يكاد يكون التجريب طريقة التدريس الوحيدة التي يتّبعها الآباء والأمهات مع أطفالهم في بداية حياتهم وقبل الدخول إلى المدرسة؛ إذ يعرّض الأهالي أبناءهم لتجارب بسيطة تكسبهم مهارات محدّدة مثل تناول الطعام، والابتسام، والتقبيل، والحبو، والمشي، وقضاء الحاجة، وارتداء الملابس. وحتّى إن كانت هذه المهارات صعبة، فإنّ الاطفال لا يتردّدون في تجريبها، أو تقليد الآباء والأمّهات في فعلها. وما يميز هذا الأسلوب في التعليم أنّه يتمّ بصبر عالٍ من الأهل والأطفال على حدّ سواء، ولا يملّون تكرار الممارسة وإعادتها، بل يعيدونها بكثير من التفاعل والضحك الممزوج بالجدية، فالغاية في النهاية أن يتقن الطفل ما نودّ أن نُكسبه من مهارات.
هذه المهارات المختلفة تبدو بسيطة للكبار وسهلة التنفيذ، لكنها بالنسبة إلى الصغار صعبة، ومركّبة، ولا يمكن تعلّمها بسهولة. لكن، في النهاية، على الصغير أن يتقنها ويتعلّمها، وهذا يتمّ بالمحاولة والصبر، وبالاقتناع أنّ المسألة مسألة وقت فقط. وكثيرًا ما تبرّر العائلة تأخّر ابنها في تأدية مهارة معيّنة، بأنّه لم يصل إلى العمر المناسب لتنفيذها، وبأنّ الاختلاف بين الأطفال في تأدية هذه المهارت اختلافٌ زمنيّ فقط، ما لم يكن الأمر مرتبطًا بإعاقة حركيّة أو عقليّة أو عضويّة. أضف إلى إنّ أطفال بعض العائلات يتقنون بعض المهارات التي يتقنها آباؤهم، أسرعَ من بقيّة الأطفال المقاربين لهم في العمر؛ فإذا أجاد الأب السباحة أو ركوب الخيل، فإنّ ابنه سيكتسب هذه المهارة أسرع من أبناء الآباء الذين لا يمارسون هذه الألعاب.
النتيجة في الأحوال كلّها واحد، سيتقن الطفل المهارة بعد أن يكون جاهزًا لها.
يقودنا هذا الأمر إلى أنّ التعلّم يحدث في بيئة داعمة، ويستمرّ ويثبت بالتجربة والممارسة، ويزول ويندثر بالتوقّف عنه. فالطفل لا يستطيع المشي بإتقان وتوازن إلّا بعد أن يكون سقط مرّات عديدة وهو يحاول، ولا تتوقّف محاولاته لأنّه ببساطة يجب أن يتقن المشي ليستطيع البقاء.
أسلوب التدريس هذا –أقصد تسميته بذلك- يمكن اعتماده في الغرف الصفّيّة، إذ يطمح المعلّمون إلى أن يتقن طلبتهم كافّة مفردات الكتاب المدرسي بمهارة عالية، وهم يفخرون بإحراز طلبتهم أعلى المراكز والعلامات. وللوصول إلى هذا المستوى وتحقيق هذه الرغبة، تمكن الاستفادة من طريقة الآباء والأمهات في تعليم الأطفال الصغار، بمعنى أن يتيح المعلمون والمعلمات لطلبتهم مدّة زمنية كافية للتجريب والتكرار، وإعادة المحاولة، وأن يقتنعوا بأنّ الطالب يستطيع بعد مدّة زمنيّة معيّنة، يحتاج إليها دماغه، إتقان أيّ مهارة مهما بدت لنا صعبة. وهذا الأمر بحاجة أوّلًا إلى أن يؤمن المعلم والمعلمة بأنّ الطالب، ما دامت أعضاء جسمه سويّة، سيستطيع التنفيذ عندما يتعرّض للمهارة ويقلّدها ويحاول محاكاتها. وعندما ينطلق التربويّون من هذ الإيمان، فإنّ تصنيفات الطلبة من الذكيّ إلى الغبيّ وما بينهما من مستويات، ستزول نهائيًّا.
قد يقول المعلّم أو المعلّمة بأنّ الوقت أمامهم محدود، لكنّ التخطيط الجيّد في بداية العام الدراسيّ بحصر المهارات الواردة في الكتاب المدرسيّ، ووضعها في إطار زمنيّ يراعي مستويات الطلبة، سيكون خطوة في الاتّجاه الصحيح، وسيكون طريقًا يوصل في النهاية إلى إتقان الطلبة جميعهم المهارات اللازمة اكتسابها في الصفوف اللاحقة.