في خضمّ التحوّلات المتسارعة التي يشهدها عالمنا اليوم، تواجه المؤسّسات التعليميّة تحدّيات غير مسبوقة، تدفعها إلى إعادة النظر في أدوارها ووظائفها. فلم تعد المدرسة ذلك الفضاء المنعزل الذي يقتصر دوره على تلقين المعارف، وحشو الأذهان بالمعلومات، بل أصبحت مطالبةً أكثر من أيّ وقت مضى بتأدية دورها التربويّ بشكل شموليّ، يراعي متغيّرات العصر، ويلامس احتياجات المجتمع. وهنا يبرز التساؤل الأهمّ: كيف يمكن للمدرسة أن تعزّز من دورها التربويّ في ظلّ هذه المتغيّرات؟ وهل يمكنها أن تحقّق ذلك بمفردها، أم أنّ الأمر يتطلّب إعادة تعريف العلاقة مع الشريك الأساسيّ في العمليّة التعليميّة، ألا وهو أولياء أمور المتعلّمين؟
إعادة صياغة العلاقة بين المدرسة وأولياء الأمور: نحو شراكة حقيقيّة
تتطلّب الإجابة عن هذه التساؤلات إعادة صياغة العلاقة التقليديّة بين المدرسة وأولياء أمور المتعلّمين، والارتقاء بها من مجرّد متابعة سطحيّة، قوامها متابعة التحصيل الدراسيّ، أو المشاركة في أنشطة محدودة، إلى شراكة حقيقيّة ترتكز إلى الثقة المتبادلة والتعاون المثمر. إذ أثبتت العديد من الدراسات أنّ الشراكة الفاعلة بين المدرسة وأولياء الأمور، تحسّن من نتائج المتعلّمين الأكاديميّة والسلوكيّة (Epstein, 2011). فالمدرسة، مهما بلغت إمكاناتها، لن تحقّق النجاح المنشود في رسالتها التربويّة، من دون مساندة أولياء الأمور ودعمهم المستمرّ. ولن يتأتّى ذلك إلّا بخلق نموذج تشاركيّ، يعيد تعريف أدوار كلّ من المدرسة وأولياء الأمور، ويحوّل العلاقة بينهما من التلقّي السلبيّ إلى المشاركة الإيجابيّة الفاعلة.
التحدّيات أمام الشراكة الفاعلة
ولكن، ما السبيل لتفعيل هذا النموذج التشاركيّ؟ وهل يكفي مجرّد إنشاء مجالس أولياء الأمور، أو عقد اجتماعات دوريّة، من دون إحداث تغيير جذريّ في فلسفة الشراكة ذاتها؟ وهل يملك جميع أولياء الأمور الرغبة والقدرة على الانخراط في هذه الشراكة؟
هنا تحديدًا تكمن إحدى أهمّ العقبات، فبعض أولياء الأمور لا يواكبون تعلّم أبنائهم، ولا يدركون أهمّيّة دورهم في دعم العمليّة التعليميّة، فنجد أنّ زيارتهم إلى المدرسة تنحصر في تلك المناسبات الاضطراريّة، مثل مجالس التأديب التي تُعقد عند ارتكاب أبنائهم أخطاء جسيمة. يعكس هذا السلوك خللًا واضحًا في فهم دور أولياء الأمور، إذ يقتصر على ردّ الفعل السلبيّ على تصرّفات الأبناء، من دون أيّ محاولة استباقيّة لتوجيههم، أو دعمهم أكاديميًّا وسلوكيًّا. يؤكّد هذا على أنّ مجرّد الدعوة إلى المشاركة، من دون وجود برامج توعويّة تعرّف أولياء الأمور بأهمّيّة دورهم، وتزوّدهم بالأدوات اللازمة للمشاركة الفاعلة، لن تحقّق النتائج المرجوّة.
