تواجه العودة إلى التعليم الوجاهيّ تحدّيات ومغريات تجريبيّة، لا تقلّ حساسيّة وأهمّيّة عن التحدّيات التي واجهتنا في التعليم عن بُعد إثر جائحة كورونا. لكنّنا وصلنا الآن، على الأرجح، إلى مرحلة صعوبة الفصل بين نوعيّ التعليم، بحكم مسار تاريخيّ كان لا بدّ أن يحصل عاجلًا أم آجلًا؛ فقد بدأ التعليم الإلكترونيّ المباشر قبل سنوات طويلة (17 سنة منذ بداية منصّات التعليم الإلكترونيّ). أمّا الإغلاق العام الذي سبّبته الجائحة، فقد فرض شموليّة التجربة وسرّع بتعميمها في مختلف أنحاء العالم. كان هذا التحوّل نوعًا من الصدمة غير المُتوقعَّة من حيث التوقيت والاستعداد، أدّت بدورها إلى إحداث أثر إيجابيّ في أطراف العمليّة التعليميّة على جميع المستويات.
رغم السلبيّات التي رافقت تجربة العامين الماضيين، فإنّ التحوّل السريع من التعليم الوجاهيّ إلى الإلكترونيّ، أتاح الفرصة أمام المعلّمين والطلّاب والأهل، بحسب النظريّة الحتميّة التكنولوجيّة، لاكتساب خبرات ومهارات تقنيّة ومزايا ومعطيات وبيانات صالحة مع الوقت، ساعدت على تكوين رؤى أكثر واقعيّة من كلّ ما رافق تجارب الجيل الأوّل من منصّات التعليم الإلكترونيّ. زخرت السنتان الماضيتان بكمّ ضخم من النجاح والتعثّر، ومن التجربة والخطأ، بحيث بات من الضرورة تطوير الرؤى والمفاهيم والآليّات، وتعظيم فوائد تلك التجارب، بصرف النظر عن الاتّجاه العام الحاليّ أو المستقبليّ لاستئناف التعليم الوجاهيّ.
من هنا، يتطرّق هذا المقال إلى طرح عدد من الخلاصات والمسائل المتّصلة بدور المدرسة، استنادًا إلى تجارب التعليم الإلكترونيّ، وتعليم الأبناء في المدارس، وتجربة الكاتب نفسه في التعليم الجامعيّ عن بعد.
مستقبل التعليم المدرسيّ
لم يعد بالإمكان الحديث عن العمليّة التعليميّة من دون الحديث عن التعليم المدمج، حتّى لو ضغطت السياساتُ والرؤى التربويّة من أجل استعادة المشهد المدرسيّ التقليديّ كما كان سابقًا؛ فقد اعتاد المعلّمون والطلّاب والأهالي على آليّات تواصل وتقييم إلكترونيّة تستمرّ وتنمو. وفي الوقت نفسه، فإنّ جزءًا كبيرًا من المحتوى التعليميّ أصبح رقميًّا في إنتاجه، وفي التفاعل معه أو النقاش حوله، إلى درجة الاستغناء الكلّيّ عن الإنتاج الورقيّ في كثير من المدارس، لما يحقّقه ذلك من توفير في ميزانيّة الأسرة، أو في ميزانيّة وزارة التربية في دول الرعاية. وإذا أضفنا إلى ذلك ما يمكن توفيره من كلفة النقل وحفظ البيئة (يُقدَّر التوفير بـ90% من الطاقة و85% من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون) (Tamm, 2021)، فسيكون التعليم الإلكترونيّ مغريًا للغاية في دوائر القرار وإدارة الموارد على جميع المستويات.
في المقابل، ليس واردًا، حسبما يبدو، الاستغناء كليًّا عن البناء المدرسيّ وآليّات عمله، ذلك أنّ الذهنيّة العامّة السائدة لدى أصحاب القرار، وفي ثقافة الناس وعاداتهم، ليست مهيّأة بعد لهذا التحوّل التام. والأهمّ من ذلك هو رغبتهم بالمحافظة على الأدوار الضروريّة للمدرسة التقليديّة في تحقيق البناء الاجتماعيّ للفرد، وفي تشكيل الولاء لدى الأجيال القادمة، باعتبارهم قوّة محرّكة للمستقبل.
