قادتني قراءات د. منير فاشة الأسبوعيّة للبحث عن المزيد من كتاباته، فقرأت إحدى تأمّلاته لمجاورة مع نساء من منطقة النزهة في عمّان، نساء "أمّيّات" كما تصنّفهنّ مؤسّسة التعليم الرسميّة، لكنّهنّ "أديبات" كما وصفهنّ منير، "أديبات يجسّدن إنسانيّةً خارج إملاءات السوق وعالم الاستهلاك" (فاشة، 2019)، فتساءلت مجدّدًا عن ماهيّة التصنيفات والتركيبات التي وضعناها، ونضعها كلّ يوم، في مؤسّساتنا التعليميّة لنحدّد شكل المعرفة، ومن ينتجها، ومن يستهلكها، ومن هم "أصحاب الحقّ والامتياز".
اعتقدت لمدّة طويلة من تعلّمي وعملي في منظّمات المجتمع المدنيّ في العالم العربيّ أنّ من أسوأ الثنائيّات، وأكثرها ضررًا وأذىً على الطفل العربيّ ثنائيّةَ التعليم العامّ والخاصّ، وما بينهما من فروق، وما يحمله الأوّل من ثغرات وعلل، والثاني من امتيازات، إلّا إنّني اليومَ أجد العلّة في كليهما، فمع اختلاف المظلّة التي ينتمي لها كلّ طرف، إنّ كليهما يتبع تصنيفات ولوائح وقياسات تؤطّر التعلّم، وتحدّد مفاهيم ومعايير النجاح والفشل، والامتياز والاعتياديّة، والصواب والخطأ، والمقبول والمرفوض، وغيرها من الثنائيّات التي نتّبعها في تشكيل مستقبلنا، ومستقبل الأجيال القادمة على أرضنا.
أتوقّف اليوم من جديد، وأتساءل: ما هي المعرفة؟ ومن يقرّر ماهيّتها؟ وما هي الحروف التي تخطّها والمعايير التي تحكم رصانتها؟ ما هو التعليم؟ وما هو التعلّم؟ فبدأت أدرك الأمر على صورة مختلفة:
- التعلّم مرتبط بالقلب، لا بالعقل فقط.
- التعلّم مرتبط بخبرات شخصيّة وحكايات، لا بمقرّرات وامتحانات. فالمعرفة وعمقها مرتبطان بتكوين المعاني، والبحث عنها باستمرار، لا تلقيها وحفظها على صورة تعريفات جاهزة.
- المعرفة لا تُشكّل بالأحرف التي تكتب بها، بل بالقلب وبالقصّة التي تنبع منها، والخبرة، والحكاية؛ فهذا ما يجعلها حيّةً ذات معنىً، فالحروف، من أيّ لغة كانت، لا تحكي المعرفة ولا تحيكها، لكن هذا فعل ما يغلّفها من معان وتجارب وخبرات.
- لتكون المعرفة ذات معنىً، لا بدّ أن تحرّرنا من قيد ما، أو تقودنا نحو تغيير، سواءً أكان تغييرًا فكريًّا أو نفسيًّا أو جسديًّا، فرديًّا أو جماعيًّا. لا بدّ أن يكون للمعرفة أثر، أثر يمتدّ خارج أسوار الصفوف والمؤسّسات، خارج إطار النظريّات والمقرّرات.
