غنيٌّ عن البيان أنّ تدريس الفلسفة في التعليم المدرسيّ هو تدريس لمادّة مثلَ بقيّة الموادّ الأخرى التي يُختبر المتعلّمون في مدى تملّكهم بعض المهارات والكفايات فيها طيلة السنوات الثلاث في المرحلة الثانويّة التأهيليّة. لذلك، فالفلسفة التي نراهن عليها ليست بالمعنى الأكاديميّ والعلميّ الخالص؛ أي التيّارات والمدارس الفكريّة في تاريخ الفلسفة وتفاصيلها، بقدر ما أنها تروم – في التعليم المدرسيّ - تمكين المتعلّم من بعض الخصائص العامّة للفكر الفلسفيّ (النقد، والتحليل، والحِجاج ... إلخ) في قراءة بعض النصوص الفلسفيّة، والثقافيّة، والسوسيو-ثقافيّة، الملائمة للنموّ العقليّ الوجدانيّ للمتعلّم.
يبحث هذا المقال في تساؤلات: لماذا لا ننتبه إلى أنّ تدريس الفلسفة في التعليم المدرسيّ هو مادّة تعليميّة مدرسيّة مثل بقيّة المواد الأخرى؟ كيف نفسّر أنّ مهمّة تدريس الفلسفة هي تهيئة المتعلّم ليكون مواطنًا ناقدًا مسؤولًا؟ إلى أيّ حدّ يمكننا القول إنّ تدريس الفلسفة هو تدريس للمهارات؟ ما هي مؤشّرات تدريس الفلسفة ومستنداته؟ هل هذا يجعلنا، مرّة أخرى، أمام وضع مقلق بين دور المتفلسف ودور البيداغوجيّ؟
يبدو أنَّ التفكير في تدريس الفلسفة لا يمكن بصورة حرّة أو مطلقة من دون شروط أو نصوص منظِّمة؛ يتعيّن على مدرّس هذه المادّة أن يطّلعَ على هذه النصوص سواءً تعلّق الأمر بمنهجيّة تدريسها (المفهمة –الأشكلة – الحِجاج، كما سنوضح لاحقًا) أو تقويمها وفق مستويات مرحلة البكالوريا. من ثمّ، فدرس الفلسفة في التعليم الثانويّ هو درس في البيداغوجيا أيضًا، بخلاف المستوى الجامعيّ حيث يكون في الأفكار والنظريّات والتيّارات؛ فلكلّ مستوًى غاياته وأهدافه.
أولًا: التفاعل البيداغوجيّ والديداكتيكيّ في درس الفلسفة
التربية هي نقل القيم الأخلاقيّة والدينيّة والاجتماعيّة إلى الأجيال اللاحقة (روبول، 1994)؛ بغية تكوين حصانةٍ ضدّ من أراد أن يكسّر بنياتها ونُظمها، وقد تكون التربية بالمعنى الأكثر فاعليّة تحرير الإنسان مما يمنعه من تحقيق ذاته (الشرقي، 2017). ومما يفيدُ مدرّس الفلسفة في التعليم المدرسيّ أنّه يعي طبيعة العادات والتقاليد المقيّدة للفرد والمتعلّم، ويحتاج نقده لهذه العادات إلى تمكين المتعلّمين من معرفةٍ بانوراميّة بمفهوميّ الثقافة والطبيعة؛ ما قد يمنعهم من تبنّي أحكام جاهزة في المجالات الثقافيّة والاجتماعيّة والدينيّة. كما يحتاج المدرّس إلى توعية المتعلّمين بأنّ تاريخ الإنسانيّة هو تاريخ اختلاف المعتقدات والأفكار والطبائع أيضًا؛ وهذا ما يجعله يمارس النقد والتحليل بمعيّة الطلّاب. لكنّ دوره يكون دورًا توجيهيًّا وإرشاديًّا للنقاش الذي تثيره التساؤلات والإشكالات المتعلّقة بالنقد. بهذا، يكون المدرّس قد حقّق ماهيّة الفلسفة التي هي المساءلة والإحراج الإشكاليّ Aporétique من دون أن يفقده ذلك خبرته البيداغوجيّة والتربويّة في تحيين القضايا وتذليلها للمتعلّمين.