من أجل ذلك، تجري إعادة التفكير في صيغة المدرسة في المستقبل، والأرجح أنّ التوصّل إلى رؤية محدّدة وجريئة قد يستغرق وقتًا طويلاً. وحتّى ذلك الحين، ستتفاوت درجة الدمج بين التعليم الإلكترونيّ والتعليم المدرسيّ من حالة إلى أخرى.
القواعد الجديدة للتعليم في المستقبل
تعزيز بُعد الفهم الإنسانيّ في التعليم
تفرض التقنيّات التواصليّة وتأثيراتها المتنوّعة تغييرًا حتميًّا على نظام المدرسة التقليديّ السائد عالميًّا منذ قرنين، والذي يرتكز إجمالًا على تلقين المعارف، وعلى لوائح وقوانين تعليميّة ومدرسيّة وأخلاقيّة صارمة. ومع الفضاء المفتوح على مصادر التعليم الإلكترونيّ والفضاء الرقميّ عمومًا، والذي أتاح آفاقًا واسعة أمام كلّ متّصل بالإنترنت، أصبح الفهم الإنسانيّ يفرض نفسه أكثر فأكثر، على المدرسة ذات النظام الدراسيّ التقليديّ، ما ينعكس على القوانين العامّة لوزارات التربية والتعليم والإدارات المحلّيّة، وعلى المناهج والهيئات التعليميّة.
كان التعليم، في التاريخ المعاصر، مُسيَّرًا ضمن آليّات الدولة وأجهزتها، بهدف تخريج أجيال موالية للتقاليد والعادات والمعتقدات الراسخة، ولا سيّما في الدول القوميّة أو الأنظمة المُوجَّهة. أمّا اليوم، فيرى كثير من الباحثين، ضمن نطاق حديثهم عن علاقة التربية بالتكنولوجيا، ضرورةَ تعزيز رسالة المدرسة الإنسانيّة، والتفكير في تعزيزها في المستقبل وتهيئتها وبنائها، وكيفيّة تطوير بنية ملائمة لتعامل إنسانيّ في واقع الحياة المدرسيّة (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2022).
تتداخل اليوم جميع الممارسات المرتبطة بالفضاء الرقميّ خارج المدرسة، مع الفضاء المدرسيّ. وهذا ما يضع البيئة المدرسيّة أمام ضرورة وجود تطوّر في إعلاء قيمة البُعد الإنسانيّ في المدرسة، ولو على حساب العناصر القانونيّة والاقتصاديّة والتقنيّة. ينشأ عن ذلك ضرورة اعتبار الوسائل الرقميّة عوامل معزّزة للقيم الإنسانية في الفضاء المدرسيّ. ومن المفترض أن يضمّ الانتقال من الوعظ إلى الفهم الإنسانيّ جميعَ الفاعلين في العمليّة التربويّة والتعليميّة. وهنا، يوصي العديد من المختصّين بعمل جماعيّ محلّيّ، لإحياء مناخ انسانيّ ملائم للتعليم، مع الإشارة إلى ضرورة أن يعي كلّ طرف في العمليّة التربويّة أنّه لا يمكنه التحرّك بشكل فرديّ، بل يجب أن تكون مبادراته جزءًا من العمل الجماعيّ المحليّ (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2022).
مركزيّة الطالب في عمليّة التعلّم
بعد أن كان المعلّم محور العمليّة التعليميّة في المدرسة التقليديّة، من حيث النظم والطرق والمناهج، زادت في السنوات الأخيرة، نتيجة ثورة تكنولوجيّات التعليم والاتّصال وشبكات التواصل والألعاب الإلكترونيّة، دعوات الخبراء ومخططّي السياسات التعليميّة إلى جعل الطالب محور عمليّة التعلّم. يشير ذلك، وفق تحليل معطيات من تجاربنا الشخصيّة ورؤى عدد من الخبراء، إلى عدّة أمور يمكن اختصارها بثلاث نقاط:
1. كلّ طالب يجب أن يكون محطّ اهتمام مُركَّز ومتابعة يوميّة حثيثة. تعزّزت النزعة الفرديّة لدى النشء والأطفال من مواليد الألفيّة الثالثة، أكثر من الأجيال السابقة، نتيجة احتكاكهم الكثيف بالعالم الافتراضيّ وخياراته الفائضة. يؤدّي ذلك إلى اهتزاز الرقابة الاجتماعيّة والرسميّة على كلّ طالب، ما يلقي على التعليم مسؤوليّة استثنائيّة لمواكبة كلّ طالب ورعاية خصوصيّته. وهذا الأمر يؤدّي إلى حصول تغييرات في المحتوى المدرسيّ، وفي طرق التواصل بين الإدارة والمعلّمين والأهل من جهة، وبين الطالب من جهة ثانية.
