يقع معلّم العربيّة في مشكلة مزدوجة إبّان تدريب متعلّميه على ممارسة التعبير الكتابيّ: الهمّ في ماذا يقول المتعلّمون، وكيف يقولونه. ففي مجتمعات أخرى لا تكون "سلامة" اللغة همّا، يركّز المعلّم على "ماذا" يقول المتعلّمون، وعلى الأسلوب الكتابيّ ونمط النصّ، واتّباع خطوات محدّدة في كتابة مقالة أو يوميّات، أو غيرها من الأمور المحدّدة. أمّا على المقلب الآخر، فيقع معلّم العربيّة في حَيْصَ وبَيْصَ: المتعلّم لا يمتلك أداة التعبير (اللغة) حتّى يعبّر بأسلوب معيّن، فعليه أن يوازي بين الأمرين. ولأنّ تعليم القواعد مغرٍ لأنّه مُقعَّد، يصرف المعلّمون وقتًا طويلًا ثمينًا في فنون النحو والإملاء، آملين أنّ ذلك سيملّك المتعلّمين أداة تعبيرهم ليكتبوا. والنتيجة هَيهات!
كيف نحلّ المشكلة؟ بعض المعلّمين يقول للأهل: فليقرأ ابنكم أكثر؛ وآخرون يحفّظون طلّابهم "جملًا معبِّرة" ليستخدموها في تعابيرهم، وهذا يعطي نتائج عكسيّة عادةً؛ بينما يلجأ آخرون ليتخلّصوا من ملاحقة مسؤولي المدارس والأهل، إلى تحفيظ المتعلّمين نصوصًا كاملة، فيتحوّل التعبير الكتابيّ إلى حصّة إملاء ذاتيّ، تطير مع نسمات النسيان في اليوم التالي. ويبقى بالطبع الكثير ممّن يحاولون تغييرًا جذريًّا، وينجحون أو يخفقون بحسب الظروف.
نحاول تعليمًا أو نُعذَر
وفي محاولة للتغيير، ونتيجة خبرة في إدارة تعليم العربيّة لسنوات طوال، فإنّني أشارك القارئ المهتمّ رؤيةً جرّبتها مع المعلّمين والمتعلّمين، كانت لها نتائج ممتازة في تطوير التعبير الكتابيّ عند المتعلّمين، تبدأ منذ لحظة تعلّم أربعة حروف في الصفّ الأوّل، لتصل إلى صفوف الثاني عشر بأنواعها المختلفة.
تنطلق هذه الرؤية من أنّ التعبير الكتابيّ هو الخلاصة العليا لتعليم العربيّة لغةَ تواصل. وهو يتميّز عن التعبير الشفهيّ في أنّه نهائيّ: موثّق ومُثبَت بالكلمات المكتوبة. من هنا، فإنّ تعليم التعبير الكتابيّ يكون عبر امتداد تعليم العربيّة في المجالات شتّى: قراءة الفهم، والتعبير الشفهيّ، وقواعد النحو والإملاء:
في قراءة الفهم:
يتمّ تفكيك النصّ إلى عناصره الأساسيّة؛ فإذا كان النصّ سرديًّا ندرّب على تفكيك النصّ إلى عناصر السرد. وإذا كان غير سرديّ، نفكّك النصّ إلى أقسامه، ونبحث عن الأفكار الرئيسة والثانوية/ الفرعيّة. هذا التمرين يجب أن يُربط بالتعبير الكتابيّ، حيث هو العمليّة العكسيّة البنائيّة: تجميع عناصر السرد في نصّ سرديّ، أو بناء فقرات من أفكار رئيسة وثانويّة، وربطها لتشكّل مقالة.
في التعبير الشفهيّ:
تدريب أساسيّ على استعمال مفردات النصّ المقروء، ومقاربة أفكاره بمعونة هذه المفردات، والتدريب على البناء السريع للجمل الصحيحة والمترابطة... هذه الأمور تسهّل تعبير المتعلّم الذي ينتقل من همّ كيف أقول (تركيب الجمل والروابط وسلامة اللغة) إلى ماذا أقول (تنظيم النصّ لإيصال الأفكار).