ليس من المفيد أن تبقى الفلسفة خارج المؤسّسة، بل يتعيّن أن تتيح المؤسّسة التربويّة والسياسيّة فرصة ممارسة الفهم والتأويل والقراءة لنصوص فلسفيّة من مختلف الحضارات العربيّة والإسلاميّة والوسيطة والحديثة والمعاصرة. إنّها فرصةٌ لمحاولة مواجهة النصّ وتدارسه مع المتعلّم، وكذلك تجريب قدرة المدرّس على نقل المعرفة العالمة le savoir savant إلى المعرفة المدرسيّة le savoir scolaire؛ وهذا ما يسمّى النقل الديداكتيكيّ transposition didactique (جونايير وبورخت. 2011). فهل تفقد الفلسفة في هذا الوضع التعليميّ التعلّميّ (بشقّيه البيداغوجيّ والتربويّ) روحها النقديّة؟
ثانيًا: من السؤال الأيديولوجيّ إلى منطق التعلّمات
سوف نجيب عن التساؤل الأخير على مستويين: يتمثّل المستوى الأوّل في أنّ علاقة الفلسفة بالبيداغوجيا والتدريسيّة علاقة تاريخيّة. ولعلّ النموذج الأمثل في هذا السياق هو سقراط والسفسطائيّون؛ فكلاهما كان يعمل على تطوير الإشكاليّة أو الفكرة بأسلوبين مختلفين، وكلاهما يفيد المستمع والمخاطَب في تمثّل الأفكار والتصوّرات، رغم أنّ الخلفيّة الثانويّة وراء هذين الأسلوبين التدريسيّين تحمل رؤيةً مذهبيّةً قد تبدو لنا متضادّةً؛ أي نسبيّةً في الحقائق وثبوتها. لكنّ المفارقة هي أن تتّسم الفكرة بالموثوقيّة والمعقوليّة، بينما يفتقد صاحبها للأسلوب، وهذا ما يشبه الدفاع الفاشل عن قضيّة عادلة.
إنّ البيداغوجيا والتلقين ونقل المعارف من المتكلّم إلى المستمع قد لا يكون عائقًا أمام تصريف الأفكار والدفاع عنها. ومن ثمّ، فتدريس الفلسفة بطرق بيداغوجيّة معينة قد لا يفقد روح النقد لدى الفلسفة، بل تكاد تكون المشكلة الحقيقيّة هي عمليّة النقل الديداكتيكيّ للمعلومات والمكتسبات العلميّة والفكريّة والإبداعيّة، وإلّا سنكون مثل من يتّهم المرآة، ويتغافل عن اتّهام نفسه!
أما المستوى الثاني فيتعلق بأنّ تدريس الفلسفة في الكتاب المدرسيّ يحصرها في بعض المفاهيم والتفاصيل التي قد لا تكون ملائمةً لتطوّر المجتمع العربيّ وآفاقه، بل قد تكون الفلسفة في بعض الدول العربيّة غارقةً في الأيديولوجيا، كأنها تحوّلت إلى خدمة أجندات معيّنة، مع أنّ منطق الفلسفة هو غير منطق الأيديولوجيا. فضلًا عن ذلك، فإنّ بعض الممارسات المهنيّة تكون وفيّةً لرؤيتها السياسيّة والأيديولوجيّة في عمليّة بناء الدرس الفلسفيّ داخل الصفّ.
تدريس الفلسفة مدرسيًّا في المغرب
لا بدّ من التنبيه إلى أنّ تدريس الفلسفة في التعليم المدرسيّ قد مرّ بتحوّلات كبيرة، كان فيما سبق للأيديولوجيّ الدور الأساسيّ في قراءة النصوص الفلسفيّة والتراث العربيّ بصورة مباشرة، حتى صار درسُ الفلسفة درسًا في الأيديولوجيا. من جهة الهندسة البيداغوجيّة، يمكن القول إنّ البرنامج السائد حينها هو التدريس بالمضامين والمحتويات، والاستناد إلى آليّات التحفيز وشحذ الهمم والتأثير المباشر في المخاطَب. أمّا اليوم، فقد أضحى برنامج تدريس الفلسفة في التعليم المدرسيّ المغربيّ هو التدريس بالمفاهيم والتفاصيل، ليكون الغرض هو تمكين المتعلّم من قدرات وكفايات ومهارات يعمل على استرجاعها. في المجمل، هل تعود الفرادة في إنتاج النصوص الفلسفيّة التأسيسيّة إلى الطرق البيداغوجيّة والتعلّميّة؟