الأسس اللازمة لنجاح الشراكة
يرتكز نجاح أيّ نموذج للشراكة بين المدرسة وأولياء أمور المتعلّمين، إلى إيمان الطرفَين العميق بأهمّيّة التعاون وتضافر الجهود (الشوابكة، 2022). ولا يمكن أن يقتصر هذا التعاون على تبادل المعلومات أو مناقشة الجوانب الأكاديميّة فحسب، بل يجب أن يمتدّ ليشمل المشاركة الفاعلة في صياغة الرؤية التربويّة للمؤسّسة التعليميّة. فبدلًا من أن يكون أولياء الأمور مجرّد متلقّين للقرارات، يمكن إشراكهم في عمليّة التخطيط التربويّ بآليّات فعّالة، تضمن سماع صوتهم، وأخذ مقترحاتهم بعين الاعتبار.
لا شكّ أنّ نجاح هذه الشراكة يتطلّب أيضًا توفير الموارد اللازمة والدعم الكافي للمدارس. وهنا تبرز أهمّيّة زيادة الإنفاق على التعليم (الشوابكة، 2022). فبتخصيص ميزانيّات أكبر للقطاع التعليميّ، يمكن تحسين البنية التحتيّة للمدارس، وتوفير التجهيزات والموادّ التعليميّة الحديثة، وتقديم برامج تدريبيّة عالية المستوى للمعلّمين، ودعم الأنشطة اللامنهجيّة التي تعزّز مشاركة أولياء الأمور. فالاستثمار في التعليم استثمار في مستقبل الأجيال، ويتطلّب تضافر جهود جميع الأطراف، بما في ذلك الحكومات والمجتمع المدنيّ، لضمان توفير بيئة تعليميّة محفّزة، تحقّق أهداف الشراكة بين المدرسة وأولياء الأمور.
نحو نموذج تشاركيّ إبداعيّ: المشاريع المشتركة
هنا تتجلّى أهمّيّة الابتكار والإبداع في تصميم أشكال جديدة للشراكة، تتجاوز الأطر التقليديّة، وتحفّز أولياء الأمور على المشاركة بفاعليّة. فقد أكّدت العديد من التجارب نجاح المشاريع المشتركة بين المدرسة وأولياء الأمور، في تعزيز التواصل وتحسين نتائج المتعلّمين (Sanders, 2019). فماذا لو تبنّت المدرسة نموذجًا تشاركيًّا إبداعيًّا، يقوم على مبدأ المشاريع المشتركة بين المدرسة وأولياء الأمور والمتعلّمين، والتي تلامس احتياجات المجتمع المحلّيّ، وتسهم في تنميته؟
أفكار عمليّة لتعزيز الشراكة
لتفعيل هذه الشراكة على أرض الواقع، يمكن اعتماد مجموعة من المبادرات العمليّة التي تشجّع أولياء الأمور على المشاركة بفاعليّة، وتعزّز التعاون بينهم وبين المدرسة، لتحقيق مصلحة المتعلّم في المقام الأوّل. من بين هذه المبادرات:
1. تفعيل برامج المراقبة الأكاديميّة المنزليّة باستخدام التكنولوجيا.
تعدّ برامج المراقبة الأكاديميّة المنزليّة أداة فعّالة، لتعزيز التواصل بين المدرسة وأولياء الأمور، إذ تتيح لأولياء الأمور متابعة تقدّم أبنائهم بشكل مستمرّ (Sheldon & Jung, 2018). يمكن تحقيق ذلك باعتماد منصّات إلكترونيّة تربط المدرسة بأولياء الأمور، مثل إرسال تقارير دوريّة تبرز أداء المتعلّمين أكاديميًّا وسلوكيًّا، وتقدّم اقتراحات عمليّة لتطوير التعلّم في المنزل. استخدام مثل هذه الأدوات لا يعزّز فقط متابعة أولياء الأمور لأبنائهم، بل يساعدهم أيضًا في فهم نقاط القوّة والضعف لديهم، ويمكّنهم من تقديم الدعم اللازم في الوقت المناسب، لا سيّما للكشف المبكّر عن أيّ مشكلات سلوكيّة أو تربويّة.