في قواعد اللغة والإملاء:
أهميّتها من بديهيّات تعليم اللغة، ولا سيّما المكتوبة. يبقى التركيز على غائيّة هذا التدريب: أنريد "سيبويهيّين" جددًا أم توظيفًا حقيقيًّا لهذه القواعد معنًى وغايةً؟ أيّهما يهمّني أكثر: جزم فعلين مضارعين بعد اسم شرط جازم أم التوظيف المعنويّ الصحيح لهذا الحرف؟ هي ليست مقايضة، وحبّذا لو أدغمنا الأمرين؛ لكنّ الأمر منوط بعدد الساعات التي تُصرف لتحقيق الهدف المنشود، خصوصًا مع "التخسيس" الذي يصاب به عددُ ساعات تعليم العربيّة لحساب موادّ أخرى.
المشروع الكتابيّ: لماذا الجلسة الواحدة؟
تنطلق الرؤية من اعتماد المشروع الكتابيّ الممتدّ على عدّة حصص، عوضًا من المهمّة الكتابيّة التي نطلبها إلى المتعلّم في جلسة واحدة قد تكون من حصّتين. والنقاش هو: ما الفائدة التعليميّة التي نجنيها من نصّ الجلسة الواحدة غير التقييم؟ فالمتعلّم يكتب ويقدّم إلينا الورقة، أو يرسل المستند إلكترونيًّا. ونحن نقرأ ونقيّم، وربّما نضع بعض الملاحظات والتغذية الراجعة، ونعيد العمل إلى المتعلّم، ونشدّد عليه أن يقرأ ما كتبنا، وربّما أن يصحّح الأخطاء، لكن فعليًّا تنتهي العمليّة بتقييم أدائه واحتساب أخطائه، وسروره أو خيباته.
ماذا لو نظّمنا مشروعًا كتابيًّا، يكون للمتعلّم فيه ملفّ موجود في الصفّ، فيه تخطيطه ومسوّداته والكُتيّب الذي سينشر فيه مشروعه النهائيّ، بينما مسوّداته تحمل سيرورة أخطائه التي عمل على تصحيحها، والملاحظات والتغذية الراجعة التي أخذ بها؟ يعمل المتعلّم في كتابة نصّه السرديّ أو غير السرديّ على امتداد حصص. ويدرك أنّ الخطأ ليس نهائيًّا ومعرضًا لعقوبة العلامات، بل الخطأ حقٌّ يتحوّل إلى أداة تعليم، وأنّه لا ضير من الخطأ ما دام سينال فرصة التصحيح. وينتهي المشروع بنصّ أطول ممّا عهده من نفسه، وصحيح وجميل، ومكتوب على كتيّب له غلاف وصور من إنتاجه.
يمكن لهذا المشروع أن ينطلق كما أسلفتُ مع تدرّب المتعلّم على أربعة حروف أبجديّة مع حروف المدّ، في الصفّ الأوّل، حيث يُطلب إليه أن يصنع كتابًا من الكلمات التي يمكن أن يركّبها من هذه الحروف، وأن يصاحبها برسوماته، وأن ينشر في الصفّ "كتابه" الأوّل، لنصل إلى مشاريع "قصّتي" و"مقالتي" مع الصفوف الأعلى. والغرض الأساس كسر تهيّب المتعلّمين من عمليّة الكتابة، وإحباطهم المتكرّر منها، ناهيك من إحباط المعلّمين.
يقتضي هذا الأمر قرارًا باعتماد هذه السياسة على مستوى الإدارة التربويّة في المدرسة، لتوحيد الجهود وضبط الخطوات التي تخلق "روتينًا" في حصص المشاريع الكتابيّة يألفه المتعلّم في رحلته، والعمل بمبدأ تجيير تعليم اللغة إلى خدمة التواصل (شفهيًّا وكتابيًّا)، بما يغيّر من تنظيم حصص التعليم ويربط بين المجالات المتنوّعة التي تصبّ في خدمة رفع كفاءة المتعلّم في التعبير. كما تفترض الاعتماد بكثافة على مفهوم التصحيح الذاتيّ للمتعلّم، أداةً تعليميّة لقواعد الإملاء والنحو وتركيب الجمل، وصولًا إلى تنظيم النصوص.
خطوات مقترحة
يُنفّذ المشروع الكتابيّ انطلاقًا من رؤية أنّ النصوص المكتوبة هي على وجهين: سرديّ، ويتضمّن القصّة والفقرة السرديّة وتلخيص القصّة واليوميّات والحوار والسيرة؛ وغير سرديّ، هدفه الأساس كتابة المقالة بأنواعها المختلفة، وينطلق من التدريب على الفقرة مع الصفوف الابتدائيّة، ليصل إلى المقالة والبحث والملخّص لنصّ غير سرديّ.
