمى ريما محمّد، في مقابلة معها (2-6-2023): "إنّي أحرِّك الدمية وأنا أتحدّث بلسانها وبصوتها وأخلق حوارًا بيننا، وأحدّثها عن مشكلاتي وكأنّها شخص مختلف عنّي، ونجد الحلول معًا. في الوقت الذي لا يكون معي أصدقائي تكون دميتي صديقتي".  

تجعل الدمية الطفل أكثر ثقة بنفسه، وتنمِّي لديه التفكير الإبداعيّ، وتتیح الفرصة أمامه لاستخدام الخيال، وتدرِّبه على مواقف الحياة. ينمّي مسرح الدمى مهارات الطفل الاجتماعيّة في التواصل والتعبير والتقدير، كما یحسِّن أسلوبه في المحادثة والاستماع، حيث يصبح الطفل قادرًا على التعبير عن مشاعره عند استخدام الدمى للكشف عن القلق الذي يواجهه. بالإضافة إلى ذلك، يساعد مسرح الدمى الأطفال على تنمية مهارات التواصل، إذ يشجِّعهم على تكوین الصداقات والتفاعل الاجتماعيّ مع الآخرين، كما يزيد من فترة انتباههم ويتیح لهم فرصة العمل الجماعيّ ومشاركة الآخرين، ولا سيّما لدى الأطفال الخجولين؛ فهو يشجِّعهم على تحریك أیدیهم والتعبير عن أنفسهم والانطلاق في الحدیث. وعليه، فمسرح الدمى يسهم في تعزيز الأساليب التي تدعم الوعي بالذات، وبناء صورتها الإيجابيّة، وتطوير المواهب الفنّيّة والدراميّة (الغزالي، 2013).  

دور مسرح الدمى في تنمية الجانب النفسيّ 

يشكِّل مسرح الدمى عاملاً إيجابيًّا للأطفال الذين يؤدّون العرض والأطفال الذين يشاهدونه. هو ليس وسيلة للترويح عن النفس فحسب، بل لتنمية شخصيّة الطفل بجوانبها كافّة أيضًا. كما أنّه يسمح للطفل باكتشاف الأشياء والعلاقات بينها، والتدرّب على الأدوار الاجتماعيّة المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، يخلّص مسرح الدمى الطفل من صراعاته ومشاعره السلبيّة، ويساعده على التوافق والتكيّف النفسيّ والاجتماعيّ. تذكر المعالِجة النفسيّة منال الصالح، في مقابلة معها (28-5-2023)، أنّ للفنّ عامّةً ولمسرح الدمى خاصّةً أهمّيّة كبيرة بالنسبة إلى الأطفال، ولا سيّما الذين تعرّضت بلدانهم للحروب، فضلًا عن الأطفال المحرومين والمعرّضين للعنف أو أيّ نوع من الصدمات، والذين يواجهون خوفًا من الخوض في تجارب نفسيّة أو التعبير عنها. يفتح فنّ المسرح الباب أمام الأطفال للتعبير عن مشاعرهم ومشكلاتهم.  

دور مسرح الدمى في تنمية خيال الطفل وإبداعه 

عند كلّ نشاط في صناعة الدمى، كنّا نترك الخيال للأطفال في بناء الشخصيّات التي يرغبون في أدائها، فتتحّقق للطفل متعة صناعة الدمية وتحريكها في آن؛ فمسرح الدمى يسهم في تنمية إبداع الأطفال وخيالهم، إذ يُحفِّز تفكير الطفل عندما يصنع الدمى أو يتفاعل معها. ليست كلّ الأعمال التخيليّة معنيّة بتقديم الإمتاع أو التحقيق الخياليّ للرغبات؛ فهناك أعمال أخرى استكشافيّة وأكثر اتّساعًا، منها الوظيفة التعليميّة أو التربويّة. شخصيّات مسرح الطفل كثيرة ومتنوّعة، وهي متكافئة مع مخيّلة الطفل بما يتخيّله من أبطال وسحرة وحيوانات قويّة (الدسوقي، 2012، ص571). مسرح الطفل بدوره فنّ أنسنته الظواهر الحياتيّة والطبيعيّة وكائناتها الحيّة والجامدة على حدّ سواء، فالحياة تدبّ غامرة في شخصيّات مسرح الطفل، بجانبيها الفكريّ والإنسانيّ، لتنقل إلى الطفل المتلقّي مبادئ الحياة وديناميّتها في التعامل والتبادل والاستزادة بطريقة جماليّة خلّاقة وممتعة، كي يستوعبها ذهن الطفل (الدسوقي، 2012).