2. تنظيم أيّام خاصّة بالتفاعل مع أولياء الأمور.
تسهم الأيام المفتوحة في بناء علاقات متينة بين المدرسة وأولياء الأمور، وذلك بإشراكهم في العمليّة التعليميّة (Epstein, 2011)، يمكن تنظيم أنشطة مثل "يوم تبادل الأدوار"، يسمح فيه لأولياء الأمور بتجربة التدريس، بينما يقدّم المتعلّمون ملاحظاتهم البنّاءة. يعزّز هذا النوع من الأنشطة فهم أولياء الأمور لطبيعة عمل المعلّمين، ويشجّعهم على تقدير جهودهم، كما يمنح المتعلّمين فرصة أكبر للتعبير عن آرائهم واقتراحاتهم لتحسين العمليّة التعليميّة. يسهم مثل هذه الفعّاليّات في بناء جسور التواصل، وتعزيز الثقة بين المدرسة وأولياء الأمور، ما يؤدّي إلى شراكة حقيقيّة، تخدم مصلحة المتعلّم في المقام الأوّل.
3. تنظيم مشاريع بيئيّة وثقافيّة.
يمكن تنظيم مشاريع بيئيّة وثقافيّة يشارك فيها جميع الأطراف (المدرسة والمتعلّمون، وأولياء الأمور)، مثل إنشاء حديقة عضويّة داخل المدرسة، أو تنظيم حملات توعية بيئيّة تستهدف المجتمع المحلّيّ. كما يمكن إطلاق مشاريع ثقافيّة تعزّز الهويّة الثقافيّة للمتعلّمين، مثل إنشاء مكتبة مجتمعيّة، يديرها أولياء الأمور والمتعلّمون معًا، أو تنظيم أمسيات ثقافيّة وفنّيّة تبرز مواهب المتعلّمين وإبداعاتهم، من دون تجاهل أهمّيّة المشاريع التطوّعيّة التي تنمّي روح العطاء لدى المتعلّمين، وتعزّز لديهم قيم التكافل الاجتماعيّ، مثل زيارة دور المسنّين، أو دعم الأسر المحتاجة.
4. تنظيم حملات مجتمعيّة خارج أسوار المدرسة.
يمكن للمدرسة، بالتعاون مع أولياء الأمور، تنظيم حملات مجتمعيّة تعود بالنفع على الحيّ أو الجوار. على سبيل المثال، يمكن إطلاق حملات للتشجير وتنظيف البيئة في الشوارع والأماكن العامّة، يشارك فيها المتعلّمون لخدمة المجتمع، تحت إشراف المعلّمين وأولياء الأمور. هذه الأنشطة تعزّز انتماء المتعلّمين إلى مجتمعهم المحلّيّ، وترسّخ قيم التعاون والمسؤوليّة لديهم، كما تظهر دور المدرسة في تنمية المحيط.
5. الزيارات المنزليّة.
لا ينبغي أن تقتصر الزيارات المنزليّة على الحالات الطارئة أو السلبيّة، بل يمكن اعتمادها وسيلة تواصل دوريّة مع أولياء الأمور، في بيئة مريحة لهم. تستهدف هذه الزيارات بشكل خاصّ أولياء الأمور الذين لا يستطيعون الحضور إلى المدرسة بانتظام، أو الذين يعاني أبناؤهم صعوبات أكاديميّة أو سلوكيّة، أو يتغيّبون كثيرًا عن الفصول الدراسيّة، بهدف بناء جسور الثقة مع الأسرة، وتحقيق فهم أعمق لظروف المتعلّم، وتقديم المشورة التربويّة للأهل، ومناقشة سبل دعم تعلّمه وتحسين تحصيله الدراسيّ. تعزّز هذه المبادرة التعاون بين المدرسة والأسرة، وتوفّر فرصة للكشف المبكّر عن أيّ تحدّيات من شأنها أن تؤثّر في مسيرة المتعلّم التعليميّة.
