فرضت الرقمنة والتطوّر العلميّ الذي شهده العالم تطوير مقاربتنا للتعليم والتعلّم. كما عمدت العديد من المؤسّسات التعليميّة إلى الانخراط في التيّار التحديثيّ للمقاربات التعليميّة، بالحرص على خلق بيئة تعليميّة - تعلّميّة جديدة داخل الغرفة الصفّيّة، تقطع مع الممارسات الكلاسيكيّة في التعليم، والتي أفضى تطبيقها إلى خروج عن المألوف، وتقديم أشكال ومقاربات تعليميّة جديدة، تعطي الحصّة طابعًا خاصًّا ومنظورًا مختلفًا.
من هنا، سعيتُ مع طلبتي إلى خلق مساحة تعلّم بفنّ المسرح، حيث خضت غمار التجربة مع طلبة الصفّ السابع في مادّة اللغة العربيّة، لأنّ الوعي بجدوى ما نتعلّمه ونكتسبه من خبرات ومعارف، لا يُقاس عادةً إلّا بالممارسة والتطبيق.
يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على أهمّيّة توظيف المسرح في الحصص الصفّيّة، ودوره الرئيس في تنمية مهارات الطلبة في القرن الواحد والعشرين.
المسرح المدرسيّ
عندما نعود إلى الماضي ونتأمّل الدور المسرحيّ الذي كان يؤدّيه المسرح المدرسيّ، لا نكاد نرى له أيّ حضور على الصعيدين الماديّ والمعنويّ؛ فلم تكن مدارس كثيرة مجهّزة بخشبة مسرح. لكنّ مدارسنا في الوقت الحاضر مجهَّزة تجهيزًا قويًّا ومميّزًا بالمسارح، وفق إمكانيّات عالية، من حيث الصوت والإضاءة والمقاعد وشاشات العرض الضخمة أحيانًا، إذ يمثّل المسرح المدرسيّ رسالة تربويّة نستطيع بها إيصال معلومة للطالب، أو فرصة لتنمية مهارات التعلّم وأساليبه. ويرى مصطفى (2003) أنّ المسرح يتحوّل إلى وسيلة تعليميّة وتربويّة أكثر من كونه مجرّد غاية أدبيّة أو فنيّة. ومن هذا المنطلق، لا يطلب من النشاط المسرحيّ في هذه المرحلة، تخريج ممثّلين صغار أو مخرجين أو رسّامي ديكور، وإنّما المطلوب توظيف المسرح في العمليّة التعليميّة من أجل تنمية قدرات الطفل وإمكاناته على أفضل وجه ممكن.
منطلق الفكرة
تشكّلت الفكرة بعد دورة تدريبيّة للمعلّمين في المدرسة، كانت جزءًا من التطوير المهنيّ المعروف في كلّ مدرسة. أحببت، بعدها، أن أطبّق مهارة هذه الدورة التي هدفت إلى تطبيق المسرح والدراما في الغرفة الصفّيّة، حيث أرسلت إلى الطلبة العمل على هيئة واجب منزليّ، كي يفكّروا تفكيرًا إبداعيًّا قبل البدء بالمهمّة. رحّب الطلبة بهذه المهمّة، وكانوا متحمّسين للشروع بها، ولحظة وصولهم المدرسة عبّروا لي عن سعادتهم في خوض هذه التجربة.
الشروع في المسرحيّة وتوزيع الأدوار
في الوحدة الدراسيّة "الصحّة والغذاء" في مادّة اللغة العربيّة لطلبة الصفّ السابع، وهي وحدة علميّة تخصّ المجال الصحّيّ وطرق الحفاظ على صّحّة الإنسان وحمايته من الأمراض والأوبئة، تنوّعت الممارسات والأنشطة، مثل كتابة المقال، والتحدّث عن صور تخدم السياق نفسه. كما حرصنا على أن نقدّم هذه الوحدة في مجال العمل المسرحيّ، من أجل تفعيل دور الأعمال المسرحيّة في المنهاج، وفي حياة الطلبة وممارساتهم.
