في عالمنا المعاصر المتسارع، أصبحت التربية أشبه برحلة مليئة بالتحدّيات المتجدّدة التي تفوق ما واجهه أولياء الأمور في أيّ وقت مضى. فاليوم لم تعد التربية تقتصر على توفير احتياجات الأطفال الأساسيّة، أو توجيههم سلوكيًّا فحسب، بل أصبحت مسؤوليّة معقّدة، تتطلّب توازنًا دقيقًا بين تلبية احتياجات الأسرة، والعمل، والحياة الشخصيّة. ووفقًا لتقرير الجمعيّة الأمريكيّة لعلم النفس لسنة 2021، تشير الدراسات إلى أنّ أولياء الأمور يرزحون تحت وطأة التوتّر والقلق المتزايدَين، نتيجة محاولاتهم المستمرّة للتوفيق بين حياتهم المهنيّة، وأدوارهم كأوصياء على أطفالهم. هذا العبء المتراكم ينشأ من شعورهم بعدم القدرة على تخصيص الوقت الكافي لأنفسهم، ما يضعهم في دائرة ضغوط نفسيّة، تؤثّر سلبًا في صحّتهم الجسديّة والعاطفيّة.
يكمن حلّ هذه المشكلة في تعليم الأطفال المهارات الحياتيّة؛ فتعلّم الأطفال كيف يكونون مستقلّين في إدارة شؤونهم، يخفّف العبء على الآباء والأمّهات، ويمنحهم مساحة للاهتمام بأنفسهم، واستعادة التوازن في حياتهم. إلى جانب هذا، تكتسب المهارات الحياتيّة أهمّيّة كبيرة بالنسبة إلى الأطفال، لأنّها ليست مجرّد أدوات لتسيير حياتهم اليوميّة، بل هي الأساس الذي يساعدهم على تطوير شخصيّاتهم، وتعزيز قدراتهم على اتّخاذ القرارات، وحلّ المشكلات، والتعامل مع التحدّيات بثقة. تعلّم المهاراتُ الحياتيّة الأطفال الاستقلاليّة والمسؤوليّة والتواصل الفعّال، وهي قيم تظلّ معهم مدى الحياة، وتساعدهم في بناء مستقبل مشرق لأنفسهم ولمن حولهم.
في هذا المقال، سنستعرض أهمّ المهارات الحياتيّة التي يجب غرسها في نفوس الأطفال، لتكون بمثابة أدوات تعينهم في حياتهم، وتخفّف عن والديهم الأعباء المتزايدة.
المهارات الحياتيّة: بوّابة العبور من المعرفة إلى الإبداع في الحياة اليوميّة
تعتبر المهارات الحياتيّة جسرًا يربط بين الحاضر والمستقبل، وبين النظريّة والتطبيق، وبين الفكرة والابتكار. من خلال هذه المهارات، نصبح قادرين على اتّخاذ قرارات سليمة، وحلّ المشكلات بطرق إبداعيّة، والتواصل بفعّاليّة، والعمل مع الآخرين بشكل مُنسجم. وفقًا للجمعيّة الأمريكيّة لعلم النفس، تُعرّف المهارات الحياتيّة بأنّها مجموعة من الأعمال والآداب والسلوكيّات التي تساعد الأفراد على التفاعل بنجاح مع مواقف الحياة اليوميّة.
تتنوّع قائمة المهارات بتنوّع البيئة وتعقيدها، وتختلف من باحث إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر. فنجد بعض الدراسات تركّز على الجانب الصحّيّ، مثل المحافظة على نظافة الجسم والمكان بمهارات التدبير المنزليّ، وتركّز أخرى على الجانب الاجتماعيّ العلائقيّ، مثل مهارات إدارة المال والعمل الجماعيّ، في حين تركّز دراسات أخرى على الجانب الذهنيّ، مثل مهارات التفكير المنطقيّ، وحلّ المشكلات التي تبرز في مهارة الخياطة مثلًا.
