مقدّمة
في ظلّ ما آلت إليه الأوضاع التعليميّة بعد انتشار وباء كورونا، وما نتج عنه من إغلاق للمدارس والمؤسّسات التعليميّة كافّةً، ظهر التعليم عن بعد بوصفه إشكاليّةً معاصرة، كان معظم مؤيّديها أولئك الذين يسعون إلى إيجاد حلّ مؤقّت يمنع ضياع العام الدراسيّ المنصرم، أمّا معارضوها فمنهم من يعلّل رفضه بانعدام البِنى التحتيّة اللازمة لهذه العمليّة، ومنهم من كان مقتنعًا أنّ التعليم الرقميّ عمليّة فاشلة من شأنها أن تعيق عمليّة التعلّم الحقيقيّ. وبين المؤيّدين والمعارضين غاب عن نظر معظم المعلّمين أنّ التعليم عن بعد شأن، والتعليم الرقميّ شأن آخر، إذ إنّ الأساليب التقليديّة أو التفاعليّة يمكن أن تكون داخل غرفة الصفّ أو خارجها عبر وسيلة تواصل تعليميّة إلكترونيّة.
نهدف في هذا المقال إلى تسليط الضوء على أهمّيّة التعليم الرقميّ في مادّة اللغة الفرنسيّة لصفوف المرحلة الثانويّة نظرًا لضرورة محاكاة طلّاب القرن الحادي والعشرين، ووجوب تقديم محتوًى تعليميّ يتوافق مع تطلّعاتهم الاجتماعيّة والفكريّة. هذا التعليم الجديد الذي فرضته أزمة كورونا أصبح جزءًا أساسيًّا من عمليّة التعليم، إذا ما تمكّن الأساتذة من تطوير مهاراتهم التكنولوجيّة، خصوصًا أنّ التعليم ما بعد كورونا لن يكون على ما كان عليه سابقًا.
التعليم الرقميّ لمستقبل تعليميّ أفضل
في هذا الإطار، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التعليم الرقميّ أصبح ضرورةً ملحّةً منبهّةً إلى أهمّيّة تغيير الدور الرئيس للمؤسّسات التعليميّة، فإذا كانت مناهجنا حتّى اليوم معتمدةً على التلقين والحفظ السلبيّ للمعلومات فقد آن الأوان لطرح تساؤلات عديدة حول هذا الدور للبحث في كيفيّة تعديله، أو تطويره، أو ربما إعادة بنائه. إنّ نظامنا التعليميّ التقليديّ ولّد أجيالًا بعيدةً نوعًا ما عن الفكر النقديّ والفكر الإبداعيّ لذلك غالبًا ما نرى كميّةً هائلةً من المعلومات الخطأ والإشاعات السلبيّة التي يتناقلها طلّابنا وأولياء أمورهم عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، دون التدقيق في صدقيّة محتواها، أو دراسة تأثيرها السلبيّ على سلوكيّات متلقّي هذه المعلومات. إذًا، لا بدّ أوّلًا من إعادة النظر في أساليب التعليم التي أنتجت متعلّمين متلقّين للمعلومات بطريقة سلبيّة، وأساليب تقليديّة حالت دون دفع المتعلّمين للبحث عن الحقائق العلميّة وما وراءها من مؤشّرات ومؤثّرات من شأنها أن تغيّر في سلوكيّات المتعلّم الفرد في آنٍ معًا.
في إطار آخر، ألا نلاحظ أنّ المتعلّمين في معظمهم قادرون على إعادة صياغة فيلم سينمائيّ، والتفكير في سلوكيّات أبطاله، في حين أنّهم عاجزون عن دراسة شخصيّات في نصّ أدبيّ خصوصًا في المرحلة الثانويّة؟ هل سألنا أنفسنا يومًا: لِمَ بإمكان طلّابنا حفظ أغنية أو خطاب لأيّ ممثّل تلفزيونيّ بسرعة قصوى في حين يعجزون عن حفظ مقاطع من كتاب التاريخ أو الجغرافيا؟ هل فكّرنا يومًا إذا ما كان هذا الجيل فعلًا غير آبهٍ بالتعليم أم أنّنا نحن المعلّمون غير آبهين بمتغيّرات الحياة، وما زلنا قابعين في قعر الوسائل التقليديّة التي لا يمكن أن تتوافق مع تطلّعات طلّابنا اليوم؟ هل يجوز أن نلوم طالبًا يهمل محتوى لا يُشبهه في شيء، محتوى نفرضه عليه ظنًّا منّا أنّه حقيقة ثابتة، في حين أنّ الحقائق تتغيّر يوميًّا؟ هل يجوز أن نقيّم طالبًا وفق ما استطاع أن يحفظ من معلومات في حين أنّه باستطاعته إيجاد ما نطلبه منه من خلال بحث بسيط عبر محرّك البحث؟ قد يجيب المعترضون بأنّ التلميذ الذي يستخدم محرّك البحث لإيجاد إجابة هو مشروع إنسان غير مفكّر غافلين بذلك عن أنّ التفكير الفعليّ ليس بالحفظ والتلقين، لكنّه في كيفيّة البحث عن الحقيقة واكتساب معلومة راسخة في الذهن لا يمحوها الزمن.