فسحت المجال أمام الطلبة ليقودوا العمليّة التعليميّة في اختيار الأدوار التي يرغبون بأدائها في نشاط المسرحيّة. وتمثّل الهدف الرئيس منها في تحقيق الطلبة ذواتهم وتعبيرهم عن أنفسهم، في بيئة مليئة بالشغف والخروج عن المألوف، حيث منحت الطلبة وقتًا يسيرًا من الحصّة لتحديد الأدوار على النحو الآتي:
- رئيس البلدة: غيثة، حيث بادرت بتسمية البلدة "أعضاء بلدة سانيتاس"، وهو اسم يرمز إلى شركة عالميّة صحّيّة.
- الطبيب: لينا، حيث أرادت أن تذكر بعض النصائح الطبّيّة، وأهمّيّة الممارسات الرياضيّة.
- اختصاصيّة تغذية: لين، حيث ركّزت على الغذاء الصحّيّ والتوازن بين جميع العناصر الغذائيّة، مثل البروتينات والأسماك واللحوم وغيرها من الفيتامينات.
- اختصاصيّة البشرة: ميار، حيث لاحظت بأنّ البشرة مهملة نوعًا ما في مفهوم الرعاية الصحّيّة.
- خطيب البلدة: سعد، حيث وجد أنّ للجانب الدينيّ دورًا مؤثّرًا في أبناء البلدة، فاحترام جسد الإنسان واجب من المنظور الدينيّ.
- القاضي: سلمى، حيث أعلنت ضرورة منع الأغذية المضرّة بالصحّة، وتشديد العقوبات على المروّج لأيّ مواد قد تؤدّي إلى الإدمان.
- مدرّب رياضة: رعد، لم يغفل عن الممارسات الرياضيّة التي يتوجّب على الإنسان فعلها باستمرار، وألّا تقتصر على عمر معيّن. فضلًا عن تركيزه على فئة الشباب في فترة المراهقة.
- المعلّمة: ألين، حيث تقمّصت دور المعلّمة، وعاشت تجربتها بحثّ طلبتها على الاهتمام بمفهومي الصحّة والغذاء، ودورهما الرئيس في بناء الإنسان على الصعيدين الجسميّ والنفسيّ.
- الأب: خالد، حيث سلّط الضوء على دور الأسرة في لعب الدور المحوريّ في بناء المجتمعات، فأدار مشهدًا حواريًّا مع ابنه (محمّد).
- الابن: محمّد، حيث تفاعل في تأدية دور الابن، والذي مارس بعض العادات غير الصحّيّة، ولم يرد أن يبتعد عنها.
- الشجرة: عبد الله، حيث سجّل فكرة إبداعيّة بأن يجسّد شخصيّة الشجرة ودورها الفاعل في حماية البيئة، ومدى مساعدتها في الحدّ من التلوّث.
- إعلاميّة: فرح، قدّمت أهمّ الأخبار عن البلدة ودورها في إيصال صوت البلدة إلى جميع أنحاء العالم.
- منظّمة الصحّة العالميّة: سارة، حيث عبّرت عن الدور الرسميّ العام في حماية المجتمع من أخطار تدهور الأمن الصحّيّ في العالم، وتقديم بعض المعلومات الصحّيّة الرسميّة، مثل عدد الوفيّات والأمراض المنتشرة.
صيغة النشاط النهائيّة
أُنجِزَت صيغة النشاط النهائيّة للعمل المسرحيّ بأدوات متواضعة جدًّا، فلم تتعدَّ أثاث غرفة الصفّ وورقة وقلمًا، حيث كتب الطلبة ملاحظاتهم وأدوارهم التي سيقدّمونها، واستعملوا اللوح الذكيّ لعرض صورة رمزيّة لبلدة معيّنة تحاكي السياق الذي اختاروه. بعد ذلك، عقد الطلبة حوارًا مسرحيًّا ووُزِّعت الأدوار بالاستعانة بإحدى شخصيّات المسرحيّة، لتعزيز التفاعل بين الطلبة.