يحتاج هذا السؤال إلى تأملٍ آخرَ للإجابة عنه وفق المقارنات الدقيقة بين الكتب المدرسية والمقرّرات المعتمدة في التعليم المدرسي، وكذلك رصد النظريات البيداغوجيّة التي كانت تعين على تصريف الدرس الفلسفيّ. لقد أسهمت الثقافة المغربيّة، مثلًا، في إنتاج نصوص فلسفيّة تأسيسيّة مع محمد عزيز لحبابي ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي. هنا أيضًا نقف عند مفارقة نعبّر عنها بالسؤالين التاليين: لماذا أنتجت لنا الفلسفة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي فكرًا فلسفيًّا وتنظيرًا أيديولوجيًّا كبيرًا في غياب الهواجس البيداغوجيّة والتدريسيّة؟ ولماذا يكاد يغيب ذلك النوع من الإنتاج الفلسفيّ في ظل العدّة البيداغوجيّة الضخمة؟
كأنّنا هنا لا نكاد نخرج من مفارقة، إلّا ونقع في أخرى. لا بدّ من الاعتراف أنّ لغة التعميم الأيديولوجيّ والتقسيمات البسيطة للأفكار والتصوّرات لم تعد لها مكانة في ثقافتنا اليوم، ولا سيّما أنّ الفكر الفلسفيّ لم يعد كما كان سابقًا، بل صار فكرًا متداخل الأبعاد والوظائف؛ إنّه فكرٌ مركبٌ ما يجعل البيداغوجيا أيضًا يساوقه طبيعته في إنتاج فكر مركّب متعدّد الأبعاد، كما يقول إدغار موران (2014). إذا كان للأيديولوجيا منطق حفظ الهويّة والتماسك خشية التناقض والتصدّع، لأنَّ ذلك يفضي إلى موتها وانهيارها، فإنّ منطق الفلسفة اليوم لا يهاب التناقض أو وجود المتضادات فيها، بل إنّ حملها هذه السمات هو المحرّك الرئيس لإبداعيّتها واستمراريّتها. وبهذا، فالخوف كلّ الخوف من أن تتحوّل الفلسفة إلى أيديولوجيا.
إنّ الاطّلاع على بنية الكتب المدرسيّة لمادّة الفلسفة في المغرب، على سبيل المثال لا الحصر، يجعلنا نستنتج أن مؤشّرات وجود الفكر الناقد بارزة ضمنها، وتظهر في صورة المتعلّم، الذي أضحى الفاعل الحقيقيّ في بناء الدرس. فالمدرّس لم يعد كما كان في سياق بيداغوجيا تهدف إلى تفكيك سلوكاته التعلّميّة إلى أجزاء، وتقييمها بصورة آليّة ميكانيكيّة، بل صار المتعلّم الهدف الأساسيّ في العمليّة التعليميّة – التعلّميّة، بوساطة عمليّات التفاعل البيداغوجيّ والتعلّميّ مع المدرّس، فضلًا عن التركيز على المهارات والكفايات النوعيّة: الاستراتيجيّة والثقافيّة والتواصليّة والمنهجيّة، التي تدفع المتعلّم إلى التحلّي بالوعي النقديّ، والقيام بالواجب، وتحمّل المسؤوليّة، والتخليّ عن السلبيّة والاتّباع والتفكير الخرافيّ.
مثلّث الروح النقديّة: الأشكلة والمفهمة والحِجاج
لا يخفى دور الجانب الديدياكيتكيّ في شحذ تلك الروح النقديّة المتمثلّة في مثلث ميشيل طوزي (2018): الأشكلة Problématisation التي تسعى إلى وضع المتعلّم في وضع محرج ومفارق يحفزّه على استدعاء موارده المعرفيّة المكتسبة لحلّ هذه الوضعيّة سواءً أكانت عمليّة أم نظريّة. والمفهمة Conceptualisation التي يُطلب من المتعلّم أن يرصد تحوّلات المفاهيم في النصّ الفلسفيّ ودورها في تشكّل ما يسمّى السند Support. ومن ثمّ، فالأشكلة لم يكن لها طريق الحلّ إلّا عن طريق الترصّد المفاهيميّ، ودوره في السياقات المختلفة في إنشاء هذه الفلسفة التي هي محلّ القراءة والتعقّل والنقد للفلسفات الأخرى بصورة ظاهرة أو خفيّة. أما الحِجاج Argumentation فيعدّ مرحلةً أساسيّة في عمليّة قراءة النصّ الفلسفيّ قراءةً منظّمة، تدفع المتعلّم إلى كشف الاستراتيجيّات اللغويّة والبلاغيّة والمنطقيّة التي كانت وراء تمرير هذا الموقف أو ذاك، وهذه الأطروحة أو تلك. فأيّ دعوى بالمعنى المنطقيّ لا بدّ لها من براهين وحجج لترسيخها في نفس المستمع. لذلك، على المدرّس أن يدفع المتعلّم إلى التفطّن إلى هذه المهارة في إنشاء التصوّرات والمعارف. والأهمّ في هذا السياق أنّ الحجاج الفلسفيّ محلّ الممكن والاحتمال، لا محل الضرورة والمطلق.
