يعدّ تأهيل أعضاء هيئة التعليم عاملًا رئيسًا في إنجاح أيّ إصلاح تربويّ. يقتضي ذلك وجود منظومة متكاملة تقوم على حسن انتقاء المعلّمين وتكوينهم، إلى جانب إرساء آليّات فعّالة تيسِّر تتبّع عملهم، وفق مقاربة إيجابيّة تُستثمَر في تجويد الممارسات الفصليّة وتطويرها، حتّى تستجيب لحاجات الطلبة المتنوِّعة. ذلك أنّ التعليم ليس مجرّد وظيفة يمكن اختزالها في مهمّات محدّدة، ولا يمكن حصرها في أهداف إجرائيّة تحدّ من أبعادها، لتصبح عمليّات روتينيّة، تخلو من جوهرها الإنسانيّ النبيل، وعمقها التربويّ الذي يجعل الطالب هو المنطلَق والغاية. لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن أن نجعل من التعليم مجالًا مفتوحًا لكلّ الممارسات والاجتهادات الفرديّة التي يمكن أن تمسّ غايات المدرسة ومبرِّر وجودها مؤسّسةَ تنشئةِ اجتماعيّة، تتفرّد وتتميّز بقدرتها على التطوّر والتكيّف مع المتغيّرات والتحدّيات الفرديّة والجماعيّة.
من الأهمّيّة بمكان الاستثمار بالمعلّم، ليكون قادرًا على وعي ذاته، وفهم أبعاد المهمّة التي يؤدّيها، وإدراك مختلف الإشكاليّات المرتبطة بممارساته، بغية تأهيله لمواكبة المستجدّات البيداغوجيّة والديداكتيكيّة، والتحدّيات التي تواجه عالم التربية والتكوين. ولا ينبغي أن يقتصر التأهيل على المعارف العامّة، أو التدريب الميدانيّ الذي ما زال يمارَس ممارسة تقليديّة؛ بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى إرساء منظومة تكوينيّة، تتكيّف ومتغيّرات منظومتنا التربويّة واحتياجاتها. فضلًا عن تخصيص جزء مهمّ من التكوينين النظريّ والميدانيّ للقضايا المرتبطة ببناء هويّة المعلّم المهنيّة، حتّى يتمكّن من الانتقال بوعيه من حالة خرّيج الجامعة الباحث عن عمل إلى حالة المعلّم، بكلّ ما تستدعيه من تفاصيل فعل التعليم وأبعاده المتنوّعة.
من هنا، نسأل: كيف يمكن للمعلّم أن يؤدِّي دوره من دون إدراك هويّته المهنيّة؟ كيف يمكن أن نطالب المعلّم ببناء وضعيّات تعليميّة ذات معنى للطالب، وهو يفتقد ذلك المعنى في ممارسته التعليميّة؟ كيف يمكن للتأهيل المهنيّ أن يسهِم في إرساء أسس هويّة مهنيّة تجعل الممارسات التعليميّة ذات معنى للمعلّم؟ يحاول هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة، بتوضيح هويّة المعلّم المهنيّة وخصوصيّتها، ودور التأهيل المهنيّ في تشكيلها.
حول مفهوم الهويّة المهنيّة ومحدّداتها
يمكن تعريف الهويّة المهنيّة بأنّها قدرة الفرد على تحديد مساره المهنيّ، بناءً على معرفته بذاته، أي بقدراته وإمكانيّاته المهنيّة، ومعرفته بمتطلّبات عمله، وربط المعرفتين لتحديد اتّجاهه المهنيّ (شرعة، 2000). فالهويّة المهنيّة هي الرؤية التي يمتلكها الشخص عن اختياراته وآفاقه المهنيّة، وفق ما يتناغم مع واقع سوق العمل؛ ذلك أنّ الكثير من خرّيجي مؤسّسات التعليم العالي والمهنيّ يصابون بالإحباط نتيجة الفجوة الظاهرة بين المُنتَظر من سوق العمل، وما يتطلّبه هذا الأخير من مؤهِّلات أو يفرضه من عراقيل أمام الخرّيجين الجدد. بالإضافة إلى ما تغالي به المؤسّسات التكوينيّة من إبراز الآفاق المهنيّة لتخصّصاتها وشِعبها، من أجل استقطاب الطلبة المتفوّقين، في ظلّ غياب التنسيق الضروريّ بين هذه المؤسّسات والجهات المهنيّة.