تحدّيات تطبيق النموذج التشاركيّ
لا شكّ أنّ تطبيق هذا النموذج التشاركيّ سيواجه بعض التحدّيات التي قد تعيق تحقيق أهدافه المرجوّة. ولعلّ من أبرز هذه التحدّيات، ثقافة المجتمع السائدة التي قد لا تشجّع على مشاركة أولياء الأمور بشكل فعّال، إذ ينظر البعض إلى العمليّة التعليميّة على أنّها مسؤوليّة المدرسة وحدها، من دون إدراك أهمّيّة الدور المحوريّ للأسرة في دعمها. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ غياب التشريعات المُلزمة التي تحدّد بوضوح أدوار كلّ طرف ومسؤوليّاته في العلاقة بين المدرسة وأولياء الأمور، يعدّ عائقًا رئيسًا؛ فعدم وجود إطار قانوني ينظّم هذه العلاقة، قد يؤدّي إلى ضعف الالتزام وسوء الفهم حول آليّات التعاون. ومن الجدير بالذكر أنّ هذه التحدّيات قد تختلف باختلاف السياقات الثقافيّة والاجتماعيّة، ما يستدعي دراسات معمّقة لفهم أبعادها بشكل أفضل.
التغلّب على التحدّيات: نحو شراكة مستدامة
للتغلّب على هذه التحدّيات، لا بدّ من التركيز على نشر الوعي بأهمّيّة الشراكة المستدامة بين المدرسة وأولياء الأمور، وذلك بإطلاق برامج توعويّة وورش عمل، تبرز فوائد هذا التعاون في تحسين التحصيل الدراسيّ، وتعزيز تطوّر المتعلّمين. كما يعدّ وضع تشريعات واضحة ومُلزمة، تنظّم العلاقة بين الطرفين، خطوة أساسيّة لضمان نجاح هذا النموذج التشاركيّ، وتحقيق انسجام أكبر بين المدرسة والأسرة، بما يخدم مصلحة المتعلّمين.
دور التكنولوجيا في تعزيز الشراكة
في ظلّ التطوّر التكنولوجيّ المتسارع، بات من الضروريّ استثمار الأدوات الرقميّة لتعزيز التواصل بين المدرسة وأولياء الأمور. فمنصّات التواصل التعليميّ يمكن أن تشكّل جسرًا حيويًّا للتواصل المستمرّ، وتتيح لأولياء الأمور متابعة تقدّم أبنائهم، والمشاركة في الأنشطة المدرسيّة بشكل فعّال (Epstein, 2011). لكن، هل ستنجح هذه الأدوات في خلق شراكة حقيقيّة، مع الإبقاء على فلسفة العلاقة بين المدرسة وأولياء الأمور كما هي، من دون تغيير جذريّ؟
***
في الختام، بناء شراكة حقيقيّة وفاعلة بين المدرسة وأولياء الأمور ليس مجرّد ترف أو خيار ثانويّ، بل ضرورة حتميّة لضمان نجاح العمليّة التربويّة، وتحقيق التنمية المستدامة. وإذا ما أردنا الارتقاء بمستوى التعليم في مجتمعاتنا، فلا بدّ من تبنّي نموذج تشاركيّ إبداعيّ، يعيد صياغة العلاقة بين المدرسة وأولياء الأمور، ويحوّل المدرسة إلى منارة للعلم والمعرفة، وحاضنة للإبداع والابتكار، وشريك فاعل في بناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة.
المراجع
- الشوابكة، تغريد. (2022). الإدارة المدرسيّة ودورها في الشراكة بين المدرسة والمجتمع المحلّيّ. عمّان: دار الخليج للنشر والتوزيع.
- Epstein, J. L. (2011). School, Family, and Community Partnerships: Preparing Educators and Improving Schools. (2nd ed.). Routledge.
- Sanders, M. G. (2019). Building school-community partnerships: Collaboration for student success. Corwin Press.
- Sheldon, S. B., & Jung, S. B. (2018). The family engagement partnership: Student outcome linked indicators. Johns Hopkins University, School of Education, Center on School, Family, and Community Partnerships.