2. أتاحت منصّات التعليم الإلكترونيّ كمًّا هائلاً من البيانات عن كلّ طالب، يمكن، بتحليلها إداريًّا وتحديث معطياتها ومخرجاتها، الحصول على نتائج غير مسبوقة، لم تكن مطلقًا في وارد الإدارات التي اعتادت التقييم العام، السنويّ أو الفصليّ في أحسن الأحوال. وفّرت هذه المنصّات أدوات نوعيّة وكمّيّة تفوق التوقّعات، مثل قياس اهتمامات كلّ طالب، ومدى انتباهه وتفاعله أو لامبالاته. تساعد نتائج اختباراته جميع المعنيّين على وضع توجيهات وتوصيّات دقيقة للغاية، ومناسبة لكلّ طالب، لا تطال أداء الطالب العام فحسب، بل تتعدّى ذلك إلى دراسة فعاليّة كلّ محتوى أو كتاب مدرسيّ، إلى جانب النتائج التي يمكن أن توفّرها المقارنة بين أداء معلّمي مادّة دراسيّة واحدة. وبالتالي، ليس من الجائز التخلّي عن مثل هذا الكسب الثمين، والذي يوجب على المدرسة، في تعليمها الوجاهيّ، ألّا تقطع مع تلك البيانات المُجمَّعة خلال السنتين الماضيتين، نظرًا لفوائدها العظيمة في تحقيق عمليّة التقييم.
3. التعامل بمسؤوليّة وروح جديدة مع استخدامات الطلّاب للوسائل الرقميّة وشبكات التواصل، ولا سيّما بعد أن أثبتت التجارب نشوء كثير من الإشكالات، مثل الاستياء من آراء بعض الطلّاب حيال بعض المعلّمين أو المدرسة.
خاتمة
في النهاية، هناك الكثير من النقاط والعناصر الأخرى التي كانت محطّ اختبار في السنتين الماضيتين، والتي يجب أن تكون محطّ اهتمام مراكز قرار التعليم، ومنها ما يخصّ جودة المحتوى ومهارات المعلّمين وكفاءتهم وموقع الإدارة، ولكنّها نقاط تتطلّب أبحاثًا أخرى. كما تجدر الإشارة إلى أنّ التعليم الإلكترونيّ الذي فرض نفسه علينا، برغم إيجابيّاته الكثيرة التي ذكرنا بعضها، لا يخلو من السلبيّات التي لا يمكن إغفالها (Tamm, 2022)، والتي يُبرِّر بعضها استمرار النموذج الدراسيّ التقليديّ، شرط تطوّره واستيعابه للمتغيّرات المتواصلة.
وعليه، فإنّ العودة إلى الوراء باتت خارج سياق التاريخ، أو لا يمكن أن تكون مجرّد استعادة للماضي. نحن أمام معادلة جديدة، بإيجابيّاتها وسلبيّاتها، وبتسهيلاتها ومعوقاتها، فما حصل ترك تأثيرات تلقي بثقلها على التعليم ومناخاته، بكلّ أشكاله ونشاطاته.
المراجع
- مجلة Administration & Education ملفّ خاصّ منشور مترجمًا بعنوان "التعليم والتكنولوجيا" في 'الثقافة العالميّة" الصادرة عن المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مايو-يونيو، رقم 209
- Tamm, S. (November, 2021). 10 Major Advantages of E-Learning. e.student.org. https://e-student.org/advantages-of-e-learning/
- Tamm, S. (January, 2022). Biggest Disadvantages of E-Learning. e.student.org. https://e-student.org/disadvantages-of-e-learning/