لوحات أمجد، معلّم اللغة العربيّة، في إحدى مدارس عمّان تزيّن ممرّات المدرسة. تجده يتحدّث عن هذه الهواية بفخر، ويؤكّد أنّها لم تنل نصيبًا وافرًا من الاهتمام عندما كان طالبًا، ذلك أنّ الاهتمام بتدريس الفنون عمومًا كان شبه غائب في مدرسته، ويشاطره الرأي زملاء كثر تغيب عن ذاكرتهم أيّ فعّاليّات مرتبطة بالفنون. هم اليوم يعملون في تدريس مباحث مختلفة، ولا يتذكّرون في غمرة يومهم المدرسيّ أنّهم تلقّوا حصّة في مرسم، أو قاعة فيها آلات موسيقيّة. وعلى الرغم من السخرية التي تغلّف كلماتهم، إلّا أنّك تحسّ بمرارة من نوع خاصّ، ورغبة عارمة في رسم لوحة في البال، تحت توجيه معلّم مختصّ وخبير. من وجهة نظر أمجد، الاهتمام بالفنون ينعكس على شخصيّات الطلبة ومهاراتهم التواصليّة، وطريقة تحدّثهم مع بعضهم، أو أمام جمهور.
في هذا المقال، نسلّط الضوء على ثلاثة جوانب تلتقي في النهاية عند ضرورة إعادة النظر بأهمّيّة تدريس الفنون، وعلى أهمّيّة توظيف الفنون في الجدول المدرسيّ اليوميّ. فنتطرّق، أوّلًا، إلى ضرورة توظيف الفنّ المسرحيّ في تطوير مهارات التحدّث لدى الطلبة عمومًا، ثمّ نوضّح أهمّيّة الرسم في تعزيز مهارات الكتابة لديهم، وتطوير مهاراتهم في كتابة النصوص وتدعيمها باللوحات المناسبة، مشيرين إلى كيفيّة مساعدة الطلبة الذي يعانون تعثّرًا كتابيًّا في التعبير عن قصصهم برسومات، تشكّل في النهاية قصّة مكتملة العناصر والخصائص. ونختم بتبيان أهمّيّة الفنون للمعلّمين، وكيف تساعدهم على بناء علاقات إيجابيّة مع الطلبة، وتوفير بيئة التعلّم الآمنة، والإدارة الصفّيّة الفاعلة.
المسرح ميدانًا للتحدّث الواسع
يثير اهتمامنا ويلفت انتباهنا الطالب المتمكّن من التحدّث بثقة، ومفردات واضحة، وتراكيب متناسقة، وأفكار متسلسلة، ومضمون واحد بعيد عن التداخل والتشتّت، ونبرة صوت تراعي المعاني التي يتطرّق إليها، ولغة جسد ملائمة لا تقلّ أهمّيّتها عن أهمّيّة الكلمات المنطوقة. ولعلّ المسرح سبيل الطالب للوصول إلى هذه المرحلة المتميِّزة من إتقان مهارة التحدّث، إذا وظّفته المدرسة تحصد فائدة كبيرة تظهر في أداء الطالب المهاريّ (العناني، 2007). ذلك أنّ مهارات العرض والتواصل باتت مهارات ضروريّة وأساسيّة للطلبة، ليس في حصّة اللغة العربيّة فحسب، بل في المواد الأخرى، وضروريّة لشخصيّتاتهم وحياتهم أيضًا.
تسهم نشاطات تمثيليّة بسيطة أحيانًا في تحقيق منافع كثيرة. نذكر من ذلك، قصّة الطالب أحمد الذي ما زال إلى اليوم يتذكّر وقفته أمام الطلبة في الإذاعة المدرسيّة، عندما قدّم مع قلّة من زملائه مشهدًا تمثيليًّا للقاضي إيّاس، وهو يحكم بين متخاصمين، إذ نال تأدية الدور بإتقان تام إعجاب معلّميه وزملائه. وفي إحدى مدارس محافظة المفرق، لجأ المعلّم يحيى إلى وضع خيمة من أدوات بسيطة في زاوية الغرفة الصفّيّة، تمثّل العصر الجاهليّ، وفي كلّ حصّة يخرج منها طالب يلقي أبياتًا من الشعر لشاعر جاهليّ، ثم يعرّف نفسه إلى بقيّة زملائه في الصفّ. وهكذا يستمرّ الأمر حتى يكون طلبة الصفّ كافّة قد شاركوا في هذا النشاط. من هنا، يجب أن تصبح الفنون الأدائيّة، وأهمّها المسرح، جزءًا ثابتًا في الجدول المدرسيّ.
