يعدّ دور المربّي/ المعلّم مكوّنًا مركزيًّا لنجاح عمليّة التربية والتعليم في أيّ مرحلة تعليميّة. لذلك، ينبغي على النظام التربويّ في الدولة، بمختلف مستوياته، منح جُلّ اهتمامه لهذا الدور، كي يؤدّي المرّبي دوره بجودة عالية. وبالتالي، يتحقّق النهوض في المجتمع كلّه، بالاستثمار بجودة التربية ونوعيّة التعلّم والتعليم، والتي تُقدَّم لأفراده بمختلف المراحل. كما ينطبق ذلك، بصورة أو بأخرى، على عمليّة تمكين الأساتذة الجامعيّين في مرحلة التعليم العالي.
يسلّط هذا المقال الضوء على الكفايات المحوريّة التي يحتاج إليها المربّي لتحقيق دوره في عمليّة تربية الطلبة وتعليمهم بفعّاليّة، ويوضح المتطلّبات التي يجب توفيرها له ليؤدّي دوره بكفاءة عالية.
الكفايات المحوريّة التي يحتاج إليها المربّي
يُبنى الدور الإيجابيّ الفعّال للمربّي في تربية الطلبة وتعليمهم على مجموعة كفايات يجب أن يمتلكها. تُمثِّل هذه الكفايات متطلّبات محوريّة لأداء دوره التربويّ والتعليميّ بجودة عالية، ويمكن إجمالها في ما يلي:
الدافعيّة الداخليّة
يجب أن يكون المربّي مندفعًا داخليًا لمهنة التعليم، أي يختارها لرغبة داخليّة ذاتيّة عنده، وليس لأيّ مميّزات أخرى تقدِّمها المهنة. مثل توفّر عطلة صيفيّة سنويّة مدفوعة الأجر لشهرين، وساعات دوام يوميّة قصيرة، مقارنة بالوظائف الأخرى وغيرها. لذلك، يحتاج الطالب الذي يريد أن يتخصّص في المجال التربويّ في الكلّيّات والجامعات، إلى أن يمرّ بعمليّة إرشاد مهنيّ سابقة. بالإضافة إلى ضرورة جلوسه لمقابلة شخصيّة تتضمّن فحص مدى تحقّق هذا البعد لديه، ومدى امتلاكه بعض خصائص الشخصيّة الملائمة. هذا مطلب أساس سابق لقبوله في التخصّص، حتّى لو استوفى جميع شروط القبول الأخرى، حيث يعدّ هذا البعد أساس الانطلاق لبناء ذاته المهنيّة مربيًّا خلال سنوات الدراسة وما بعدها.
الخصائص الشخصيّة الملائمة
ينبغي أن يتحلّى المربّي بخصائص شخصيّة تناسب مهنة التعليم، من أهمّها حيازته المهارات القياديّة والإداريّة، والثقة بالنفس، والاتّزان الانفعاليّ، وضبط الذات، وقبول النقد البنّاء، والتواصل الفعّال، والانضباط مع المرونة، والمثابرة لتطوير الأداء. فضلًا عن الإيمان بمبدأ التعلّم عمليّةً مستمرّة مدى الحياة، يسعى وفقها إلى تطوير ذاته مهنيًّا والتأمّل في ممارساته التربويّة والتعليميّة. كما يُفترَض بالمربّي أن يكون واعيًا بنقاط القوّة المهنيّة والشخصيّة لديه، وبالتحدّيات التي يواجهها، فيعمل دائمًا على تطويرها. بالإضافة إلى إيمانه بأنّ التعلّم عمليّة متبادلة ما بين المعلّم والطالب، فيتبادلان الخبرات والمعرفة.