عندما يخرج الإبداع من ذات الإنسان، ويعبِّر عن الشغف وحبّ التميّز، يكون العمل متقنًا وناجحًا ومُحقِّقًا أهدافه. وهذا ما حدث بالفعل مع طلبتي عندما أخبرتهم بأنّ هذا العمل نشاطٌ صفّيّ إبداعيّ، لن يدخل في التقييم الختاميّ. وهنا كانت المفاجأة، إذ سارعوا إلى المشاركة في هذا النشاط حبًّا ورغبة في الفكرة، ممّا زادني إصرارًا وعزيمة على تقديم العديد من هذه الأعمال مع طلبتي، لأنّها محرِّك مهمّ جدًّا لقدرات الطلبة وإبداعاتهم.
مهارات القرن الواحد والعشرين
من أهمّ الأمور التي دفعتني إلى توظيف المسرح في حصّة اللغة العربيّة، ممارسة مهارات القرن الواحد والعشرين، والتي تنادي بتمكين الطلبة من صقل شخصيّاتهم وإظهار تجاربهم الأدائيّة، وجعلها استراتيجيّة معتمَدة داخل الصفّ باستمرار.
وعليه، ساعدت تجربتي على تعزيز مهارات القرن الواحد والعشرين، والتي قد تكون موجودة في العقل الباطن لدى طلبتنا، ولكنّ المسرح هو الأداة المعزِّزة لإظهارها في العديد من الأنشطة المدرسيّة. قد تداخلت هذه المهارات والتقت في نقطة واحدة هي خشبة المسرح. وتحقّق ذلك بالنقاط الآتية:
التشاركيّة
تشارك الطلبة في تبادل الأفكار حول إخراج المسرحيّة وتوزيع الأدوار، وكان توزيع الأدوار المحرِّك الرئيس في إثارة النقاش بينهم، والأدوار التي يريدونها.
التفكير الإبداعيّ
تفاجأت بالأفكار الجديدة في المسرحيّة، من الشخصيّات إلى اسم المسرحيّة وآليّة اختيارها، "أعضاء بلدة سانيتاس". بادر الطلبة بكلمات وأفكار معبِّرة جدًّا، حتّى إنّ بعضهم أحضر أشياء من منزله لتجسيد الشخصيّة، كمطرقة القاضي، أو سترة الطبيب، أو مستحضرات التجميل.
التواصل
حقّقت فكرة المسرحيّة روح التواصل الاجتماعيّ بين الطلبة، وجعلت الاندماج بينهم أكثر ممّا كان في السابق، إذ لمستُ ذلك بالتساؤلات التي كانت تدور بينهم في مجموعة الصفّ على موقع "تيمز"، لأنّ المدرسة توفِّر لهم هذه الخاصيّة للتواصل الأكاديميّ.
الإنتاج
أظهر الطلبة قدرة عالية في إنتاج النصّ وتغطية مختلف الجوانب المطلوبة لدور كلّ منهم في العمل المسرحيّ، واستخدموا الألفاظ المناسبة للسياق.
المقارنة
مارس الطلبة مهارة المقارنة في عمليّة التأمّل الجماعيّ، بعد نهاية النشاط، واكتشفوا القوّة ومواطن التطوير في هذا العمل. الأمر الذي أضاف إليهم خبرة في مجال الأنشطة الصفّيّة.