تجربة نشرة أخبار رقميّة في الصفّ
أسرد عليكم تجربةً متواضعةً في التعليم الرقميّ مع طلّاب الصفّ الثانوي الثالث في فرع الإنسانيّات، وذلك في إطار موضوع إنشاء باللغة الفرنسيّة حول مفهوم الاستعباد المعاصر وأشكاله المختلفة في الواقع الاجتماعيّ اللبنانيّ.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذه التجربة تمّت مطلع العام الدراسيّ 2020-2021 حضوريًّا على مرحلتين إذ إنّ الظروف اقتضت تقسيم المتعلّمين إلى قسمين، كلّ منهما يأتي على حدة إلى المدرسة، وذلك تلافيًا لانتقال العدوى. إيمانًا منّي بأهمّيّة التعليم الرقميّ وبغية تجسيد قناعاتي التعليميّة واقعًا عمليًّا، تعمّدت أن أشرح الدرس عينه لكلّ من الفئتين بطريقة مختلفة، وذلك بهدف تحليل النتائج الأخيرة، وتكوين فكرة واضحة عن أهمّيّة التعليم الرقميّ. فمع الفئة (أ) حاولت شرح موضوع الإنشاء بطريقة تقليديّة، ومع الفئة (ب) رجعت إلى التعليم الرقميّ. أُشير في هذا السياق إلى أنّ الشرح التقليديّ لم يتعدَّ الحصّة التعليميّة الواحدة في حين أنّ الشرح الرقميّ الذي اعتمدته مع طلّاب الفئة (ب) امتدّ على ثلاث حصص تعليميّة وذلك لإيلاء التمارين الرقميّة أهمّيّةً قصوى. في الختام، كان لا بدّ من إجراء اختبار تقويميّ لكلا الفئتين بعد انتهاء عملية الشرح، لتقييم أداء المتعلّمين من ناحية، وتقييم دور التعليم الرقميّ من ناحية أخرى.
قبل الخوض في تفاصيل التجربة، لا يمكننا إغفال الصعوبات عند المتعلّمين خصوصًا في ما يتعلّق بصياغة موضوع إنشاء، سواءً أكان من ناحية جمع الأفكار وصياغتها على نحو مترابط، أو من ناحية إيجاد المصطلحات اللازمة لصياغة الموضوع. كنّا اعتدنا تقليديًّا أن نبدأ بكتابة المفردات على اللوح وشرح معانيها للمتعلّمين إلى جانب عرض براهين وأفكار يتوجّب على طلّابنا حفظها واستثمارها بطريقة معيّنة داخل موضوع الإنشاء، الأمر الذي اختبرته مع الفئة (أ). إذاً اقتصر دوري كأستاذة مع الفئة (أ) على كتابة بعض المفردات وبعض الجمل وشرحها ومناقشتها مع المتعلّمين إضافةً إلى شرح الموضوع بالتأكيد. أمّا دور المتعلّمين، فقد اقتصر على جمع ما قدّمته لهم في إطار مترابط. وما إن انتهى الشرح والمناقشة حتّى توجّب على المتعلّمين صياغة موضوع الإنشاء على شكل اختبار تقويميّ، وقد جاءت النتيجة على النحو الآتي : 20% من المتعلّمين (وهم من ذوي القدرات اللغويّة العالية) تمكّن من صياغة الموضوع على نحو كامل، 60% منهم حاول ربط المعلومات بطريقة صحيحة مع كمّ هائل مع الأخطاء اللغويّة والبنيويّة، إذ إنّهم كرّروا عددًا كبيرًا من الأفكار في مقاطع عدّة، ما أثّر سلبًا في علاماتهم. أمّا الباقون (20%) فقد استخدموا ما حفظوه غيبًا في إطار غير مترابط كليًّا، وهو ما أفقد العبارات معناها، وحال دون إيصال الأفكار على نحو صحيح، لذلك فشلوا في الصياغة، فكانت علاماتهم دون ربع العلامة الكاملة.
أمّا مع الفئة (ب)، فقد كان الشرح على نحو مختلف كليًّا، إذ إنّني استعضت بشرائح "بوربوينت" التفاعليّة عن اللوح الصفّيّ، وكانت العمليّة التعليميّة على مراحل عدّة وبرامج مختلفة سأضعها في بنود أدناه:
1- لم يقرأ الطلاب موضوع الإنشاء على اللوح، لكنّهم تلقّوه ضمن مقطع فيديو بسيط على صورة نشرة إخباريّة من شأنها أن تطرح تساؤلات عند المتعلّمين: هل انتهى الاستعباد مع انبثاق شرعة حقوق الإنسان، أم أنّه اتّخذ صورًا جديدةً أكثر خطورةً ممّا كان عليه سابقًا؟ يعود سبب اختيار طريقة نشرة الأخبار لعرض موضوع الإنشاء لأهمّيّة المؤثّرات السمعيّة البصريّة على تلّقي المعلومة عند المتعلّم خصوصًا أنّها ستحرّك الجزء الأيمن من الدماغ، الأمر الذي سينعكس إيجابًا على تركيز المتعلّمين أمّا عن كيفيّة تحضيرها: استخدمت موقع Picassion لخلق GIF Speaking character واستخدمت شارة الأخبار التي حمّلتها من محرّك "جوجل"، ثمّ دمجتهما في برنامج "بوربوينت" لخلق فيديو، وهو النتاج الأخير الذي عرضته أثناء شرح موضوع الإنشاء.
