حجم الدّمار
لم تترك حرب الإبادة في غزّة جانبًا من جوانب الحياة، إلّا وأثّرت فيه. ومن بين التأثيرات الأكثر تدميرًا، تلك التي لحقت بالنّظام التّعليميّ، وبالتالي بمستقبل غزّة. ستخلّف الأضرار التي تسبّبت بها هذه الحرب، آثارًا عميقة وطويلة الأمد في الأجيال الحالية والمستقبليّة في غزّة. وفي حين كُتب الكثير عن التأثير العام للحرب، إلّا أنّ التدمير المنهجيّ لقطاع التّعليم في غزّة يستحقّ أن يولّى اهتمامًا خاصًا:
سُوّيت المدارس، سواء العامة أو تلك التي تديرها الأمم المتّحدة، بالأرض. الجامعات التي كانت ذات يوم العمود الفقريّ للتّعليم العالي في غزّة، أصبحت خرابًا. المؤسّسات التي دُرّبت أجيال من المعلّمين فيها دُمّرت. وتعرّضت مراكز التّعليم المجتمعيّ، والمراكز الفنيّة، والأرشيفات – وهي مكوّنات أساسيّة في الحياة الثقافيّة والتعليميّة – إلى التدمير أيضًا. كما أنّ العديد ممّا نجا من هذه المساحات التّعليميّة تحوّل إلى ملاجئ للعائلات النازحة، وهو ما يؤكّد حجم الدمار.
لم يكن هذا مجرّد تدمير للمباني، بل تفكيكًا لبنية تحتيّة تعليميّة بأكملها. لقد قُتل المعلّمون، وتشرّدت أسرهم، ودُمّرت مدارسهم وجامعاتهم. كلّ بيت في غزّة تعرّض إلى خسارة، سواء أكان ذلك من خلال الموت، أو الاختفاء، أو الانفصال عن أحبّائهم. وهيمنت صور المنازل المدمّرة، والأسر النّازحة، والصراع اليوميّ من أجل البقاء على وسائل التواصل الاجتماعيّ لعدّة أشهر، كاشفةً عن جزء ضئيل فقط من المعاناة التي لا تزال مستمرّة بلا هوادة.
التأثير الذي سيخلفه هذا التّدمير في التّعليم والتّعلّم لا تمكن المبالغة فيه؛ فالصدمة التراكميّة، والمعاناة، وذكريات العنف التي عاشها جيل كامل، مذهلةٌ. الأطفال في غزّة، والذين يتعرّضون إلى مستويات غير مسبوقة من العنف والإساءة يوميًّا، يواجهون مستقبلًا يرتبط فيه التّعليم ارتباطَا وثيقًا بصدماتهم.
ماذا سيحدث بعد ذلك؟
السؤال الآن: كيف سيكون التّعليم والتّعلّم في غزّة بعد كلّ هذا؟ كيف يُمكن أن يستمرّ التّعلّم وسط هذه المعاناة والصدمات المتراكمة؟ لقد تراكمت الصّدمة النفسيّة التي تعرّض إليها أطفال غزّة، والمعلّمون، والعائلات على مدار السبع عشرة سنةً الماضية. وزاد الحصار الإسرائيليّ المستمرّ، والهجمات العسكريّة المتكررة الوضع سوءًا. كلّ هذا العنف غير المسبوق يضيف طبقة جديدة من الألم والمعاناة.
لمعالجة هذه التحديّات، يجب دمج الدّعم النفسيّ الاجتماعيّ في أيّ تدخّلات تعليميّة؛ إذ إنّ كلّ فرد في غزّة سيحتاج إلى مثل هذا الدّعم، والذي لا بدّ أن يستمرّ لفترة طويلة. كما تجب إعادة هندسة المدارس والمناهج، لتلبية احتياجات هؤلاء المتعلّمين الذين تعرّضوا إلى الصدمات، وكذلك أن تكون المناهج الدراسيّة مستوحاة من تجارب من عاشوا هذه الصّدمات، وأن تتطوّر أساليب التّدريس لتتضمّن وتعالج قصص هؤلاء الأطفال.
سيحتاج المعلمون أنفسهم إلى دعم كبير – اجتماعيًّا وثقافيًّا ونفسيًّا – لمعالجة تجاربهم ومشاركتها. وسيكون من الضروريّ أن تُتاح لهم المساحة لسرد قصصهم، ليس من أجل شفاء أنفسهم فحسب، بل لإعلام العالم بواقع الحياة في غزّة على حدّ سواء. لا ينبغي على أحد أن يتحمّل الإبادة الجماعيّة من دون أن تُتاح له الفرصة ليكون شاهدًا، وقصص معلميّ غزّة وطلّابها جوهريّة لفهم التكلفة الحقيقيّة لهذا الصراع.