التأمّل الذاتيّ
ماذا اكتسب الطّلبة من النّشاط؟
قدّم هذا النشاط الفرصة الثمينة للطلبة لتعزيز المخزون اللغويّ، والذي يساعدهم في مهارتي التحدّث والكتابة. كما ساعد هذا العمل على دقّة اختيار الطلبة المهارات اللغويّة، كتوظيف الأساليب البلاغيّة، من تشبيه واستعارة، والأساليب الإنشائيّة، وفق ما يخدم السياق الذي تعرّض له الطلبة.
في هذا النشاط، اكتسب الطلبة الكثير من المهارات التي تساعدهم في التفكير بالقضايا العالميّة في محيطهم الذي يعيشون فيه. الأمر الذي يجعل الطالب شخصًا مفكِّرًا تفكيرًا إبداعيًّا، يتخطّى الحجرة الصفّيّة، وينظر إليها كأنّه جزء منها، وله الدور الكبير في تطويرها.
أدّى هذا النشاط إلى توليد الأفكار، وإظهار مواطن القوّة والتطوير لدى الطلبة. فدعم هذا النوع من النشاط مهارة التفكير الإبداعيّ، ولا سيّما مجال الخيال، ومنحهم الفرصة لملامسة مشكلات الواقع الحياتيّة. وهنا تدرُّب حقيقيّ على التعلّم المستدام.
بالإضافة إلى ذلك، رسم هذا النشاط على وجوه جميع الطلبة الابتسامة والسعادة والرضا، حيث استطاعوا أن يصنعوا الفكرة وأن يخطّطوا لها. كما أشعرهم بأنّهم أفراد في هذا المجتمع وليسوا طلبة لأداء واجبات ومهمّات خاصّة، لإنهاء مساق أو كتاب يُطلَب إليهم كلّ سنة.
مواطن التطوير
لا شكّ في أنّ الطلبة قدّموا عرضًا جميلًا ورائعًا، ولكن لا بدّ من الوقوف عند مواطن التطوير، وسبل علاجها:
- - لم يكن الوقت المخصّص لتحدّث كلّ طالب منظّمًا، وكان من المفروض ربط تحدّث الطلبة بوقت محدّد، حيث يتحدّث بعضهم لوقت طويل جدًّا وبعضهم اقتصر حديثه في وقت زمنيّ قصير.
- - بعض الطلبة قدّم العمل مستعينًا بورقة، ونأمل أن تكون الأعمال القادمة ارتجاليّة. فيرتجل الطلبة في التحدّث من دون الحاجة إلى الاستعانة بورقة. ويعدّ ذلك من أهمّ المهارات التي نهدف إليها.
- - لا بدّ من إدخال الموسيقى والمؤثّرات في الأعمال، لتعطيها نوعًا من الحيويّة في الحصّة، وتتفاعل جميع الحواس مع الفكرة المراد تقديمها.
- - كانت تجربة عميقة جدًّا، أضافت إليّ وإلى طلبتي الكثير. استعنت في إعداد هذه الحصّة بما اكتسبته من خبرة نظريّة في ورشة تدريبيّة قُدِّمت إلينا في المدرسة، وكان لها الأثر الكبير في خوض هذه التجربة وممارستها على أرض الواقع مع طلبتي، حيث ساعدتني في اكتشاف مواهب طلبتي والقدرات التي يمتلكونها في لغة الدراما.
* * *
في النهاية، شعرت بالفخر لأنّني استطعت أن أدخل السعادة إلى قلوب أحبّتي الطلبة في هذا النشاط، برغم أنّه كان بأدوات متواضعة وبسيطة كما أسلفنا. ومن هنا، أنصح جميع المعلّمين بابتكار أفكار تخرِج الطلبة، خلال الوحدة، من نطاق مهمّات اعتادوا عليها إلى أنشطة تحقّق مهارات الوحدة، وتلبّي احتياجات الطلبة، وتغذّي طاقاتهم في الوقت نفسه.
المراجع
- رجب، مصطفى. (2003). المسرح المدرسيّ ودوره التربويّ. مجلّة التربية. 32(147). 132– 137. http://search.mandumah.com/Record/256868