ولمّا كان إتقان التحدّث بدرجة مقبولة نسبيًّا يحتاج خزينة وافرة من المفردات والتراكيب، فمن الطبيعي أن تثري النصوص التي يختارها المختصّ بالفنّ المسرحيّ إلى خزينة الطالب وحصيلته من المفردات، وأن تسهم في توجيهه نحو نصوص أكثر عمقًا، وتوسّع أفقه ومداركه. الأمر الذي أكّده لي المعلّم يحيى عندما صار الطلبة يتداولون المعلومات والأبيات وعناوين قصائد الشعر الجاهليّ، واستخدام مفرداتها في أحاديثهم اليوميّة، موضحًا أنّه سينتقل بين عصور الأدب العربيّ لإيجاد علاقة وثيقة بينها والطلبة.
من ناحية أخرى، يمكن للمسرح المدرسيّ أن يكون مكانًا مناسبًا لمعالجة الخجل عند الطلبة، وإحجامهم عن خوض النقاشات، والاكتفاء بدور المتفرّج المستمع. إذ يمكن لحصّة المسرح المدرسيّ أن تخلّص الطلبة من حالة الخجل، بدمجهم في أدوار بسيطة أوّلًا، ثمّ التدرّج معهم إلى أدوار أطول وأكثر عمقًا، حتّى نصل بهم إلى مرحلة يتمكّنون فيها من خوض الحوارات والنقاشات بثقة كبيرة. ومن جانب آخر، نعزّز لديهم مهارات إبداء الرأي القائم على الدليل والبرهان والحجّة، فلا يبدي الطالب رأيه بأيّ فكرة إلّا بعد أن يمتلك أدلّة وبراهين تعزّزه، وتجعله أقوى وأكثر وضوحًا.
تتزامن لغة الجسم المناسبة والمعبِّرة مع المفردات الملائمة لمضمون التحدّث، وربّما يكون الأداء المسرحيّ أفضل فرصة لإظهار الطالب مهاراته أمام جمهور من المشاهدين، حيث تفرض طبيعة المشهد الذي يقدّمه حركات جسديّة وملامح تعبيريّة تخبر المشاهدين بما يريد قوله. وبتكرار الممارسة والدعم والتوجيه، يصبح المسرح المدرسيّ المكان الأوّل الذي يعزّز فيه الطالب ممارساته المتناسقة بين التحدّث المتقَن ولغة الجسد المعبِّرة عمّا يريد قوله.
القصّة رسمًا والكتابة بالرسومات
لن يستطيع الطالب المتعثّر في الكتابة تعثّرًا كبيرًا أن يكتب قصّة مكتملة الأركان ومحدّدة العناصر، إذ يوقع ذلك المعلّم في حيرة من أمره، فكيف يثبت في أذهان الطلبة مفهوم الفنّ القصصيّ، ويخرج بنتاج مكتوب يظهر فيه ما علّمه لطلبته؟ وفي الجهة المقابلة، تكون كتابات الطلبة المتمكّنين من الكتابة أجمل وأكثر وضوحًا وقربًا من القارئ، عندما يعزّزونها برسومات بسيطة، أو دالّة على الفكرة التي يريدون قولها.
حصّة الرسم إحدى الحلول التي تأخذ بيد معلّم اللغة العربيّة، إن وظِّفت توظيفًا صحيحًا، لمواجهة هذا التعثّر، إلى أن يجد الوسيلة المناسبة للقضاء عليه والتخلّص منه. يضفي الرسم على كتابات الطلبة لمسة تفوق الأثر الجماليّ، لتصل إلى توضيح المعنى ومنح القارئ الفرصة لتخيّل الأحداث وأمكنتها.
