عندما نذكر صفًّا دراسيًّا، قد يتبادر إلى أذهاننا الصورة النمطيّة لمعلِّم يُلقِّن طلّابه معلومات يردِّدونها كالببغاوات! وبين لحظة وأخرى، يسأل طالب صديقه: كم تبقّى من الوقت؟ وطالب آخر أنهكته ساعات الدوام الطويلة، فوجد في صوت معلِّمه خير وسيلة للنوم. في المقابل، تخيّل صفًّا دراسيًّا يتمنّاه أيّ معلّم، يأخذ الطلّاب فيه زمام المبادرة في طرح الأسئلة بشغف، وإجراء التجارب وتعلّم مهارات مختلفة، بعيدًا عن التلقين، لتعزيز مهارات التفكير العليا.
هناك 5 خطوات تفصلك عن هذا الواقع التعلّميّ والتفاعليّ الجديد، وفق أنموذج قدّمه الدكتور جيم باروفالدي في مؤتمر أيزنهاور التعاونيّ والعلميّ في أوستن، تكساس، يوليو 2002. هي استراتيجيّة دورة التعلّم الخماسيّة (5 Es Strategy)، والتي جاءت تسميتها من الأحرف الأولى لخطوات هذه الاستراتيجيّة في اللغة الإنكليزيّة (Engage, Explore, Explain, Elaborate, Evaluate) (BSCS, 2002). تُستخدَم الاستراتيجيّة في تدريس مواد مختلفة، ولكن يشيع استخدامها في كثير من الأحيان في تدريس العلوم (الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء) لمختلف المراحل الدراسيّة.
استراتيجيّة دورة المعلّم الخماسيّة
تقوم هذه الاستراتيجيّة على الاستقصاء (Inquiry Based Learning)، حيث يبني المعلّم فلسفته على النظريّة البنائيّة القاضية بقدرة الطالب على بناء معرفته، بعيدًا عن التلقين.
ما النظريّة البنائيّة؟
هي فلسفة تعليميّة تُقرّ بحاجة الطالب إلى بناء معرفته بناءً ذاتيًّا. من أشهر روّادها الباحثان جان بياجيه وإدوارد غاردنر. يقوم التعلّم، وفق النظريّة، على الاستقصاء، حيث يمكن أن يُسرَّع تطوّر الطالب المعرفيّ بتعزيز مهارات التفكير النقديّ وحلّ المشكلات والإبداع والتفكير المستقل.
يتماشى نهج التعلّم القائم على الاستقصاء مع الطريقة التي يُعالِج فيها الدماغ المعلومات معالجة طبيعيّة. يعتقد (Bashour (2016 أنّ الدماغ، بطبيعته، يحبّ الاستطلاع ويسعى إلى إقامة صلات بين الموجود داخله، وما يتعرّض إليه من خبرات، وأنّ أدمغة الطلّاب تُنمَّى بإتاحة فرص للتفاعل مع البيئة التعليميّة، لفهم المعلومات الجديدة، حيث يمكنهم تكوين روابط عصبيّة أقوى، تُعزِّز قدرتهم المعرفيّة، وتساعدهم على الاحتفاظ بالمعلومات احتفاظًا أكثر فاعليّة.
تتألّف هذه الاستراتيجيّة من خمس خطوات متتابعة، تتمثّل في: جذب الانتباه والتهيئة، والاستكشاف، والشرح، والتوسّع، والتقييم. تُرجِم اسم الإستراتيجيّة وخطواتها إلى العربيّة بالاستعانة بدراسة باحثين مصريّين في جامعتي طنطا والفيوم.
أنموذج تطبيقيّ
عزيزي المعلِّم تناول بعض الحاجيات من مطبخك، ولنتوجَّه معًا إلى الصفّ السابع في إحدى المدارس الخاصّة، لنبدأ معهم منظورًا مُختلِفًا لدرس مصوَّنيّة الكتلة في الكيمياء.
ملاحظة مهمّة:
- المعلومات المطلوبة مسبقًا قبل هذا الدرس: التغييرات الفيزيائيّة، والتفاعلات الكيميائيّة.
- الأدوات المطلوبة: سكّر، وماء، وميزان رقميّ، وعبوّة بلاستيكيّة فارغة، وبالون، وخلّ، وكربونات الصوديوم.
