تقع مدرسة جزّين الابتدائيّة الرسميّة في بلدة جزّين في جنوب لبنان، على ارتفاع حوالي الـ 1000م عن سطح البحر، وتضمّ 28 معلّمة. وهي مدرسة ذات بيئة تعلّميّة مرحِّبة يقصدها متعلّموها من كلّ القضاء. وهي أيضًا دامجة بشكلٍ كلّي أو جزئيّ مع مؤسّسة "سيزوبِل"، إذ تستقبل ذوي الصعوبات التعلّميّة والاحتياجات الخاصّة.
وكنّا نعمل في مدرستنا على تحسين جودة التعليم، وتطوير تعلّم الطلّاب للّغة العربيّة في المدرسة، وعلى تفعيل التواصل والتنسيق بين الأخصّائيّين والأهل ورفع مستوى الوعي والمشاركة عند المجتمع المدرسيّ. كلّ ذلك لبناء شخصيّة مواطن مثقّف، وطموح، ومسؤول، ومتعاون ومنتمٍ إلى وطنه... ثمّ جاءت الجائحة.
ألقت جائحة كورونا بظلالها على قطاع التعليم، فأجبرت المدارس والمؤسّسات التربويّة على إغلاق أبوابها في محاولةٍ للتخفيف من انتشار الفيروس. ودفع القلق لدى الحكومات وأفراد الهيئات التعليميّة وأولياء الأمور بالتعلّم الإلكترونيّ نحو الواجهة، فغدا خيارًا لا بديل عنه.
في عين العاصفة بلا إنذار
وفي لبنان، شعر المعلّمون منذ اللحظات الأولى بثقل التحدّيات التي سيواجهونها لمواكبة هذا التحوّل المفاجئ، ولا سيّما أنّنا نعيش في دولة ذات إمكانیّات ضعیفة من جهة البنى التحتیّة للإنترنت. كما أنّ الأجهزة والوسائل اللازمة لمتابعة عملیّة التعلّم عن بعد لا تتوافر في المدارس الرسميّة، ولا يملك الكثير من المعلّمين والمعلّمات المعرفة التقنيّة اللازمة لخوض هذا المجال. إضافة إلى تحدّیات أخرى في المجالات التعلیمیّة التطبیقیّة؛ فاختيار الوسائل التعليميّة شكّل تحدّيًا أساسيًا في التصميم التعليميّ الإلكترونيّ، ولا سيّما مع الحاجة الماسّة إلى توظيف التعلّم التفاعليّ الذي يزيد من انتباه المتعلّمين بإشراكهم المباشر كمساهمين لا كمتلقّين، الأمر الذي يضاعف عامل التحفيز ويحقّق نتائج أفضل.
كانت العوائق جمّة، خصوصًا أمام مدرسة رسميّة ابتدائيّة صغيرة كمدرستنا، حيث خضنا تجربة مشوّقة مع هذا التحدّي الكبير. كنّا ممّن استشعر أهمّيّة الالتحاق بركب موجة التعليم عن بعد من مختلف جوانبه: المفهوم، والدور، والأدوات، والأشكال المختلفة. فتعلّمناه واستخدمناه بإتقان وتميّز، وعملنا على الاستفادة منه واستخدام الوسائل المُتاحة المطلوبة والمحدودة لإيصال الخدمة، مع توصیات تشدّد على المضيّ قدمًا بسیاساتنا التربویّة وتصوّراتنا الخاصّة، من حيث تغطية الاحتياجات المختلفة، وتجهيز "تركيبة" من الموادّ التعليميّة مع مراعاة تنوّع أنماط التعلّم التي هي جزء من عناصر التخطيط لعمليّة تعليميّة عادلة وناجحة.
وهنا لا بدّ من ذكر أنّ هذا التوجّه سابق للجائحة، وهو يشكّل مبادرة من إدارة المدرسة ومعلّماتها لتطوير التعليم في مدرسة رسميّة تتعرّض للتهميش بفعل سياسات وواقع وظروف صعبة، تجعل ما هو "طبيعيّ" في مدارس خاصّة تحدّيًا وإنجازًا بالنسبة إلينا؛ من هنا، انخرطت مدرستنا في مبادرات تطوير تعلّميّة طوعيّة قبل الجائحة، وعملت على تطوير الكادر البشريّ، وتأمين الوسائل والظروف وأدوات التكنولوجيا للمتعلّمين عبر جمعيّات داعمة ومصادر متعدّدة ومبادرات فرديّة. كلّ ذلك انطلاقًا من مبدأ أنّ التعليم الجيّد المتطوّر حقّ لجميع المتعلّمين، أيًّا تكن ظروفهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والمكانيّة.
