تحرّر العقول قبل الحدود: التعليم التحرّري أداةً لإعادة بناء المجتمعات
تحرّر العقول قبل الحدود: التعليم التحرّري أداةً لإعادة بناء المجتمعات
سهير ابن سالم | باحثة في التاريخ ومعلمة لمادة الأفراد والمجتمعات بالأكاديمية العربية الدولية بالدوحة/تونس

في ظلّ الحروب والنزاعات المسلّحة، حيث تتعرّض المنظومة التعليميّة التقليديّة للتدمير باستهداف المدارس وتعطيل العمليّة التعليميّة، ويجد الطلّاب أنفسهم في حالات هجرة ونزوح، تصبح الحاجة ملحّة إلى نظام تعليميّ يتجاوز القيود السياسيّة القمعيّة والحدود الجغرافيّة. وهنا، لا يكون التعليم مجرّد وسيلة لنقل المعرفة، بل يمثّل حلًّا استراتيجيًّا لإعادة بناء المجتمعات المتضرّرة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا.

في هذا السياق، يبرز التعليم التحرّريّ حلًّا لهذه المجتمعات التي تسعى إلى إعادة البناء والاستمراريّة على أسس تعزِّز العدالة، والتفكير النقديّ، والمشاركة الجماعيّة. وتتمثّل الإشكاليّة الرئيسة لهذه المقالة في فهم مفهوم التعليم التحرّريّ، واستراتيجيّات تطبيقه، والتحدّيات الرئيسة التي تواجه تنفيذ هذا النهج التعليميّ.

 

التعليم التحرّريّ وأبعاده

التعليم التحرّري نهج تعليميّ وفكريّ، برز على يد المفكّر البرازيليّ "باولو فريري"، ردَّ فعل على الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة السائدة في ذلك الوقت، بهدف إحداث تغيير إيجابيّ. يقوم هذا النهج على مبادئ جوهريّة، أبرزها تعزيز تفكير الطلّاب النقديّ، حيث يُعدّ "مُمارسة تهدف إلى تنمية الوعي النقديّ؛ ممّا يمكّن الطلّاب من أن يصبحوا فاعلين في تغيير واقعهم وظروفهم" (فريري، 1970، ص. 94). يمتدّ التعليم التحرّريّ إلى ما هو أبعد من حدود المدارس والجامعات، إذ يرتبط بجوانب اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة. فهو "يتجاوز إطار المؤسّسة التعليميّة التقليديّة، ويمكن أن يصبح أداة لتحرير الفرد من الاعتماد على النظام التعليميّ الرسميّ؛ ممّا يمنحه القدرة على التحكّم بتعلّمه" (Freire, 1974).

لاقى هذا النهج صدى واسعًا في العديد من الدول والمجتمعات، ولا سيّما تلك التي تُعاني الحروب والنزاعات، حيث وجدت فيه وسيلة تربط الطلّاب بواقعهم. من بين هذه الدول تمكن الإشارة إلى جنوب إفريقيا، وفلسطين، والسودان... وهذا يدفعنا إلى التساؤل حول استراتيجيّات تطبيق هذا النهج وفعّاليّته.

 

استراتيجيّات تطبيق التعليم التحرّري: شهادات وتجارب

النهج التحرّريّ في التعليم ردّ فعل على التعليم التقليديّ الذي يعتمد على التلقين، أو ما يُعرف بـ"التعليم البنكيّ"؛ حيث يلقِّن المعلّم المعلومات للطلّاب، والذين بدورهم يتلقّونها تلقّيًا سلبيًّا. في هذا النظام، يكون المعلّم مصدر المعرفة الوحيد، في حين يُعتبر الطلّاب متلقّين سلبيّين من دون مشاركة فعّالة في العمليّة التعليميّة: "المعلّم هو من يعرف كلّ شيء والطلّاب لا يعرفون شيئًا، فالمعلّم يتحدّث والطلّاب يستمعون استماعًا مطيعًا؛ المعلّم يختار ويقرِّر، والطلّاب يتكيّفون معه؛ المعلّم يتصرّف، والطلّاب لديهم أوهام التصرّف بأفعال المعلّم" (فريري، 1970، ص. 72). بهذه الطريقة، يتحكّم المعلّم بالعمليّة التعليميّة تحكّمًا كاملًا من دون أيّ دور للطالب.