يقول الخبراء في تعليم الرسم إنّ الرسومات ساعدت الطلّاب في العصر الحديث على تخيّل الأحداث التاريخيّة التي حصلت في الماضي، وألهمت صنّاع الأفلام على تخيّل الأمكنة التي وقعت فيها تلك الأحداث (مرزوق، 2016). لذلك، يكون لتدريس حصّة الرسم بطريقة بسيطة وجذّابة الأثر الكبير في مساعدة معلّم اللغة العربيّة على التعامل مع الطلبة، مهما كانت مهاراتهم في الكتابة الميكانيكيّة متباينة. فالطالب المتعثّر يستطيع تقديم قصّة بالرسومات المعبِّرة عن الأحداث، يعلّقها على اللوح، ثمّ يرويها أمام زملائه، بينما يستطيع الطالب الذي نجح في كتابة قصّة أن يدعمها برسومات معبِّرة تجعل الأحداث أكثر وضوحًا في ذهن القارئ.
يجمع معلّم اللغة العربيّة الطلبة المتعثّرين في مجموعة متقاربة، ويساعدهم على كتابة كلمات بسيطة تعبِّر عن مضمون ما رسموه. ومرّة بعد مرّة، يزداد دعم المعلّم للطالب حتّى يتخلّص من مشكلة التعثّر كاملة. لن تحقّق حصّة الفنون هذا الأثر الكبير إلّا إذا كانت حصّة ثابتة في جدول الدروس الأسبوعيّ، يسير فيها معلّم التربيّة الفنّيّة مع الطلبة بخطوات متدرّجة، ويكون عليه واجب كبير، يتمثّل في إقناع الطلبة بأهمّيّة هذه الحصّة، لأنّهم ما زالوا يعتقدون أنّ وضع حصّة الفنّ في ذيل اليوم الدراسيّ دليل على عدم جدواها في مسيرتهم التعليميّة. سيكون الأمر أكثر تأثيرًا عندما يستضيف معلّم اللغة العربيّة في حصّة الكتابة معلّم التربية الفنّيّة، ليدرّب الطلبة على بعض تقنيّات الرسم السهلة، ويقدّم لهم نصائح تضفي على رسوماتهم جاذبيّة وجمالًا.
تأثير الفنّ في الإدارة الصفّيّة الفاعلة
ترتبط الفنون عادة بالمجتمعات كلّها، فلكلّ مجتمع فنونه التي ميّزت تاريخه وأفراده، وكنّا نسمع من يقول: "أعطني مسرحًا أعطك أمّة" (أبو الخير، 2019). نجد هذه العبارة اليوم من أهمّ ما يحتاجه نظامنا التعليميّ في دولنا العربيّة، ذلك أنّ العلاقات بين المعلّم وطلبته عنصر أساس في إدارة تعلّمهم، وتوجد كثير من الطرائق والأساليب التي تبني هذه العلاقات، والفنون إحداها، بل وتكاد تكون أهمّها. لنا أن نتخيّل ما الذي ستحدثه حصّة الفنّ من حوارات، وتبادل وجهات النظر حول أهمّ اللوحات الفنّيّة المشهورة عالميًا، أو المسرحيّات، أو الروايات العربيّة والعالميّة. وكم سيكون مفيدًا عندما توجِّه حصّة الفنون أفكار الطلبة نحو الجوائز العالميّة في مجال الفنون البصريّة والسينما، على سبيل المثال، فطائفة كبيرة من أبناء المجتمع تتابع الأفلام. ومرّة بعد مرّة، نجد أنّ الإدارة الصفّيّة الفاعلة يمكن تدعيمها باستخدام الحوارات، عندما يعثر المعلّم على قواسم مشتركة من الاهتمامات الفنّيّة والميول الأدبيّة بينه وطلبته. بذلك، يصبح الحديث عن الفيلم الأخير الذي طُرِح في دور السينما، أو الفيلم الذي نال الجائزة الأولى بسبب أداء الممثّلين، أو قوّة التصوير، محور نقاش بين المعلّم وطلبته، وقد تجد طالبًا يخالف معلّمه أو زملاءه في انخفاض جودة السناريو، رغم توفّر الميزانيّة العالية، وحداثة أدوات التصوير.