هبطت الجائحة والإغلاق ضيفين ثقيلين، أوقفا كلّ مبادراتنا التطويريّة، وفرضا واقعًا يجب التعامل معه؛ صرنا خليّة نحلٍ تعمل من أجل إنجاح عمليّة التعلّم عبر: تحديد الأهداف القابلة للتحقّق، ورصد الموارد، ووضع الخطط وتنفيذها. خضعت المعلّمات لدورات تدريبيّة خلال شهرٍ واحد لتطوير مهاراتهنّ التعليميّة في استخدام الحاسوب، وتحضير الدروس، وحسن اختيار المتوفّر على شبكة الإنترنت من البرامج والتطبيقات التي تسمح بتحقيق تفاعل المتعلّمين في العمليّة التعليميّة، بشكلٍ إفراديّ أو كمجموعات.
وكان علينا أن نراعي ظروف الطرف الآخر في العمليّة التعليميّة: المتعلّمين وأوضاعهم الاجتماعيّة وقدرات ذويهم المادّيّة؛ إذ لا ننسى أنّنا في خضمّ أزمة اقتصاديّة كبيرة، والأهل قد يقعون في الاختيار بين تكبير باقات الإنترنت أو شراء مواد غذائيّة. كما أنّ الكثير منهم لا يملكون حواسيب في المنزل، وسيضطرّون إلى حضور الصفوف عبر الهواتف... وماذا لو كان للوالدة أكثر من تلميذ في المدرسة، وهاتف واحد في البيت؟!
كلمة السرّ كانت "التخطيط الجيّد" لنختار الأفضل الذي يمكن أن يهضمه المتلقّي على كلّ الصُعد. فاخترنا الوسيلة المناسبة لكلّ هدفٍ تعليميّ، ونبشنا اليوتيوب بحثًا عن فيديوهات وأغانٍ تساعد على شرح الدروس، وحضّرنا عروض باور بوينت، وسجّلنا أصواتنا، ومسحنا الكتب ضوئيّا... فعلنا كلّ ما فعلته المدارس الأخرى... إنّما بجهد مضاعف، وقلق دائم من ألّا يقدر المتعلّمون على تلقّي ما نرسل إليهم لأسباب خارجة عن إرادتنا جميعًا.
انتهت الجائحة، فماذا نفعل؟
أمّا اليوم، وبعد الجائحة والعودة إلى التدريس الحضوريّ، فإنّ قرارنا هو أن نستفيد من تلك التجربة والمهارات والاستراتيجيّات الجديدة التي اكتسبناها لتطوير عمليّة التعليم، اعتمادًا على ما صار بين أيدينا من موارد خارجيّة وأخرى قمنا بتحضيرها بأنفسنا، وعلى قدرات متعلّمينا الاقتصاديّة-الاجتماعيّة على التفاعل والتواصل الرقميّ. وهذا القرار يعود إلى واقعين ملحوظين بالممارسة:
الأوّل مرتبط بمتعلّم ما بعد فترة الحجر. فقد لاحظنا أنّ الانقطاع عن الحضور الوجاهي والتواصل الإلكترونيّ حدّا بشكل ملحوظ من قدرة المتعلّم العائد إلى المدرسة على الاستيعاب والتركيز لمدّة أطول، وعلى الجلوس في الصفّ، وخفّفا من حافزيّته على التعلّم. ناهيك عن تراجع قدرات المتعلّم في الأمور التقليديّة كالكتابة والتحكّم بحركة اليدين، والتنسيق بين العين واليد وغير ذلك. كلّ هذا حتّم الاستعانة بأشكال التعليم وتقنيّاته التي استعملناها خلال فترة الحجر، والتي نوّعت في أساليب مقاربة المتعلّم ومخاطبة أنواع وعيه وذكاءاته.
أمّا الواقع الثاني فجاء نتيجة طبيعيّة لمسار بدأنا فيه في المدرسة: مسار تطوير المدرسة كإدارة، والمعلّمات كأداء، والمتعلّمين كرفاه وتعلّم. لهذا الأمر انخرطت المدرسة بقرارات ذاتيّة في أكثر من مبادرة تطويريّة مع مؤسّسات وجمعيّات مختلفة. وبعد التطوير القسريّ لاستعمال التكنولوجيا -بالأشكال البسيطة التي أتيحت لنا أوّلًا، وصولًا إلى الأشكال الأكثر تعقيدًا- عاد المتعلّمون إلى الصفّ، فكان السؤال: ماذا نفعل بما جمّعناه وحضّرناه، وبالتجربة التي راكمناها؟ لم يكن الوصول إلى القرار صعبًا.
