المعلّم الجاهل: خمسة دروسٍ في التحرّر الذهنيّ
المعلّم الجاهل: خمسة دروسٍ في التحرّر الذهنيّ

يقدّم كتاب "المعلّم الجاهل: خمسة دروسٍ في التحرّر الذهنيّ" رؤيةً فريدةً حول التعليم والتحرّر الفكريّ، مستعرضًا حياة جوزيف جاكوتو، المعلّم الفرنسيّ في القرن التاسع عشر. يتمحور الكتاب حول فكرةٍ رئيسة مفادها أنّ جميع الأفراد يمتلكون قدراتٍ ذهنيّةً متساويةً، وأنّ التعليم لا يتطلّب بالضرورة وجود معلّمٍ خبيرٍ، بل يمكن أن يتحقّق بالرغبة في المعرفة، والجهد الذاتيّ، والتجربة الشخصيّة.  

يتناول الكتاب نقدًا للنظام التعليميّ التقليديّ الذي يعتمد على "الشرح"، والذي يخلق فجوةً بين المعلّم والطالب، ويعزّز شعور الطلّاب بالعجز. في المقابل، توضّح تجربة جاكوتو كيف يمكن للطلّاب أن يتعلّموا بالتفاعل المباشر مع النصوص، ما يعزّز فهمهم واستقلالهم الفكريّ. كما يوجّه أيضًا نقدًا للأنظمة التعليميّة التي تعمّق الفوارق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، مؤكّدًا أنّ الإيمان بالمساواة في الذكاء يجب أن يكون أساس التعليم، ووسيلةً للتحرّر، لا لترسيخ الفوارق الاجتماعيّة. 

صدر هذا الكتاب للمؤلّف جاك رانسير سنة 1987 عن مطبعة جامعة ستانفورد، ونُقل إلى العربيّة بواسطة د. عزّ الدين الخطابيّ، عن مركز القطّان للبحث والتطوير التربويّ في رام اللّه، فلسطين. يقع الكتاب المترجم في 134 صفحةً، ويضمّ خمسة فصولٍ هي: "مغامرات فكريّة"؛ و"درس الجاهل"؛ و"العقل بين المتساوين"؛ و"مجتمع الازدراء"؛ و"المحرّر وقرده". 

 

مغامراتٌ فكريّة 

يتناول هذا الفصل تجربة المعلّم جوزيف جاكوتو الذي اضطرّ، بسبب ظروف النفي، إلى تعليم طلّابٍ لا يتحدّثون الفرنسيّة، بينما هو لا يتحدّث لغتهم. قدّم جاكوتو إلى الطلّاب كتاب "تليماخوس" في نسختَين، واحدةٍ بلغتهم والأخرى بالفرنسيّة، وطلب إليهم تعلّم اللغة الفرنسيّة بمقارنة النصّين، من دون أيّ شرحٍ إضافيٍّ منه.  

فوجئ جاكوتو بنجاح التجربة؛ إذ تمكّن الطلّاب من تعلّم اللغة والتعبير عن أفكارهم بها بشكلٍ جيّد. قاده هذا إلى إدراك أنّ الجميع يمتلكون القدرة على التعلّم، وأنّ دور المعلّم لا يكمن في تقديم الشرح المباشر، بل يمكنه أن يقتصر على تحفيز إرادة الطالب الذاتيّة للتعلّم. شكّل هذا الفهم لاحقًا أساس فلسفة جاكوتو حول المساواة الفكريّة، ودور "المعلّم الجاهل" في منح الطلّاب فرصة اكتشاف قدراتهم الفكريّة بأنفسهم. 

يُستدَلّ من تجربة جاكوتو أنّ التعليم الفعّال لا يتطلّب بالضرورة معرفة المعلّم المتخصّصة، أو شرحًا مباشرًا، بل يعتمد على إثارة إرادة التعلّم لدى الطالب، وتشجيعه على استخدام ذكائه بشكلٍ مستقلّ.  

 

درس الجاهل 

يناقش هذا الفصل مفهوم "المعلّم الجاهل"، مؤكّدًا أنّ المعلّم لا يحتاج إلى معرفةٍ مسبقةٍ بمادّة الدرس لمساعدة الطلّاب على التعلّم، ومستشهدًا بقصّة جاكوتو وكتاب "تليماخوس" التي تثبت عدم الحاجة إلى "الشرح التفسيري~" الذي يقدّمه المعلّمون عادةً إلى الطلّاب.  

يرى الفصل أنّ الذكاء متساوٍ بين جميع الأفراد، وأنّ القدرة على التعلّم لا تحتاج إلى معلّمٍ، بقدر ما تحتاج إلى الرغبة في التعلّم والاستكشاف، وأنّه يمكن للطلّاب اكتسابها بأنفسهم، إذا أتيحت لهم فرصة التعلّم المستقلّ. 