لجأت إليّ إحدى المعلّمات اللواتي طلبت عددًا من الأفلام الهادفة لتشاهدها مع طالباتها في المدرسة، في حصّة أسبوعيّة. ومن المفيد أن يكون بطل إحدى المسرحيّات معلمًّا يقوم بما يقوم به الطلبة تمامًا، أو يعلّق المعلّمون رسوماتهم في ممرّات المدرسة كأنّهم طلبة. فالعلاقات الإيجابيّة بين المعلّمين والطلبة عنصر مهمّ في توفير بيئة التعلّم الآمنة، والفنون إحدى الأبواب التي نحقّق فيها هذه البيئة المنشودة.
وعليه، يجب على المعلّم ألّا يتردّد في خوض النقاشات الفلسفيّة العميقة ومناقشة القضايا المُشكَلَة مع طلبته، أو إحالتهم إلى قراءات نافعة يقنعهم بها. الأمر الذي يهذّب سلوكهم، ويقلّل من التنمّر والعنف المبني على الجهل وعدم الاطلاع. بالإضافة إلى ذلك، يضفي ربط أداء المعلّمين بالفنون على حصّة الأشغال رونقًا جديدًا، فلمَ لا تصبح حصص الأشغال أو حصص النشاطات تدريبات لعرض مسرحيّ، أو تحضيرًا لمهرجان شعريّ؟ ولمَ لا تُفرَز حصّة مكتبة لمناقشة رأينا في رواية مشهورة فازت بجائزة، أو استضافة فنّان يعلّمنا العزف على الشبابة أو الطبل؟
* * *
نعتزّ كثيرًا بتراثنا، ونستحضره في كثير من احتفالاتنا ومناسباتنا، وسيكون من المؤثِّر جدًّا لو تتضمّن حصّة الموسيقى تعليم الطلبة الأغنيات الشعبيّة المتوارثة، وتأديتها بالانسجام مع عروض الشعر العربيّ، والمقامات الموسيقيّة. فضلًا عن فنون تصميم الأزياء التي ستكون حصصها الميدان الأوسع للطلّاب لتصميم أزياء الأفراح والأعراس والمناسبات الوطنيّة. بالإضافة إلى تكليفهم بتقمّص دور "الحكواتي"، ونقل القصص التراثيّة والأحداث التاريخيّة بطريقة محبّبة إلى أسماع الطلبة.
أظنّ اليوم، و"منهجيّات" تطرق باب هذا الملف المهمّ في العمليّة التربويّة-التعليميّة، أنّه بات من الضروريّ إعادة تفعيل الفنون في التعليم، وعدم اقتصارها على حصّة الرسم فقط. يجب توظيف الموسيقى والدراما والمسرح توظيفًا إجرائيًّا، بما يلبّي حاجات الطلبة في حصص اللغة العربيّة، إذ تعزّز مهارات الكتابة والتحدّث والإلقاء، ولن يمرّ وقت طويل على إدخال الفنون الفعليّ إلى نظمنا التعليميّة حتّى نجد تراجعًا في السلوكيّات غير المنتجة، وتلاشي التنمّر والعنف والتسرّب المدرسيّ. ففي الفنون مجال رحب يعبِّر فيه الطلبة عن هواياتهم واهتماماتهم، ومثلما يجمعهم الاهتمام برياضة معينّة، تضمّهم الفنون لتشكيل النوادي والجمعيّات الثقافيّة والفنّيّة.
المراجع
- أبو الخير، محمّد أحمد. (2019). مسرح الأطفال بين الكلاسيكيّة والإنترنت.
- العناني، حنان عبد الحميد. (2007). الدراما والمسرح في تربية الأطفال. دار الفكر ناشرون وموزّعون.
- مرزوق، إبراهيم. (2016). تعليم الرسم للمبتدئين. دار المنهل.