2- بعد نقاش طويل تابع المتعلّمون مقاطع فيديو حضّرتها على برنامج Plotagon، وهو برنامج مجانيّ مخصّص لخلق برامج للأطفال من خلال شخصيّات متحرّكة ذات انفعالات عديدة ضمن خلفيّات شبه واقعيّة، يعرض كلٌّ منها صورةً من صور الاستعباد المعاصر حيث أنّهم شاهدوا على سبيل المثال ربّة منزل تتعامل بطريقة فوقيّة مع عاملة إفريقيّة، كما تابعوا نهج الاستعباد الوظيفيّ داخل الشركات، واستعباد الأطفال المجبرين على العمل، إلى آخر تلك القائمة. هذه المقاطع التي قدّمتها لهم على طريقة برامج الأطفال كانت كفيلةً أن تُرسّخ في ذهنهم خمسة أنواع من الاستعباد المعاصر بعيدًا عن الحفظ.
3- في مرحلة ثالثة، وبغية الانتقال من عالم الطفولة وبرامج الأطفال إلى العالم الحقيقيّ شاهد المتعلّمون تقريرًا متلفزًا حقيقيًّا عن واقع استعباد العاملات الأثيوبيّات في لبنان يسلّط الضوء على نظام الكفالة وشروط العمل التي تدفع بالعاملات للهروب حينًا وللانتحار أحيانًا.
4- بعد مشاهدة هذه المقاطع كلّها كان على الطلّاب استخلاص عبارات منها، وذلك من خلال صور معيّنة، إذ إنّني عرضت في عدد من الشرائح مجموعة صور من شأنها أن تساعد المتعلّم على استذكار الجمل المذكورة في الفيديو، وذلك بغيةَ كتابتها في سياق مختلف عن الفيديو ليتوافق مع موضوع الإنشاء المطلوب.
5- في المرحلة الأخيرة، طلبت من المتعلّمين البحث عبر محرّك "جوجل" عن أنواع الاستعباد التي استخلصوها من مقاطع الفيديو، واستخراج براهين جديدة يُمكن أن تضاف إلى الموضوع، وقد دار نقاش بسيط حول النتائج التي عرضوها في حصّة لاحقة.
6- في الختام، طلبت من المتعلّمين صياغةَ الموضوع كاملًا بأسلوبهم الخاصّ، وكانت النتيجة على النحو الآتي: 100% من المتعلّمين نجحوا. 80% منهم نالوا علامة 15\20، و20% نالوا علامة نجاح دونها.
تعليم طويل الأمد
بعد مرور ثلاثة أسابيع على النتائج، كان على المتعلّمين صياغة موضوع ثانٍ يدور حول محور العنصريّة والاستعباد، لكنّه كان مختلفًا نوعًا ما عن الموضوع الأوّل، وكان ذلك في سياق اختبار تقريريّ. كانت النتيجة أنّ طلّاب الفئة (ب) تمكّنوا بسهولة من استذكار المعلومات المذكورة في العرض التفاعليّ، وتمكّنوا من صياغة موضوعهم الجديد، في حين أنّ طلّاب الفئة الأولى تذمّروا من صعوبة الموضوع، وأثبت التصحيح أنّ الذين تلقّوا التعليم الرقميّ حصّلوا علامات عاليةً جدًّا مقارنة بأولئك الذين تابعوا التعليم التقليديّ، الأمر الذي يؤكّد على تأثير التعليم الرقميّ على الذاكرة الطويلة الأمد، وذلك لاحتوائه على مؤثّرات سمعيّة بصريّة.
خلاصة
نُدرك جيّدًا أنّ لكلّ نظريّة جديدة مؤيّديها ومعارضيها، كما نؤكّد أنّ التعليم الرقميّ أكثر صعوبة من التعليم التقليديّ، خصوصًا أنّه يتطلّب تحضيرًا طويلًا إلّا أنّنا، من منطلق ضرورة مواكبة التقدّم التكنولوجيّ، ووجوب لعب دور إيجابيّ فعّال ضمن الغرف الدراسيّة، نؤمن أنّنا لن نكون معلّمين حقيقيّين إلّا عندما نبني جسرًا بيننا وبين طلّابنا. التعلّم لا يمكن أن يظلّ في القرن الحادي والعشرين، هذا القرن المنبثق من رحم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعيّ، ما كان عليه في القرون الماضية، لأنّ لهذا الجيل خصوصيّته التي لا يمكننا إغفالها.