دور مسرح الدمى في العمليّة التعليميّة 

يرى معظم التربويّين أنّ عمليّة تعليم الأطفال تحتاج إلى استخدام الوسائل والتقنيّات التي تجذبهم وتساعدهم على إيصال المعلومات وتلقّيها. يقتضي مسرح الدمى مجموعة من الأهداف والوظائف التي تساعد على شرح الدروس وتذليل الصعوبات التعليميّة، والجمع بين التسلية والتربية، وخروج الطفل من الجوّ الاعتياديّ أثناء الحصّة الدراسيّة بتلقّي المعلومات بنشاط وحماس. يكمن الهدف من الدراما التعليميّة في تلقين الطلّاب الخبرات التعليميّة وتسهيل الدروس الصعبة (مودنان، 2015). كما يمكن توظيف مسرح الدمى في المواد والنشاطات التعليميّة كافّة. يساعد مسرح الدمى، في حصّة اللغة العربيّة مثلًا، على تجسيد شخصيّات القصص والحوار المُنعقِد بينها، فتلفت انتباه الطفل أكثر للاستماع، وتعينه على الإفادة ممّا يستمع إليه. أمّا في حصّة الرياضيّات فتظهر الدمية وهي تحاور دمية أخرى عن الأعداد، فتصحِّح لها بعض الأخطاء. قد يحرّك الدمى المعلّم أو الأطفال أنفسهم.  

من هنا، يتمثّل دور المدرسة في تعزيز الفنون عامّةً واعتبارها جزءًا مساعدًا في عمليّة التعلّم في وضع حصص ونشاطات فنّيّة ضمن النشاطات المدرسيّة، حيث تجعل الأطفال أكثر ارتباطًا بمدرستهم، وتسهِم في اكتشاف المواهب والميول لديهم وتعزيزها. فتدريب الأطفال وتعريفهم بالفنون يُكوِّن لديهم معرفة بها، وذلك مثل تنظيم عروض مسرحيّة يقدِّمها الأطفال أو المربّون تقديمًا فرديًّا أو جماعيًّا، أو إقامة معارض رسم وموسيقى بشكل دوريّ، فضلًا عن تدريب الأطفال على صناعة الدمى في المنزل والمدرسة، والاعتماد على إعادة التدوير في ذلك.  

تحتاج عمليّة النشاطات القائمة على مسرح الدمى إلى تحضير، بقيادة المعلّم لمساعدة الطلبة على فهم كيفيّة صناعة الدمى، وكيفيّة استخدامها. قد يحضِّر المعلّم أو الطلبة النشاطات؛ في الحالة الأولى تجلس مع المعلم مجموعة من الأطفال في الفصل الدراسيّ، وتوزَّع الأوراق والأقلام، ويُطلَب إلى الأطفال رسم الدمى التي يتخيّلونها بموادّهم المتوفِّرة، ثمّ تُجمَع المواد لتنفيذ الدمى باستخدام الأشياء، ويُطلَب إليهم تسمية دماهم للتفاعل معها. نساعد الأطفال في تنفيذ نشاط حوار بين الدمى، وخلق جوّ من التفريغ النفسيّ أو تعزيز القيم التربويّة، ويكون النشاط موجَّهًا من المعلِّم، أو يُستخدَم النشاط لهدف تعليميّ. أمّا في الحالة الثانية، أي عندما يحضِّر الطلبة النشاطات، ولا سيّما الفئات العمريّة الأكبر من 10 سنوات. يُطلَب إلى الأطفال تحضير شخصيّات من الدمى، وتقديم عرض في الفصل الدراسيّ أو في باحة المدرسة لبقية الطلّاب، تحت إشراف المعلّم. 

* * *

في ظلّ الظروف التي تعيشها الكثير من المدارس في المناطق الفقيرة، من أرياف وضواحي مدن ومخيّمات، من عدم توفّر الإمكانات والوسائل، لا بدّ من الدعوة إلى أهمّيّة العمليّة الترفيهيّة في المدارس، كي تُعزِّز من العمليّة التعليميّة، مثل مسرح الدمى. وعليه، يؤدّي مسرح الدمى عمليّة إرشاديّة، نفسيّة وتربوية، إذ يعدّ المسرح التعليمىّ من أفضل وسائل التعبير الذاتيّ التي تعتمـد بمجملها على الأصوات والألفاظ والحركات والإيماءات والخطوط والألوان، والتـي يلجأ إليها الطالب لتحقيق التواصل مع العالم المحيط به وتحقيق ذاته من ناحية، ويعتمدها المعلّم وسيلة يحقّق بها تواصله مع طلّابه من ناحية أخرى. من هذا المنطلـق، يتشكّل دور المعلّم مربِّيًا في مؤسّسة تربويّة، وفق فهمه الأصول الفنّيّة والنفسيّة للتعامل مع الحدث الدراميّ، ودفعه الطالب، أثنائه، إلى مشاركة انفعالاته.  

المراجع 

- الدسوقي، بلقيس علي. (2012). سينوغرافيا مسرح الأطفال: الممثِّل والمتلقّي. مجلّة كلّيّة التربية الأساسيّة.

- عبد المقصود، أماني وآخرون. (2018). فاعليّة مسرح العرائس في تخفيف الشعور بالوحدة النفسيّة لدى الأطفال المصابين بالسرطان. المجلّة العمليّة لكليّة التربية النوعيّة. 2(14).

- الغزالي، أمل حسن ابراهيم. (2013). القيم التربويّة السائدة في نصوص مسرح الدمى. أكاديميّة الفنون الجميلة، قسم الفنون المسرحيّة.  

- مودنان، مروان. (2015). مسرح الطفل من النصّ إلى العرض. مطبعة النيل.