وجدت في كتابات فاشة وRodriguez دعوةً للتفكّر، والتأمّل في المصطلحات والممارسات والعلاقات، تلك التي طالما عددناها "نموذجيّة"، سواءً في التعليم أو البحث أو حتّى التفكير. قمت بمراجعة شريط البرامج والأبحاث التي شاركت في صياغة أهدافها وتنفيذها وتقييمها، متسائلةً:
- - من "الباحث" و"المبحوث"؟ وما العلاقة بينهما؟
- - من "المعلّم" و"المتعلّم"؟ وما العلاقة بينهما؟
- - من "المنظّم" و"المستفيد"؟ وما العلاقة بينهما؟
- - من المواطن واللاجئ؟ ومن هم الأهل والأهالي؟ وما العلاقة بينهما؟
- - من هي المجتمعات ذو الامتياز والمجتمعات المهمّشة؟ وما العلاقة بينهما؟
- - وما معنى الحكمة والقيمة والعافية في عيشنا وتعلّمنا؟
ننغمس في تصنيفات وثنائيّات وتعريفات عديدة في عملنا أو تعلّمنا: فقير وغنيّ، نام ومتقدّم، متعلّم وأمّي، مهمّش وذو امتياز، مواطن ولاجئ... والكثير غيرها. ثنائيّات تضع كلًّا منّا في طرف مقابل الآخر بدلًا من أن يكون بجواره، في ثنائيّات تحكم فكرنا وأفكارنا، ومن ثمّ عملنا وتعلّمنا، وفي المحصّلة تسلبنا هذه الثنائيّات العيش بعافية؛ فقد نكون اليوم أصحّاء، لكنّنا لا نعيش بعافية، وقد نفهم ما نقرأ ونكتب، لكنّنا لا نعي المعنى.
هكذا بدأت أعيد التفكير في عدّة أمور، وخرجت بعدد من القناعات:
- - أهمّيّة العمل النابع من قوّة الآخر والعمل معه بعكس العمل المرتكز على ضعف الآخر وحاجته.
- - أهمّيّة التأمّل والاجتهاد في التعلّم بعكس التلقين والحشو.
- - أهمّيّة أن يكون التحادث جزء من عمليّة تعلّم مستمرّة خارج تصنيف المنظّمات الرسميّة.
- - أهمّيّة أن يكون التأمّل المرتبط بالقلب والوجدان ارتباطه بالعقل ركيزةً أساسيّةً في تعليمنا وتعلّمنا.
- - أهمّيّة أن نعيش بعافية في مجتمعاتنا قبل أن نعيش أصحاب حقّ في أوطاننا.
- - أهمّيّة أن نصغي للآخر، بدلًا من أن نحكم عليه لاعتبارات في أذهاننا وليست بالضرورة في قصّته، أن نصغي لتجربته وحكايته وكلّ ما تحمل من معنىً، لا لافتراضاتنا.
- - الأهمّيّة لما نفعله لا ما ننوي فعله، ولما نعبّر عنه، لا ما نقصده؛ فالنوايا الحسنة لا تكفي وكذلك القصد الجيّد.
- - لحكايات كلّ من سبقنا على هذه الأرض نصيب من حكاياتنا، فعلينا أن نصغي، لا لنسرد التاريخ فقط بل لنكون المعنى.
لكن هل ستشكّل هذه المعارف الإطار الذي سيرسم عملنا في التعلّم والتعليم والبحث؟ هل يمكننا اليوم أن نضع رؤيةً جديدةً للبحث في العالم العربيّ خارج إطار "المقرّرات"، تكون نابعةً من قصص وتجارب لباحثين عرب بحثوا عن المعنى والخبرة والعمق المرتبط بكليهما؟ البحث الذي يعمّق الجذور وينطلق نحو العافية، لا المعرفة فقط، هو معرفة مرتبطة بشفاء وأمل؟ قد لا تكون هذه المساحة مساحةً "آمنةً" بالمعنى السطحيّ، بل وقد تكون مساحةً "للاشتباك الفكريّ"، و"تعرية المشاعر" لتنقلنا نحو معرفة صادقة متجذّرة ذات معنىً، معرفة ترويها المجاورة والعيش بعافية مع الذات والآخر. ونستلهم خلال هذا وذاك من قوّة الحكاية:
"لو لم تكن لما حكيت، ولو لم نكن لم تولّد الحكاية،
لا تعيش الحكاية إلّا بنا؛ أنت وأنا،
نحكي لنتواصل، ولنستلهم، ولنتساءل،
نحكي لنحلم بعالم أفضل،
بحكاياتنا نجعل المستحيل ممكنًا" (عبد الهادي، 2017).
المراجع
- عبد الهادي، فيحاء. (2017). قوّة الحكاية وسحرها. موقع الصفصاف.
- فاشة، منير. (2020). المجاورة مع المساء بحيّ النزهة. جزء 3. خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية. موقع مجاورة.
انظر أيضًا:
- Rodriguez, C. (2018). Decolonizing Academia: Poverty, Oppression, and Pain. Fernwood Publishing.