تتدخّل في تحديد الهويّة المهنيّة كذلك، سلوكيّاتُ المعلّمين المهنيّة الذين يفضّلون إعطاء صورة مثاليّة عن مجالات تخصّصهم. تُضاف إلى ذلك الصور الذهنيّة الاجتماعيّة السائدة عن مهنة ما، في سياق مجتمعيّ معيّن، باعتبار أنّ الهويّة المهنيّة هويّة اجتماعيّة متجذِّرة، وفق نتاج تنشئة اجتماعيّة تحدث داخل الحياة المهنيّة، وتشمل العلاقات التقنيّة وعلاقات القوّة والصراع الطبقيّ وكيفيّة التعامل مع الآخرين (Gagne, 2015).
وعليه، فثمّة محدّدات وعوامل مختلفة ترسم الهويّة المهنيّة، يذكر (Cattonar 2008) منها: الصورة الذاتيّة، واحترام الذات، والتحفيز الوظيفيّ، وإدراك المهمّات، والمنظور المستقبليّ، والرضا الوظيفيّ، والالتزام المهنيّ، والفعّاليّة الذاتيّة، وتحفيز العمل. أمّا (Fray و Picouleau 2010) فيحيلان ذلك إلى الدور الذي يؤدّيه الانتماء إلى مؤسّسة العمل.
هويّة المعلّم المهنيّة وسؤال الخصوصيّة
يمكن للمعلّم أن يعرِّف نفسه بالخصائص العامّة لمهنة التعليم، وهنا تظهر أهمّيّة وجود إطار مرجعيّ للمهن والكفاءات، يحدِّد بوضوح طبيعة كلّ مهنة والكفايات اللازمة لممارستها. ناهيك عن أهمّيّة وجود نصوص قانونيّة وتنظيميّة تقدِّم صورة واضحة عن المهنة، ولا سيّما في ما يتعلّق بطبيعة الأدوار والمهمّات المنوطة بها. كما يمكن للمعلّم أن يعرِّف نفسه بموقعه في المجموعات المهنيّة التي ينتمي اليها، وهنا تظهر إشكاليّة التراتبيّة المهنيّة وطبيعة العلاقات السائدة بين الفاعلين التربويّين، حيث يحاول كلّ واحد منهم اتّخاذ موقف من وظيفته، انطلاقًا من نظرته إلى أدوار الأخرين ووظائفهم. فالوسط المهنيّ مجرّد صورة عن المجتمع العام بتناقضاته ونظمه السلطويّة، حيث يرتبط تمثّل الذات بالمعرفة والمعتقدات والمواقف والقيم والمهارات والأهداف والمشاريع والتطلّعات التي يعترف بها الشخص، أو يعزوها إلى نفسه، بعيدًا عن سياقه المهنيّ.
أمّا في ما يتعلّق بالمؤسّسة، فتتشكّل هويّة المعلّم المهنيّة ببنية المؤسّسة وآليّات اشتغالها والصورة التي تعكسها عن نفسها والعاملين فيها؛ فأهمّيّة خلق حياة مدرسيّة حيويّة ومنتِجة وجذّابة تظلّ مسألة أساسيّة، من أجل بناء وعي مهنيّ إيجابيّ لدى المعلّم. تلك الحياة المدرسيّة التي تتطلّب بلورة رؤية تعكس أدوارها وتطلّعات أفرادها، وتفعيل جوانب حياة المعلّم المهنيّة. ذلك أنّ المدرسة المفعمة بالحياة لا ينبغي أن تكون كذلك بالنسبة إلى الطالب فحسب، بل بالنسبة إلى المعلّم أيضًا، لأنّ المعلّم عنصر رئيس، يستطيع أن يطبع الحياة المدرسيّة بطابعه. فكلّما كانت علاقته بالمؤسّسة إيجابيّة، كانت علاقته بالطالب كذلك، وكان له دور في تنشيط مؤسّسته وتطويرها تطويرًا بنّاءً ومثمِرًا.