يشير الفصل أيضًا إلى اعتماد التعليم التقليديّ على تقسيم الأفراد إلى جاهلٍ وعالمٍ، ما يعزّز علاقات القوّة والسيطرة. ويدعو إلى تبنّي نهجٍ جديدٍ، يقوم على مبدأ المساواة الفكريّة، يتعلّم بموجبه الطلّاب استكشاف المادّة بأنفسهم، ويتحرّرون من الاعتماد على سلطة المعلّم. 

 

العقل بين المتساوين 

يطرح الفصل خلاصةً مفادها أنّ جميع الأفراد يمتلكون القدرة على التفكير العقلانيّ، وأنّ المساواة في الذكاء بين المعلّم والمتعلّم نقطة الانطلاق الأساسيّة في عمليّة التعلّم. كما يناقش مفهوم "الترجمة" باعتبارها وسيلةً للتعلّم والتواصل، وأنّ التعلّم لا يعتمد على تفسيرات المعلّم، بل على قدرة الفرد على فهم النصوص وتفسيرها بنفسه. 

يدعو الفصل أيضًا إلى إعادة التفكير في دور المعلّم وطبيعة التعليم، ويسلّط الضوء على مفهوم المساواة الفكريّة، ويقترح أنّ الذكاء ليس حكرًا على فئةٍ معيّنة. كما يشير إلى أنّ دور المعلّم يتمحور حول تفعيل رغبة المتعلّم في التعلّم بشكلٍ مستقلّ، وهو ما يسمّيه "التعلّم بالترجمة الذاتيّة"، ويؤكّد أنّ شرح المعلّم لا يؤدّي إلى تعزيز الفهم، بقدر ما يُشعر الطالب بعدم الكفاءة، مكرّسًا التبعيّة الفكريّة. 

 

مجتمع الازدراء 

يتناول هذا الفصل أثر التعليم التقليديّ في بناء مجتمعٍ قائمٍ على عدم المساواة، حيث يتمّ اعتبار بعض الفئات أقلّ شأنًا من غيرها. كما يوضّح تأثير القوى الاجتماعيّة والتعليميّة في تعزيز الفجوة بين النخب والفئات الأخرى، ببناء أنظمةٍ تعليميّةٍ تكرّس المفاهيم التمييزيّة، مبرزًا كيف يعزّز التعليم التقليديّ مشاعر التفوّق والازدراء تجاه الطبقات الأدنى، ما يكرّس النظام الهرميّ، ويمنع الأفراد من تحقيق الاستقلال الفكريّ والمساواة الحقيقيّة. 

 

المحرّر وقرده 

يستعرض هذا الفصل الصراع بين التعليم التقليديّ الذي يعتمد على السلطة والمعرفة المتفوّقة، المتمثّلة في المعلّم، والتعليم الذي يعزّز من قدرة الأفراد على التعلّم الذاتيّ. ويوضّح كيف يمكن للتعليم التقليديّ أن يؤدّي إلى التخدير والاستعباد الفكريّ، بينما يحرّر التعليم الذي يروّج له جاكوتو الأفراد من هذه القيود.  

يحمل عنوان الفصل دلالةً رمزيّةً عميقةً؛ إذ يشير الكاتب إلى الشخص الذي يساعد الآخرين على إدراك قدراتهم الفكريّة، ويشجّعهم على التعلّم الذاتيّ، بعيدًا عن الحاجة إلى معلّم. بينما يرمز القرد إلى النهج التقليديّ الذي يكرّس حاجة الأفراد إلى معلّمٍ، ويعزّز التبعيّة الفكريّة.  

 

*** 

يقدّم كتاب "المعلّم الجاهل: خمسة دروسٍ في التحرّر الفكريّ" رؤيةً فلسفيّةً عميقةً، تعيد تعريف العلاقة بين المعرفة والتعليم والمساواة. وبعرض تجربة جوزيف جاكوتو، يدعو الكتاب إلى التساؤل حول مفهوم التعليم التقليديّ القائم على شرح المعلّم؛ إذ يرى أنّ هذه الآليّة تعزّز الهيمنة، وتضعف استقلاليّة المتعلّم. كما يشير الكتاب إلى أنّ المساواة بين المعلّم والمتعلّم لا بدّ أن تكون نقطة الانطلاق في العمليّة التعليميّة، مؤكّدًا قوّة الإرادة الذاتيّة، وقدرة الأفراد على التعلّم بوسائلهم الخاصّة، من دون الحاجة إلى وجود معلّمٍ مفسّر. 

يجسّد الكتاب دعوةً جريئةً إلى التحرّر من التقاليد التعليميّة الراسخة التي تضع المعلّم في مركز القوّة، ويبرهن من خلال تجربة جاكوتو أنّ الإرادة القويّة والاستقلاليّة يمكن أن تقودا إلى تعلّمٍ حقيقيٍّ أكثر عمقًا وفعّاليّة.  

يحمل هذا الكتاب فلسفةً بديلةً، تتحدّى النظام التعليميّ التقليديّ، وتفتح المجال لإمكاناتٍ جديدةٍ في التعليم، تقوم على الحرّيّة والمساواة.