في المقابل، جاء التعليم التحرّريّ تحدّيًا لهذا النموذج التقليديّ، وسعى إلى تحفيز مَلكات تفكير الطلّاب النقديّ، وتحرير عقولهم لتصبح أوعى بالقضايا المحلّيّة والعالميّة. وهذا النهج لا يقتصر على المؤسّسات التعليميّة التقليديّة، بل يمتدّ إلى خارج أسوار المدارس والجامعات، ولا سيّما في البيئات التي تعرّضت فيها هذه المؤسّسات إلى الدمار، مثل قطاع غزّة. على سبيل المثال، إحدى المدرِّسات الغزّاويّات، وهي هيا أبو ميري، تبنّت استراتيجيّات تعليميّة تعتمد النقاش والحوار بين الطلّاب. هذا التبنّي أدّى إلى تعميق فهمهم القضايا الراهنة، حيث كانت تركِّز على طرح أسئلة نقديّة لتحفيز الطلّاب على التفكير، وربط ما يتعلّمونه بالواقع الذي يعيشونه؛ ممّا أثمر نتائج إيجابيّة، إذ طرح الطلّاب تساؤلات عميقة حول قضايا الاحتلال والعدالة الاجتماعيّة. اتّجه العديد من المعلّمين حول العالم إلى هذا النهج بمبادرات تهدف إلى ربط التعليم بالواقع الاجتماعيّ والسياسيّ الذي يعيشه الطلّاب. في جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، وخلال فترة الفصل العنصريّ، كيَّف بعض المدرّسين المناهج التعليميّة لتعزيز الفكر النقديّ ومواجهة العنصريّة واللامساواة. نذكر هنا مشروع "Bridge the Gap"، وهو مشروع استخدِمت فيه استراتيجيّات تعليميّة قائمة على طرق تعليم تحرّريّة لربط الطلّاب بواقعهم. كذلك، استهدفت مدرسة التعليم التحويليّ "LFAP" طلّاب المناطق الفقيرة، واستخدمت أساليب مبتكَرة واعتمدت على قدرة الطلّاب، أفرادًا، على إحداث تغيير. ركّزت هذه المبادرات على قضايا الفصل العنصريّ والظلم الاجتماعيّ، وساعدت في تنمية وعي الطلّاب بهذه القضايا؛ ممّا أسهم في تحرّرهم من الأفكار التي كان يفرضها النظام الرسميّ القائم.

 

ومن بين الاستراتيجيّات التي تُبنّيت ضمن هذا النهج التحرّريّ، تكييف المناهج التعليميّة لتتناسب مع الظروف المحلّيّة. على سبيل المثال، تذكر المدرّسة أبو ميري في مقابلتها، أنّها عدّلت بعض الدروس لتتناسب مع واقع الحرب الذي يعيشه الطلّاب في غزّة، فغيّرت بعض الدروس أو كيّفتها الذي يعيشونه في ظلّ الحرب. وبدلًا من درس حول الآثار في دولة معيّنة للصفّ الثاني، طلبت إلى كلّ طالب إجراء مقابلة مع سكّان منطقته، للحديث عن الآثار الموجودة في تلك المنطقة، مثل دير البلح أو خان يونس، وقد تحوّل أغلبها إلى أماكن نزوح. أثمر هذا النشاط تنوّعًا في أعمالهم، كما أدّى إلى تعميق معرفتهم بمدينتهم وتاريخها، ووعيهم بأهمّيّة مدنهم. أضف إلى أنّ الأمثلة التي كانت تطرحها مرتبطة ومتّصلة اتّصالًا مباشرًا بما يحدث في غزّة، سواء حول العيش في الخيم، أم النزوح، أم الصفات التي عليهم التمتّع بها لمواجهة هذه التحدّيات. 

هذه نماذج من بعض استراتيجيّات التعليم التحرّريّ التي أسهمت في تكريس الفكر النقديّ والتشابك مع الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ - وهو ما يفسّر هدم الاحتلال المتواصل للمدارس والجامعات والمكتبات، لأنّها تُعدّ مصدر مقاومة موازية - لأنّ هذا النهج التعليميّ أصبح جزءًا لا يتجزّأ من الحركة النضاليّة.

 

فاعليّة التعليم التحرّريّ

أثبت التعليم التحرّريّ فاعليّته في العديد من التجارب حول العالم، حيث أخرج أجيالاً قادرة على التفكير النقديّ واتّخاذ المبادرات. في جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، كان نيلسون مانديلا من أبرز الشخصيّات التي استفادت من التعليم التحرّري، وهو الذي تخرّج من جامعة "فورت هير" المعروفة ببرامجها القائمة على التعليم التحرّري والتفكير النقديّ ومواجهة سياسات الفصل العنصريّ، وأصبح رمزًا للنضال ضدّ الظلم. كما أنّ الطلّاب الذين نشؤوا في ظلّ الاحتلال والصراعات أصبحوا قادرين على القيادة والمشاركة الفعّالة في مجتمعاتهم، حيث لم يقتصر التعليم بالنسبة إليهم على التلقين، بل أصبح عمليّة تحريريّة تساعدهم على بناء وعي نقديّ حول العالم.