من هنا، يقتضي تحديدُ هويّة المعلّم المهنيّة تحليلَ الممارسة التعليميّة بمختلف أبعادها وتفاعلاتها، بكلّ ما يتطلّبه الأمر من استثمار نتائج البحث الأنثروبولوجيّ ومختلف العلوم الإنسانيّة، من أجل الاقتراب أكثر من واقع الممارسة التعليميّة اليوميّة، بتفاصيلها المرتبطة بما تسعى إلى تحقيقه من معانٍ وأهداف وقيم (Gohier, et al., 2001). ولا يقتصر ذلك على المقاربات المعتمَدة، والخطاب الذي يتبنّاه المعلّم، وطرق ممارسته مهمّاته، بل يشمل جوانب شخصيّته الوظيفيّة، بما في ذلك كيفيّة ممارسته سلطته ودوره الاجتماعيّ (Karaolis & Philippou, 2019).
يرى (Bruno 2011) أنّ هويّة المعلّم الوظيفيّة ثمرة التفاعل بين التاريخين، الشخصيّ والمهنيّ؛ فهي سيرورة لا تبدأ ولا تنتهي بولوج مهنة التعليم. لذلك، تفرض مهنة التعليم على مؤسّسات تأهيل المعلّمين الحرص على إعادة تشكيل هويّة جديدة للمعلّم، تستثمِر في تراكماته وتجاربه الإيجابيّة، وفق غايات المنظومة التربويّة وحاجاتها.
التأهيل المهنيّ وتشكيل هويّة المعلّم في المغرب
يستدعي تعدّد أبعاد العمليّة التعليميّة الانفتاح على تخصّصات جديدة، تنهل من مجالات علم النفس المعرفيّ القائمة على تمكين المعلّم من منح ممارساته معانيَ إيجابيّة، تعكس نظرته البنّاءة والمحفِّزة تجاه وظيفته. فالتركيز على الجانب التقنيّ من عمل المعلّم يفقده عمقه الإنسانيّ، ويدخله في حالة من الاغتراب الوظيفيّ. ذلك أنّ الإفراط في التقنيّة، بدافع ضبط تفاصيل الفعل التعليميّ، يخلق مسافة نفسيّة بين المعلّم إنسانًا، ووظيفته.
ما زالت المراكز الجهويّة لمهن التربية والتكوين في المغرب تتعامل مع تدريب المعلّمين الميدانيّ بالطريقة ذاتها التي كانت مُتّبَعة منذ عقود: يحضر المعلّم-المتدرِّب حصصًا مُلاحظَة، قبل أن يتحمّل مسؤوليّة تقديم دروس. لكن، وبغضّ النظر عن جدوى هذه الآليّة على مستوى ضبط عمليّات تخطيط الدروس وتقييمها، هل يمكن اختزال عمل المعلّم في تقديم الدروس؟
يعدّ التناوب بين التكوينين، النظريّ والميدانيّ، مقاربة فعّالة. لكن ينبغي العمل على وضعيّات مهنيّة تعيد تشكيل شخصيّة المعلّم، باستحضار عناصر الفعل التربويّ بأبعاده المختلفة (المعرفيّة والمنهجيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والتواصليّة). ذلك أنّ الأدوار المُنتظَرة من المعلّم أصبحت متنوّعة، تنطلق من التفاعل النفسيّ-الاجتماعيّ داخل الفصل الدراسيّ، مرورًا بالتفاعلات والعلاقات التي ينسجها في الفضاء المدرسيّ، وصولًا إلى التجديد والتطوير والإبداع. تتطلّب هذه الأدوار شخصيّة مبادِرة ومتفتِحة على كلّ ما يتطلّبه ذلك من استعدادات وكفايات.