التأهيل العلميّ في مجال التخصّص
يُفترَض بالمربّي أن يكون حاصلًا على الدرجة العلميّة المطلوبة في التخصّص الذي يُعلِّمه، كاللغة العربيّة أو الرياضيّات أو الفنون، من جامعة أو كلّيّة معترَف بها في الدولة. بالإضافة إلى التأهيل التربويّ، حيث يكون متمكِّنًا من مختلف أبعاد التخصّص على المستويين النظريّ والتطبيقيّ. فالمربّي المتمكِّن من محتوى تخصّصه، يستطيع تخطيط الخبرات التعلّمية والتعليميّة تخطيطًا فعّالًا وسلسًا وقابلًا للفهم والنقل، من سياق إلى آخر.
التأهيل التربويّ المناسب والتدريب العمليّ الكافي
يجب أن يحصل المربّي على التأهيل التربويّ اللازم، بحسب المرحلة العمريّة التي سيعمل معها، وأن يفهم خصائص الطلبة النمائيّة في هذه المرحلة ومتطلّباتها. بالإضافة إلى آليّات التعلّم والتعليم التي تناسب أساليب تعلّم الطالب في هذه المرحلة العمريّة، وآليّة تنفيذ التعلّم النشط المنسجم مع متطلّبات العصر، أي التعلّم الذي يكون فيه الطالب باحثًا نشطًا، يتعلّم بالممارسة والمرور بخبرات ذاتيّة، بينما يكون دور المربّي فيه ميسِّرًا عمليّة تعلّم الطلبة، ومساندًا لهم بحسب الحاجة. بالإضافة إلى ذلك، من الضروريّ أن يتحلّى المربّي بمهارات تخطيط التعلّم وتنفيذه وتقييمه، داخل الصفوف وخارجها، وآليّات التخطيط المنهجيّ بمختلف مستوياته (السنويّ، والفصليّ، واليوميّ...الخ) بما يتناسب مع المادّة التي يُدرِّسها. كما يجب أن يكون المربّي حاصلًا على شهادات التدريب العمليّ في المدارس، وعلى تغذية راجعة من معلّميه. الأمر الذي يُسهِم بتطوير أدائه المهنيّ كثيرًا.
التطوّر المهنيّ - الذاتيّ
يجب أن يسعى المربّي دائمًا إلى تطوير ذاته مهنيًّا وفق مجالات متعدّدة، مثل الدورات التدريبيّة التربويّة، أو الدورات ذات العلاقة بالتخصّص العلميّ الذي يُدرِّسه، أو المتعلّقة بموضوع تخصّصه وكيفيّة تعليمه داخل الصفوف، وذلك تحت إشراف ذوي الاختصاص في المدرسة ومتابعتهم، لإتاحة الفرص أمامه للتعلّم بالعمل والتأمّل العميق في الذات والممارسات المهنيّة. كما يتيح تفعيل مجتمعات التعلّم داخل المؤسّسات التربويّة والمدارس، أو عبر المواقع الإلكترونيّة المتخصّصة، فرص تبادل الخبرات التربويّة والتعليميّة والعمل على تطويرها. وغير ذلك من المجالات ذات الصلّة التي تسانده في عمليّة تطوير ذاته مهنيًّا، بحيث ينعكس ذلك إيجابًا على جودة عمليّة تعلّم طلّابه وتعليمه.
المتطلّبات الواجب توفيرها للمربّي
تقع على عاتق الدولة ونظامها التربويّ مسؤوليّة توفير مجموعة من المتطلّبات التي تُسهِم في مساندة المربّي في عمليّة تكوينه المهنيّ، ممّا يؤدّي في النهاية إلى وجود معلّمين قادرين على قيادة دورهم بفعّاليّة في عمليّة تربية الأجيال القادمة وتعليمها، مندفعين داخليًّا إلى هذا الدور، ومحقّقين الأمان الوظيفيّ والكرامة الإنسانيّة في المجتمع. في ما يلي نعرض أبرز هذه المتطلّبات:
تعليم جامعيّ ذو جودة عالية وعمليّة
من حقّ المربّي أن ينال تعليمًا جامعيًّا ذا جودة عالية، يسهِم بتأهيله معلّمًا قادرًا على تأدية دوره على أكمل وجه. يمكن تحقيق ذلك ببناء برامج تأهيل المعلّمين في الكليّات والجامعات التربويّة، بما يضمّن تعرّضه لمجموعة مساقات متنوّعة وشاملة ومتكاملة ومدروسة بدّقة، تُسهِم في تمكينه من أن يكون خرّيجًا قادرًا على تطبيق مهمّته تطبيقًا فعّالًا في الميدان التربويّ، وليس مجرّد مطّلع على محتوى نظريّ لا يعينه في الحياة العمليّة. كما تتضمّن جودة التعليم الجامعيّ توفّر محاضرين مختصّين بمجاله على الصعيدين النظريّ والعمليّ، لقيادة المساقات التي يتعرّض إليها المربّي في المستقبل بجودة عالية، ومساندته في بناء خبراته التربويّة النظريّة في سياق تطبيقيّ عمليّ.