انطلاقًا من تجربتي الشخصيّة باعتباري أستاذة في تعليم الصفوف الابتدائيّة، وبفضل التنسيق المستمرّ مع مدير مدرستي وتوجيهه الداعم، أتيحت لي فرصة تطوير مجموعة من الأنشطة المتنوّعة التي تعزّز المهارات الحياتيّة، وتنفيذها مع الطلّاب. كانت تلك الأنشطة شاملةً عدّةَ مجالات من المهارات الحياتيّة، ما أضفى تأثيرًا إيجابيًّا ملموسًا في تجربة التعليم والتعلّم داخل الفصل.
مهارة التدبير المنزليّ والطبخ
في إطار تدريسي مادّة اللغة الفرنسيّة للصفّ الثالث الابتدائيّ وفق المنهج التونسيّ، وبهدف تنمية الوعي بالتغذية السليمة، والعناية بالجسم، وتعزيز العمل الجماعيّ، نظّمت نشاطًا شارك فيه التلاميذ مع أمّهاتهم، لتعلّم طريقة تحضير "الكريب". قام التلاميذ بصنع "الكريب" بأنفسهم،بمساعدة أمّهاتهم وإرشادهنّ: أحضروا جميع المستلزمات، وشاركوا في تزيين "الكريب" داخل الفصل. اعتمدت في هذا النشاط على استراتيجيّة "أمّي كوني معي دائمًا"، والتي طُبّقت للمرّة الأولى في مدرستي، فكانت السبب في حضور الأمّهات إلى الفصل، ما عزّز العلاقة بين وليّ الأمر والمربّي. هذا التفاعل ساعد الأطفال في تعلّم تحمّل المسؤوليّة، وتطوير مهارات الاعتماد على النفس. وكانت أهدافي واضحة، وهي:
تنمية الاستقلاليّة: عندما يتعلّم الأطفال المهارات الحياتيّة، يتمكّنون من القيام بالمهام اليوميّة بأنفسهم، مثل ترتيب أغراضهم، وإعداد الوجبات البسيطة، والتخطيط ليومهم، وبذلك يُرفع الكثير من العبء عن كاهل الأمّ.
تعزيز الثقة بالنفس: اكتساب هذه المهارات يزيد من ثقة الأطفال في قدرتهم على مواجهة تحدّيات الحياة اليوميّة. كما أنّ تحسين مهارات التعاون، وتوثيق الروابط بين الأسرة والمدرسة في إطار تربويّ، يدعم التعاون والتواصل المستمرّ.
يمكن اعتماد مهارة الطبخ في مجالات أخرى، على سبيل المثال:
الرياضيّات:
يمكن استخدام مهارة الطبخ لتعليم مفاهيم القياس، مثل تحديد الكميّات، واستخدام الكسور (نصف كوب، ربع ملعقة...)، وحساب الوقت اللازم لطهو الوجبات.
العلوم:
يمكن استغلال عمليّة الطهو لتفسير التغيّرات الكيميائيّة والفيزيائيّة التي تحدث عند مزج المكوّنات أو تسخينها، ما يسهم في فهم التلاميذ مفاهيم التغيّرات في الحالة، والتفاعلات، والتغذية الصحّيّة.
التربية المدنيّة:
يمكن ربط الطبخ بالعمل الجماعيّ والتعاون بين التلاميذ، إذ يتعلّم الأطفال كيفيّة توزيع المهامّ، والعمل فريقًّا ضمن مسابقة أطيب طبق مثلًا. كما يمكن تعزيز القيم، مثل النظافة والاهتمام بالصحّة العامّة.
التربية على القيم الإنسانيّة:
يمكن ربط الطبخ بمفاهيم مثل احترام الطعام، وشكر النعم، وتعليم التلاميذ التواضع والمسؤوليّة تجاه مواردهم الغذائيّة، وعدم إهدار الطعام، لا سيّما عند الذهاب إلى المطاعم والفنادق للاستجمام. فيمكن هنا تنفيذ مسرحيّات، وتجسيد دور الطبّاخ ودور الحرّيف، من باب التوعية البنّاءة.