شكّل فقدان سنة كاملة من التّعليم أمرًا غير مسبوق؛ إذ، ولأول مرّة منذ سنة 1948، لم يتمكّن الطلّاب الفلسطينيّون في غزّة من إكمال امتحانات التّعليم العالي، ما حرم هؤلاء اليافعين من فرصة تحقيق أحلامهم. ولا يمثّل تدمير النّظام التّعليميّ في غزّة خسارة للجيل الحاليّ فقط، بل يُمثّل تهديدًا عميقًا لمستقبل المنطقة بأكملها؛ فإعادة بناء هذا النّظام ستتطلب أكثر من مجرّد إعادة الإعمار الماديّ، لتصل إلى إعادة تصوّر ما يُمكن، وما يجب، أن يكون عليه التّعليم في ظلّ الصّدمات والتحديّات المستمرّة.
التّعليم والتّعلم عن الإبادة
عند الحديث مع الأصدقاء والزملاء في غزّة، يخالجك شعور مشترك: هناك الكثير مما كُتب عن الإبادة الجماعيّة، ولكن ليس هناك ما يكفي من الجهود لدمج هذه الحقيقة المروّعة في التّعليم. تسمعهم يجادلون بأنّ تجربة الإبادة الجماعيّة يجب ألّا تُقتصر على كتب التاريخ فقط، بل لا بدّ أن تكون ذاكرة حيّة في أذهان صانعي السّياسات التّعليميّة. ومن الضروريّ أن تعكس السّياسات التّعليميّة الحاجة إلى معالجة تأثير الإبادة الجماعيّة، بحيث يكون هذا جزءًا أساسيًّا من المناهج الدراسيّة.
من ناحية أخرى، لا يشكّل دمج حقائق الإبادة الجماعيّة في المناهج الدراسيّة، مجرد سرد للماضي؛ بل هو ضرورة لرفع الوعي وتعزيز المرونة في الحاضر. يتعلّق الأمر بضمان أنّ الجيل القادم يفهم خطورة مثل هذه الفظائع، وأنّه مجهّز للتعرّف إلى العلامات المبكّرة لأعمال الإبادة الجماعيّة والاستجابة لها في المستقبل. بالنسبة إلى أطفال غزّة الذين عاشوا تجربة الإبادة الجماعيّة، لا تُعدّ حياتهم خلال هذه الحرب درسًا بعيدًا من التّاريخ، بل هو تجربة حيّة. قد يؤدّي دمجها في تعليمهم دورًا حيويًا في شّفائهم وتمكينهم. في الواقع، يتعيّن على جميع الأطراف، محليًا وعالميًا، دمج تعليم الإبادة الجماعيّة في مناهجها، إذا كنّا نريد منع حدوث مثل هذه الفظائع مرّة أخرى.
شكّلت الإبادة الجماعيّة التّعليميّة جزءًا من إبادة أوسع تستهدف الحياة البشريّة ذاتها. وإذا كانت مهمة التّعليم هي دعم الحياة البشريّة بوصفها هدفًا أساسيًّا في غزّة، فإنّ الصمود ليس مجرّد مفهوم، بل هو واقع مُعاش. وفي هذا، يُظهر سكّان غزّة تضامنًا اجتماعيًّا من خلال دعم بعضهم البعض، على رغم الظروف التي لا يُمكن تصوّرها. من هنا، فالتّعليم التّقليديّ غير كافٍ، بل يجب أن يتطوّر ليُصبح تعلّمًا من خلال الحياة والتّحديّات اليوميّة. يتطلّب مستقبل التّعليم في غزّة تحوّلًا، يتجاوز التّعليم الرسميّ للبحث عن الفرص في مواجهة الشدائد. وهذا الجهد التّعليميّ ليس مجرّد واجب، بل هو شكل من أشكال المقاومة ضدّ الإبادة الجماعيّة التي تسعى لمحو الوجود والهويّة.
الأمل يكمن في أنّ تضمين دروس الإبادة في المناهج الدراسيّة، لن يؤدّي إلى تعليمها دروسًا وحسب، بل أن يكون تنبيهًا قويًّا للمجتمع الدوليّ. يُمكن أن يكون التّعليم أداة ضمان لعدم نسيان مثل هذه الفظائع، ولئلّا تظلّ من دون ردع عند حدوثها. يمتلك التّعليم القدرة على أن يكون درعًا واقيًا، يرفع الوعي حول التأثير المدمّر للإبادة الجماعيّة، ويعزّز الالتزام بمنعها في المستقبل.
نشر النصّ بالإنكليزيّة في موقع EENET بتاريخ 22 آب / أغسطس 2024: The Destruction of Gaza’s Education System: A Generation at Risk