المساندة المهنيّة
تنبغي مساندة المربّي في الروضات والمدارس في عمليّة التطوّر المهنيّ المستمرّ، ولا سيّما في بداية عمله في التربية. يتمّ ذلك بتوفير نظام إشراف مناسب من حيث نوعيّته ومدّته، ممّا يدعمه في عمليّة التأمّل الذاتيّ بممارساته المهنيّة، والانطلاق منها في عمليّة التطوّر المهنيّ المبنيّ على الأداء، بمساندة المشرف المختصّ في المدرسة. وهنا، تبرز الحاجة إلى أن يكون المشرف مختصًّا ومؤهّلًا تربويًّا وصاحب خبرة ميدانيّة تمكنّه من تأدية هذا الدور بمرونة وإتقان. كما يحتاج المربّي إلى متابعة عمليّة التطوير المهنيّ، حيث العالم اليوم والأبحاث والدراسات التربويّة في تطوّر دائم لا يتوقّف، فتنبغي عليه مواكبة هذا التطوّر بالبحث والتقصّي والتعلّم المستمرّ.
يتحقّق ذلك عندما تتيح المدرسة أو وزارة التربية والتعليم أو المؤسّسات التربويّة في الدولة الفرصَ أمام المربّي للمشاركة بالدوّرات والورشات التدريبيّة، وإجراء أبحاث تطبيقيّة وتربويّة، بحسب المرحلة العمريّة التي يعمل معها والموضوع الذي يُدرِّسه. بالإضافة إلى متابعة آخر المستجدّات والدراسات العالميّة ونتائجها وفق هذا السياق، وتبادل الخبرات مع المربّين الآخرين في المجتمع المحلّي والعالميّ. يحتاج كلّ ذلك إلى تنسيق تربويّ وتخطيط استراتيجيّ تعقده الجهات المختصّة في الدولة، لتوفير هذه المجالات والمؤسّسات ومراكز الدراسات التربويّة، وتخصيص الوقت والتمويل والبرامج اللازمة لتنفيذها.
ظروف بيئيّة تعلّميّة مواتية
تتطلّب تأدية المربّي دوره بكفاءة توفّر الظروف البيئيّة، الماديّة والبشريّة، المناسبة لأماكن التعلّم، سواء أتمثّل ذلك في مواصفات الغرف الصفّيّة ومرافق المدرسة المختلفة، أم في توفّر التجهيزات والمواد التربويّة اللازمة، بقدر متناسب مع متطلّبات تعلّم المنهاج وعدد الطلبة في الصفّ الواحد. كما يتطلّب ذلك إعداد الجداول الزمنيّة الأسبوعيّة لحصص المربّي وأنشطته إعدادًا ملائمًا ومدروسًا بدقّة، فلا تكون هذه الجداول مرهقة له، بل تتضمّن فترات راحة للتخطيط المنهجيّ والتحضير لخبرات التعلّم، فضلًا عن فترات التطوير المهنيّ.