نقارن في الجدول الآتي خطوات طريقة دورة التعلّم الخماسيّة مع الطريقة التقليديّة لدرس مصوَّنيّة الكتلة:
تحدّيات الاستراتيجيّة
السؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان الآن، هل من السهل على المعلّم تحويل الدروس التقليديّة الموجودة في المناهج إلى استراتيجيّة دورة التعلّم الخماسيّة؟ للجواب جانبان: يتمثّل الجانب الأوّل في وجود دروس مُعدَّة وفق الطريقة المذكورة، والتي تقدّمها العديد من الهيئات التعليميّة، مثل الجمعيّة الكيميائيّة الأمريكية "American Chemical Society"، القسم المعنيّ بالتعليم، تحت عنوان"Inquiry In Action"، والتي تُعدّ مكتبة غنيّة جدًّا، قد تمكِّن المعلّم من استخدامها مباشرةً، أو التعديل عليها بما يُناسِب صفّه، من دون المساس بجوهر الطريقة. أمّا الجانب الآخر فيكمن في عدم تناسب هذه الاستراتيجيّة عناوين العلوم كلّها.
كما تبرز بعض التحدّيات أمام المعلّم عند تطبيق هذه الاستراتيجيّة، والتي تبدأ عنده شخصيًّا؛ إذ مَن تعلَّم وعلَّم بالطريقة التقليديّة، قد يحتاج إلى بعض الوقت والممارسة لإتقان هذه الاستراتيجيّة، مثل مهارة إدارة الوقت، والتحضير الجيّد، وتهيئة المصادر. ومع ذلك، فخطوط الاستراتيجيّة العريضة تصبح، بعد فترة، سلوكًا لا واعيًا يطبّقه المعلّم تلقائيًّا.
تشكِّل المصادر تحديًّا حقيقيًّا، ولا سيّما في المدارس محدودة المصادر. لكن في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعيّ، قد تُسعِف بعض الحلول الرقميّة، مثل استخدام المحاكاة الافتراضيّة والتفاعليّة كموقع "PhET Simulations"، بديلًا من التجربة المخبريّة، وغير ذلك من الحلول. بالإضافة إلى ذلك، يعدّ كسر الروتين الذي اعتاده الطلّاب، من تلقّي المعلومة من دون جهد كتلقّي الطفل طعامه بيد أمّه، ليس سهلًا، ويحتاج إلى صبر المعلّم ومساعدته.
* * *
قيل مَن أطال الفكرة كان له في كلّ شيء عبرة. بعد التأمّل في تطبيق هذه التجربة، أفدتُ كثيرًا باكتسابي مهارة تدريس هذه الاستراتيجيّة الحديثة التي جذبت انتباه الطالب وأثارت فضوله. في بداية الدرس زاد حماس الطلّاب مع الوقت، فأصبحوا ينظرون إلى الساعة، منتظرين بدء حصّة الكيمياء لا انتهائها، ولا سيّما في ظلّ وجود معلومات ذات معنى (Meaningful Learning)، وتطبيقاتها المختلفة في الحياة العمليّة. أمّا إطلاق العنان للطلّاب لاستكشاف المفهوم الجديد بأنفسهم، فقد زاد ثقة الطلّاب بقدرتهم على أن يكونوا جزءًا فاعلًا في العمليّة التعليميّة، على عكس الطريقة التقليديّة التي يكون الطلّاب فيها متلقّين المعلومة، وموافقين على كلّ ما يقوله المعلّم.
من هنا، يكون الفرق بين استراتيجيّة تعلّم نشطة، وتعلّم تقليديّ، فرقًا بين الملل والتحفيز، وبين اكتشاف المعلومة ومجرّد قراءتها، وبين مشاركة المعلومة وإعادة تكرارها، وبين تطبيق المعلومة في مثال حقيقيّ من الحياة وبقائها حبيسة الكتاب المدرسيّ.
المراجع:
- American Chemical Society. Inquiry in action.
https://www.acs.org/education/resources/k-8/inquiryinaction.html
- Bashour, N. (2016). Our Learning Brain: How to Develop It. Arab Scientific Publishers.
- BSCS. (2002). 5E model of instruction. CSCOPE. https://borderlandsnarratives.utep.edu/images/5E_Model_of_Instruction_CSCOPE_072002_1_1.pdf