بالإضافة إلى ذلك، يترك الرضا الوظيفيّ أثرًا كبيرًا في فاعليّة المعلّم وأدائه المهنيّ، وهو ما ينبغي الاستثمار في بنائه، بتحويل مراكز تكوين المعلّمين إلى فضاءات مفعمة بالحياة. يتمّ ذلك بتشجيع النشاطات الفكريّة والثقافيّة والفنّيّة والرياضيّة التي تعزِّز التفاعل الإيجابّي بين المعلّمين، وتسمح لهم ببناء شخصيّة جديدة. فتداولُ الأفكار وتمحيصها والمنافسة القائمة على الموهبة والإبداع عناصرُ مهمّة لصقل شخصيّة المعلّم-المتدرِّب، ولا سيّما إذا ما اعتُمِد برنامج تدريبيّ في المؤسّسات التعليميّة، يجمع بين النشاطات الفصليّة ونشاطات الحياة المدرسيّة. يصبح المعلّم-المتدرِّب، بذلك كلّه، عنصرًا فاعلًا في تجويد أداء المؤسّسة التعليميّة المستقبلَة، والارتقاء بأدائها التربويّ والثقافيّ والرياضيّ والفنيّ.
* * *
انطلاقًا ممّا تقدّم، نخلص إلى أنّ هويّة المعلّم المهنيّة عمليّة مستمرِّة، تتداخل فيها أبعاد متنوِّعة وعناصر متعدِّدة. لكن، يبقى دور مؤسّسات تكوين المعلّمين وتأهيلهم محوريًّا وتأسيسيًّا، لأنّها تمنحهم الأدوات المعرفيّة والمنهجيّة التي تمكِّنهم من بناء شخصيّتهم الوظيفيّة، وتطويرها بهويّة تتفرّد بتفرّد مهنة المعلّم، وتفرّد غاياتها ومركزيّتها داخل النسق المجتمعيّ كلّه.
المراجع
- شرعة، حسين سالم. (2000). الأمن النفسيّ وعلاقته بوضوح الهويّة المهنيّة. مؤتة للبحوث والدراسات. 15(3). 157-177.
- Bruno, Robbes. (2011). Crise de l'autorité à l'école: une idée répandue à interroger. Spécificités. 1(4). 199-216.
- Cattonar, B.(2008). L'entrée dans le métier d'enseignant: un moment important d'élaboration identitaire. In : Dans L., Portelance, J., Mukamurera, S., Martineau C. and Gervais. L'insertion en milieu scolaire: une phase cruciale du développement professionnel de l’enseignant. Les Presses de l'Université Laval. 87-106.
- Fray, A. and Picouleau, S. (2010). Le diagnostic de l'identité professionnelle: une dimension essentielle pour la qualité au travail. Management and Avenir. 38(1). 72-88.
- Gagne, A. (2015). Les valeurs issues des carrières initiales des enseignants en formation professionnelle: leurs rôles dans le développement d’une nouvelle identité professionnelle d’enseignant. Mémoire présenté à l’université du Québec à Chicoutimi comme exigence partielle de la maitrise en éducation.
- Gohier, C., Anadón, M., Bouchard, Y., Charbonneau, B. and Chevrier, J. (2001). La construction identitaire de l'enseignant sur le plan professionnel: un processus dynamique et interactif. Revue des sciences de l'éducation. 27(1), 3–32.
- Karaolis, A. and Philippou, G. N. (2019). Teachers’ Professional Identity. In: Hannula, M., Leder, G., Morselli, F., Vollstedt, M. and Zhang, Q. Affect and Mathematics Education. ICME-13 Monographs.