أمّا في ما يتعلّق بالبيئة البشريّة، فتشمل عدد الطلبة المناسب داخل الصف، حيث تتاح الفرص للتعلّم النشط بخبرات تفاعليّة، ويُعطى المربّي فرصة لتقييم الطلبة تقييمًا مستمرًّا، ومتابعتهم متابعة فرديّة، مراعاةً لمبدأ الفروق الفرديّة بينهم. وهنا، تبرز الحاجة إلى توفّر مساعدي المربّي داخل الصفوف، ولا سيّما في الحالات التي تتضمّن دمج الطلبة ذوي الحاجات الخاصّة في الصفوف العادّيّة دمجًا أكاديميًّا. بالإضافة إلى توافر إشراف تربويّ مناسب ومساند للمربّي.
يستند كلّ ما ذُكِر إلى أساس جوهريّ، يتمثّل في توفّر مقرّرات دراسيّة (المنهاج المكتوب) متناسبة مع خصائص الطلبة النمائيّة وآليّات تعلّمهم في كلّ مرحلة عمريّة، من حيث المحتوى الذي تتناوله ومقداره وطريقة عرضه... فينطلق المربّي من هذه المقرّرات بعمليّة بناء خبرات المنهاج المُنفَّذ (المنهاج الفعليّ التطبيقيّ) المُقدَّم للطلبة.
تحقيق كرامة المربّي الإنسانيّة وتقديره المعنويّ والمادّيّ
كلّ إنسان يُعطي بضمير ودافعيّة وصدق، ويستمرّ بالعطاء المتميّز، يحتاج، في المقابل، نيل الاحترام والتقدير المعنويّ، إلى جانب التقدير المادّيّ مطلبًا لاحقًا. فمهنة التعليم في واقعنا التربويّ الاجتماعيّ المُمارَس، ما زالت لا ترقى إلى التصنيف المهنيّ المنسجِم مع أهميّتها، محورًا رئيسًا لبناء المجتمع كلّه. فما زال المربّي، في معظم الحالات، يناضل من أجل الحصول على حقوقه المختلفة، مثل الاحترام والتقدير المجتمعيّ والتربويّ، وأهمّيّة دوره وحجم الجهود التي يبذلها في بناء الأجيال (القيمة الاجتماعيّة والثقافيّة لمهنة التعليم المتناسبة مع أهمّيّتها). الأمر الذي يترتّب عليه عدم إتاحة الفرص أمامه للتطوّر المهنيّ بمختلف أشكاله، وعدم منحه السلطة والثقة والمسؤوليّة اللازمة لإدارة صفّه وطلبته. بالإضافة إلى ذلك، لا يتقاضى المربّي الدخل الشهريّ المناسب الذي يُتيح له إمكانيّة العيش بكرامة، وفق المتطلّبات الاقتصاديّة في الدولة، فيضطر إلى العمل في مجال آخر بعد ساعات الدوام المدرسيّ، ما يُنهكه بدنيًّا وذهنيًّا ونفسيًّا، ويؤثِّر سلبًا في دوره مربيًّا فعّالًا، وفي حياته عامّةً.
* * *
حاول هذا المقال إلقاء الضوء على أبرز الأبعاد التي تشكِّل محاور مركزيّة لمساندة المربّي/ المعلّم وتمكينه من الخطوة الأولى، بعمليّة إعداده المهنيّ مربّيًّا خلال دراسته الجامعيّة، إلى مساندته خلال ممارسة مهنته في الميدان التربويّ، بمختلف مؤسّساته ومحاوره، آخذًا بعين الاعتبار المتطلّبات التربويّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والمادّيّة اللازمة، عواملَ جوهريّة مؤثّرة فيه.
نأمل أن نسعى معًا، بمختلف المستويات، إلى دعم المربّي، لزيادة كفاءته وفعّاليّة دوره بتربية الطلبة وتعليمهم. الأمر الذي يؤدّي في المحصّلة النهائيّة إلى النهوض بنوعيّة التربية والتعليم لأفراد المجتمع كلّه. وبالتالي، تحقيق مجتمع متكافل ومتكامل وناهض بمختلف أبعاده ومستوياته.