بناءً عليه، فإنّ مؤشرات النقد، ولواحقه كالشكّ والمراجعة والتشريح، لم تكن غائبةً عن المقرّرات الدراسيّة بصورة مطلقة، بل إنّ بيداغوجيا حلّ المشكلات والفارقيّة من البيداغوجيّات الحديثة التي تمنح المتعلّم فرصة التعبير عن رأيه ووجهة نظره، والإحساس بالاستقلال الذاتيّ، وبناء مشاريعه الشخصيّة. ومن المؤكد أنّ فرصة مواجهة المتعلّم بمعيّة مدرّسه لنصوص فلاسفة مثل Descartes، وKant ، و Husserl، وابن رشد، تمنحه أيضًا قدرات على التحليل والتركيب والتأويل والتقييم وفق المنطق الثلاثيّ: الأشكلة والمفهمة والحِجاج.
خلاصة
أعتقد أنّ الصراع بين المدافعين عن بيداغوجيا خاصّة بالدرس الفلسفيّ وبين المناصرين لفكرة استفادة مادّة الفلسفة - كمادّة مدرسيّة - من علوم التربية، لم يعد يثير الاهتمام اليوم؛ لأنّ الفكر أضحى مركّبًا ومتعدّد الأبعاد والوظائف. ومن ثمّ، هل الفلسفة تحتاج إلى بيداغوجيا وخطاب خاصّ بمنهجيّة التدريس؟ إنه سؤالٌ أيديولوجيّ في جوهره. تتعلّق المسألة برصد أسباب تراجع التفكير الناقد ومؤشّراته في التعليم المدرسيّ؛ ذلك التفكير الذي يغذّيه تدريس الفلسفة بالدرجة الأولى. حينما يقرأ المتعلّم نصوص رينيه ديكارت، وابن رشد، و"شذرات" فريدريك نيتشه، ورسالة في التسامح لجون لوك في الصفّ الدراسيّ، فإنّه يعيش لحظات تنويريّة وعقلانيّة يتفاعل فيها مع المدرّس وزملائه بالسؤال والاستفسار وإبداء الرأي، بيد أنّ المفارقات تظهر حينما يصطدم هذا المتعلّم مع واقع لاعقلانّي، حيث الكلمة العليا فيه للفردانيّة المنحطّة والمنفعة اللّامشروعة. نفكّر أحيانًا بمنطق الانقلاب على القيم والأخلاق والعقل في سياق تعامله مع الآخرين وأسرنا وأصدقائنا. إنّه منطق أضحى هو القاعدة، بينما الالتزام بحقوق الأفراد والجماعات والدفاع عن إنسانيّة الإنسان صار هو الطارئ. لعلّ ما ندرسه في الفلسفة في حجرات الدرس بتقنيّات تدريسيّة رفيعة، وبيداغوجيا مثاليّة قد يسهم في خلق هذا النوع من المفارقات في وجدان المتعلّم، وقد يكون المدرّس السبب الرئيس في عرقلة ممارسة النقد وآليّاته، بفعله المعرفيّ وطريقة إدارته للدرس وتخطيطه وتعامله مع المتعلّمين.
المراجع:
- جونايير، فيليب؛ وبورخت، سيسيل. التكوين الديداكتيكي للمدرسين: التدريس بالكفايات من خلال خلق شروط التعلّم. ترجمة عبد الكريم غريب وعز الدين الخطابي. مطبعة النجاح الجديدة.
- روبول، أوليفييه (1994). فلسفة التربية. ترجمة عبد الكبير معروفي. دار توبقال.
- الشرقي، محمد (2017). البيداغوجيا: مفهوم، تاريخ ومقاربات (دراسة تركيبية). فضاء آدم.
- طوزي، ميشيل (2018). المقاربة بالكفايات في تدؤيس الفلسفة. ترجمة عزالدين الخطابي. مؤمنون بلا حدود.
- Morin, E. (2014). Introduction à la pensée complexe. Essais.