مهارة الصيانة المنزليّة:
أجرينا ورشة عمل حول الصيانة الخفيفة للأطفال في الصفّ السادس، بهدف تعليمهم مهارات صيانة بسيطة، تمكّنهم من مساعدة والديهم في المنزل، وتعزّز قدرتهم على حلّ المشكلات. خلال الورشة، دُرّب الأطفال على تغيير المصباح الكهربائيّ بأمان، واستبدال كيس المكنسة الكهربائيّة، وتركيب رفّ صغير باستخدام الأدوات اليدويّة المناسبة.
أحد تلاميذي كان يفضّل اللعب على المشاركة في أعمال المنزل. لكن، بعد الورشة، شعر بفخر كبير عندما نجح في تغيير المصباح الكهربائيّ في غرفته بيديه، تحت إشراف والديه الدائم. لاحقًا قال لي بابتسامة واثقة: "الآن أشعر أنّني أستطيع إصلاح أيّ شيء!"، في إشارة إلى تطوّر قدرته على الاعتماد على نفسه، مع حفاظه على دعم والديه ورعايتهما.
لاحظت بتواصلي المستمرّ مع والديه، أنّه أصبح يتطوّع باستمرار لمساعدة أمّه وأبيه في أعمال الصيانة المنزليّة البسيطة، وصار يخبرني بذلك بنفسه. درّسته في الصفّ السادس من المرحلة الابتدائيّة، وهو اليوم في الصفّ التاسع من المرحلة الإعداديّة، وما يزال يتواصل معي باستمرار، ويخبرني بكلّ مستجدّاته الدراسيّة والعائليّة.
لا تعزّز هذه المهارات استقلاليّة الأطفال فحسب، بل تسهم أيضًا في تعزيز ثقتهم بأنفسهم، وقدرتهم على تحمّل المسؤوليّة. كما يعزّز هذا السلوك من حسّ التعاون لديهم، ويقوّي الروابط الأسريّة، ما ينعكس إيجابيًّا على صحّتهم النفسيّة وتفاعلهم الاجتماعيّ.
وحتّى في مجال التربية والتعليم، فالعمليّة التعليميّة لا تقتصر على حصّة التدريس، بل تمتدّ العلاقة بين المربّي والتلميذ إلى ما هو أبعد من جدران الفصل الدراسيّ. لهذا السبب، يجب أن يكون التواصل بينهما دائمًا ومستمرًّا.
مهارة إدارة المال وعلاقتها بالرياضيّات
نظّمت نشاطًا تعليميًّا مبتكرًا لتعليم التلاميذ أساسيّات إدارة المال؛ إذ وزّعتهم في مجموعات صغيرة، وأعطيت كلًاّ منهم مصروفًا افتراضيًّا ليوم كامل. كان عليهم استخدام هذا المصروف لشراء مستلزمات مدرسيّة، وألعاب صغيرة، من "متجر المدرسة" الذي أُعدّ خصّيصًا لهذا الغرض. تعلّم التلاميذ من هذه التجربة التمييز بين الاحتياجات الأساسيّة مثل الكتب والأقلام، والرغبات مثل الألعاب والحلوى، ما أسهم في تعزيز مهاراتهم في التخطيط واتّخاذ القرارات الماليّة.
في إطار عملي عضوًا في الهيئة الإداريّة ولجنة الإشراف في الجمعيّة التونسيّة لتكنولوجيا التربية الحديثة، كنت مسؤولة عن توظيف التكنولوجيا في التعليم، وتنظيم المبادرات الافتراضيّة، ومن بينها مبادرة "رمضان بنكهة بلدي العربيّ". شجّعت تلاميذي على المشاركة في هذه المبادرة، ما ألهم إحدى تلميذاتي للبحث عن طرق مبتكرة للمشاركة، واقترحت أن تقوم مع أصدقائها بادّخار المال لدعم المحتاجين في شهر رمضان.