أحد جوانب هذا النهج الإيجابيّة هو العلاقة الجديدة التي تنشأ بين المعلّم والطالب. ففي التعليم التقليديّ، تكون العلاقة عموديّة وسلطويّة، بينما تصبح في التعليم التحرّريّ علاقة تشاركيّة وتفاعليّة، ذلك أنّ "التعليم الحقيقيّ ليس مجرّد نقل المعرفة، بل هو عمليّة تشاركيّة تدعو المتعلّم إلى فهم العالم الذي يعيش فيه، والتفكير في كيفيّة تغييره" (فريري، 1970، ص. 47). يتيح هذا النوع من التعليم أمام المعلّمين فهم الطلّاب فهمًا أفضل، ليس على المستوى الأكاديميّ فحسب، بل على المستوى النفسيّ والاجتماعيّ، ولا سيّما في حالات الصراع مثل ما يحدث في غزّة، حيث كان المعلّمون يسعون لتوفير بيئة آمنة للطلّاب، كما تفعل المعلّمة هيا خلال الحرب الحاليّة في غزّة. وهي تقول في ذلك: "المفارقة الجميلة أنّ التدريس خارج جدران المدرسة أصبح يمثّل لهم الأمان، فأحيانًا، عندما نسمع انفجارًا أو قصفًا، كنت أحاول احتواء خوفهم بإشعارهم أنّهم بأمان، وأنّنا هنا لنتعلّم، وأن لا يركِّزوا على أصوات القصف، بل على التعلّم فقط. كنت أحاول أيضًا التعامل مع الوضع بتشغيل موسيقى هادئة للتركيز. كما كنت أقوم معهم بنشاط ترفيهيّ، فأطلب منهم مثلًا أن يغمضوا أعينهم ويتخيّلوا أنّ الحرب انتهت، وأن يخبروني بأوّل شيء سيقومون به. وتكون إجابة كلّ واحد منهم: "أشوف غرفتي، أشوف ألعابي، ارجع لبيتي".

 

التحدّيات التي تواجه تطبيق النهج التحرّريّ

على رغم فعّاليّة هذا النهج، إلّا أنّه يواجه تحدّيات عديدة. من أبرزها: غياب بيئة تعليميّة آمنة نتيجة القصف المستمرّ، ونقص الموارد التكنولوجيّة بسبب انقطاع الكهرباء المتكرّر. فهذه التحدّيات تُعرقل العمليّة التعليميّة. حتّى استخدام الوسائل التقليديّة مثل الكتب والأوراق، يصبح صعبًا في هذه الظروف. بالإضافة إلى ذلك، يعاني المعلّمون في غزّة نقص الدعم المحلّيّ والدوليّ، سواء على المستوى الأكاديميّ أم النفسيّ، حيث تذكر المعلّمة أبو ميري أنّ "كلّ ما أقوم به هو من مجهودي الخاصّ، ولا يوجد دعم حكوميّ أو دوليّ. لا يوجد دعم كافٍ في غزّة، لأنّ الموادّ محدودة. لذلك، كلّ مؤسّسة تدعم دائرتها، ولا سيّما الدعم النفسيّ، إذ لم يكن متوفّرًا على رغم أنّه أولويّة في ظلّ ما نعيشه. فالشعور بما عاشه هؤلاء الأطفال وما مرّ عليهم خلّف لديهم غضبًا وحقدَا وكبتًا كبيرًا. لذلك، أرى أنّهم بحاجة ملحّة إلى علاج نفسيّ".

من التحدّيات الأخرى أيضًا، صعوبة انتقال بعض المعلّمين من التعليم التقليديّ إلى التعليم التحرّريّ، حيث يتطلّب هذا التحوّل تبنّي استراتيجيّات جديدة تحتاج إلى جهد مضاعف، وتطوير المهارات تطويرًا مستمرًّا. علاوة على ذلك، يتطلّب التعليم التحرّريّ بناء بيئة تشاركيّة تتيح للطلّاب المشاركة الفعّالة في العمليّة التعليميّة، وهو ما يشكّل تحديًّا في ظلّ الظروف الصعبة التي يعيشها الطلّاب والمعلّمون على حدّ سواء، وهو ما تُعانيه العديد من مجتمعات اليوم الخاضعة للقمع السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ.

 

* * *

القيود التي تفرضها الحروب والصراعات والنزاعات جَعلت من التعليم التحرّريّ حاجة ملحّة اليوم، لتعميق فهمنا بما يحصل في عالمنا. فهو أكثر من كونه استراتيجيّة أو بديلًا علميًّا، هو أداة مقاوِمة وكسر للقيود الاجتماعيّة والسياسيّة، ولا سيّما الفكريّة؛ لما يرتكز إليه من مبادئ واستراتيجيّات تجعل الطالب مستوعبًا الواقع، وفاعلًا ومؤثِّرًا في مجتمعه. وهو ما أثبتته العديد من التجارب التي عيشت في ظلّ النزاعات والحروب. هذا التعليم سيبقى دائمًا منشودًا لدى العديد من المجتمعات التي ما زالت حبيسة سلطة سياسيّة واستعماريّة قمعيّة، وسيبقى دائمًا أملًا يمكن تحقيقه.

 

المراجع

- فريري، باولو. تعليم المقهورين. 1998.

- Freire, Paulo. Education for Critical Consciousness. 1974.