وها نحن اليوم، وبعد إجراء التقييمات اللازمة لتقدير الفجوات التعليميّة، وإعداد برامج تعليميّة تعويضيّة، نستفيد من المخطّط التعليميّ إبّان الجائحة، ومن مخزون الأنشطة الرقميّة المحضّرة كالأنشطة وشرح الدروس والفيديوهات، والأغاني المصوّرة، وتسجيل أصواتنا على العروض، واللوحات التعليميّة المنسوخة والمزوّدة بتعليقات تُحيل إلى الكتب المدرسيّة. إضافة إلى تحويل الكتب بذاتها نسخًا إلكترونيّة مجزّأة وموضّحة، نعمل فيها في الصفوف كونها طريقة مرنة تفاعليّة بعيدة عن التلقين، أو نرسلها إلى البيت ليشارك الأهل أبناءهم في العمل عليها بحسب المطلوب.
أمّا في مجال التقييم، فقد نوّعنا أشكال التقييم ووضعيّاته، اعتمادًا على الأساليب التي لجأنا إليها خلال الحجر، وكانت نتائجها مفيدة وواقعيّة ويمكن البناء عليها لرصد تطوّر المتعلّمين في اكتسابهم المهارات وتمكّنهم منها. والجدير بالذكر أنّ هذه المقاربة للتقييم خفّفت الى حدّ كبير من رهبة الامتحان لدى المتعلّمين، وخفّفت من الشعور بالخوف أو القلق، وجعلت الاختبارات "المخيفة" سلسةً ومألوفةً.
من ناحية أخرى، تسهم الوسائل التكنولوجيّة في اندماج ذوي الصعوبات التعلّميّة ومتعلّمي الروضات في عمليّة التعلّم، من خلال التعلّم السمعيّ عبر التسجيلات الصوتيّة مصحوبةً بصور ورسومات للنمط البصريّ في البيت. وهذا الأمر سمح لنا بالتركيز خلال ساعات حضورهم المدرسيّة على النمط الحسّيّ، من خلال نشاطات: قصّ، لصق، استعمال البطاقات... لتثبيت المعلومات لديهم، وتطوير مهاراتهم الحسّيّة-الحركيّة لضمان تحقّق التعلّم والمعرفة.
***
فترة ما بعد كورونا أثبتت أن لا عودة إلى ما قبلها، فقد أسهمت في إنجاز عملٍ متقنٍ للمعلّم، وفي تقديم شرحٍ أكثر وضوحًا للمتعلّم ودخول التكنولوجيا إلى كلّ بيت ولو بنسب متفاوتة بحسب الظروف.
والمطلوب من الهيئة التعليميّة لأيّ مؤسّسة تربويّة، المثابرةُ في الاجتهاد واغتنام هذه الفرصة (كانت مأساويّة على المستوى الصحّيّ - الاقتصاديّ، لكنّها جدليّة بالنسبة إلى المستوى التربويّ)، لإيجاد سبل جديدة لمواجهة أزمة التعليم والتعلّم ووضع مجموعة من الحلول المستدامة. ولا بدّ لهذه الهيئات من الالتزام، ودعم المهارات الفرديّة، والتفاعل الإيجابيّ مع المتغيّرات انطلاقًا من التجارب كلّها، وأخذ العبر من السلبيّة منها.
وأخيرًا، ربّما لم تكن تجربتنا فريدة في إنتاجاتها، وعلى الأغلب كانت لمدارس ومؤسّسات كبيرة إسهامات وتدخّلات أكبر وأكثر شموليّة. لكنّنا فخورون بما أنجزناه باللحم الحيّ، وبلا دعم استثنائيّ، وبميزانيّات شبه معدومة، إنّما بضمير حيّ وعزيمة "مناضلة" برغم الموارد الضئيلة بين أيدينا، معلّمين ومتعلّمين على السواء. انطلقنا، ونستمرّ، من إيماننا بهذه الرسالة السامية، ومن أملنا بأجيال الغد لإعادة بناء وطن لا يتركنا وحيدين في مواجهة العواصف.