بالفعل، شارك التلاميذ باسم المدرسة، وفازوا بالجائزة الأولى على مستوى الجهة، ما رسّخ في نفوسهم قيم الادّخار، واستخدام المال بحكمة لتحقيق أهداف نبيلة. كان لهذه التجربة أثر كبير في تعزيز قدرتهم على اتّخاذ قرارات ماليّة ذكيّة، وربط مهارة إدارة المال بالرياضيّات، كما غرست فيهم أهمّيّة التخطيط لتحقيق أهدافهم المستقبليّة، ودعم المبادرات الأخلاقيّة الهادفة.
مهارة الخياطة
ليست الخياطة مجرّد مهارة حياتيّة مهمّة، بل هي أداة مبتكرة، يمكن توظيفها لتعزيز مفاهيم تعليميّة أخرى. فباستخدام هذا النهج، يمكن تعليم الأطفال في الصفوف الابتدائيّة كيفية رسم أنواع مختلفة من الخطوط، مثل الخطّ المستقيم، والمنحني، والمتعرّج، ما يسهم في تطوير مهاراتهم اليدويّة، وتعزيز التنسيق بين العين واليد.
على سبيل المثال، قمت بتصميم نشاط عمليّ، لتعليم التلاميذ خياطة خطوط بسيطة على قطع قماشيّة صغيرة، باستخدام إبر بلاستيكيّة وخيوط ملوّنة. بدلًا من الاكتفاء برسم الخطوط على الورق، أتاح النشاط للتلاميذ فرصة لتجربة الخطوط عمليًّا بخياطتها، ما أسهم في ترسيخ فهمهم لها بشكل أعمق.
أظهرت إحدى تلميذاتي التي كانت تواجه صعوبة في رسم الخطوط المستقيمة أثناء دروس الكتابة، تحسّنًا ملحوظًا بعد المشاركة في النشاط. قالت بفخر: "الخياطة ساعدتني على تحسين خطّي، الآن أستطيع رسم الخطوط المستقيمة بشكل أفضل". لم تكن هذه التجربة أداة لتطوير المهارات اليدويّة وحسب، بل وسيلة لتعزيز ثقة التلاميذ بأنفسهم، وتحفيزهم على التعلّم بأساليب ممتعة ومبتكرة.
***
بعد استعراض مختلف الجوانب المتعلّقة بأهمّيّة تعليم المهارات الحياتيّة للأطفال، يتّضح أنّ هذه المهارات ليست مجرّد أدوات للحياة اليوميّة، بل ركائز أساسيّة يُبنى عليها مستقبل الأطفال. باكتساب هذه المهارات، يتمكّن الأطفال من الاعتماد على أنفسهم، ومواجهة التحدّيات بثقة وكفاءة، ما يسهم في تعزيز تطوّرهم الشخصيّ والاجتماعيّ.
ومع ذلك، يبقى السؤال قائمًا: كيف نضمن استمراريّة تعليم هذه المهارات وتطويرها، بما يتماشى مع وتيرة التغيّر السريعة التي يشهدها العالم؟ يكمن الحلّ في اعتماد التربية والتعليم على الابتكار والتكيّف، مع التركيز على دمج المهارات الحياتيّة في المناهج الدراسيّة بشكل عمليّ وفعّال. ينبغي أن تُدمج هذه المهارات في مختلف الموادّ، مثل الرياضيّات، والعلوم، والفنون، مع توجيه الأطفال نحو فهم قيمتها في حياتهم اليوميّة، ما يضمن استمراريّة تأثيرها الإيجابيّ في تطوّرهم.
إلى جانب ذلك، يتطلّب الأمر استثمارًا في تدريب المعلّمين، وتزويدهم بالأدوات الحديثة لتقديم هذه المهارات بطرق مبتكرة وتفاعليّة. يمكن تحقيق ذلك باعتماد أساليب مثل المشاريع الجماعيّة، والتعلّم القائم على حلّ المشكلات، ما يخلق بيئة تعليميّة تحفّز التفكير النقديّ، وتطوّر مهارات حلّ المشكلات. بهذه الطريقة، يمكننا ضمان إعداد جيل قادر على التكيّف مع المتغيّرات، وصقل مهاراته بشكل مستمرّ، لبناء مستقبل أفضل.