وترتبط المهمّة الكتابيّة بنصوص الوحدة المقروءة، فنواجه السرد القرائيّ بالكتابة السرديّة، والعكس صحيح، وبغير هذا يقع الهدر في الجهود؛ لأنّ القراءة تفكيك النصّ إلى عناصره أو أقسامه، وتنتهي بالتدريب على تجميع العناصر والأفكار في التعبير الكتابيّ، فما الحال وأنت تفكّك سردًا إلى عناصره، ثمّ تطلب إلى المتعلّمين تركيب مقالة من أقسام وأفكار؟ كما أنّ التعبير الكتابيّ يرتبط بموضوع الوحدة أو المحور، بما يضمن حاجة المتعلّم إلى الاستعانة بمفردات النصّ وتعابيره، وإلى الأفكار التي نوقشت إبّان التعبير الشفهيّ. ويرتبط التعبير الكتابيّ بتوزيع المهارات النحويّة المقدّمة في الوحدة؛ فأنت تعلّم الجمل الفعليّة مع السرد، والنعوت والأحوال مع التدريب على الوصف، ومعاني حروف الجرّ والأحرف المشبّهة بالفعل والجمل الاسميّة والجمل الشرطيّة مع المقالة بأنواعها المختلفة، وقِس على ذلك.
تحضيرات
التحضير الأوّل والأهمّ هو جدولة الحصص الخاصّة بالمشروع: عدد الحصص؛ هل هي متوالية أم في حصص مثبّتة على الجدول الأسبوعيّ؟ تَرافقُ المشروع مع الوحدة المدروسة أسلوبًا وموضوعًا...
يكون لكلّ متعلّم ملفّ، فيه أوراق منظّمة للمسوّدات الأولى والثانية ونسخة النهائيّة، يذيّل كلّ مسوّدة جدولُ معايير تقييم مرتبط بالمسوّدة. كما نحضّر في الملف كتيّب النشر الذي تمكن صناعته بأساليب مختلفة (يمكن للمتعلّمين بعد التمرّس أن يقوموا بهذا الأمر). وفي الملفّ أيضًا ورقة المخطّط التي تتضمّن مخطّط القصّة أو المقالة بأقسامها (مقدّمة وجسم مقالة بفقرات متعدّدة وخاتمة).
ويمكن إرفاق المسوّدة الأولى برموز التصحيح الذاتيّ (تكون هي ذاتها على مرّ المراحل، لكن يختلف عدد الرموز من مرحلة إلى أخرى)
شكل 1: نموذج عن رموز التصحيح الذاتيّ للمرحلتين الإعداديّة والثانويّة.
الانطلاق
يعرّض المعلّم الموضوع المطلوب، ويُدير عصفًا ذهنيًّا حوله. إذا كان الموضوع سرديًّا، يسمع منهم اقتراحات حول بنية القصّة والاحتمالات التي يمكن أن تسير فيها الأحداث والشخصيّات، ويدوّن على اللوح عناصر القصّة المركّبة شفهيًّا (للتركيز)، والمفردات الضروريّة التي استُخدمت.
أمّا إذا كان الموضوع غير سرديّ، فيركّز على استنتاج عدد الفقر من نصّ الموضوع المطلوب، وعلى الأفكار الرئيسة، والمعلومات المطلوبة لكتابة هذه المقالة. يدوّن الأفكار الرئيسة، المفردات والمصطلحات الضروريّة للمقالة، ويركّز على الأفكار الداعمة للأفكار الرئيسة، وعلى الأمثلة والشواهد في المقالات التفسيريّة، أو على الأدلّة والبراهين في المقالات البرهانيّة.
العصف الذهني الشفهيّ ضرورةٌ للمتعلّمين قبل البدء بعمليّة الكتابة؛ فهي تؤمّن لهم المفردات والمصطلحات الضروريّة، وسماعَ أفكار ومقترحات لمن يحتاج، وتذكّرهم ببنية النصّ الذي سيكتبونه.
التخطيط
يخطّط المتعلّمون لنصّهم على خريطة السرد المرفقة، أو مخطّط المقالة أو الخريطة المفاهيميّة، أو أيّ شكل درّبهم عليه المعلّم سابقًا خلال تفكيك النصوص المقروءة.
مؤتمر مع صديق
بعد التخطيط، يعقد المتعلّم مؤتمرًا مع زميل له في الصفّ، يعرض المؤتَمِرَين مخطّطيهما، ويناقشانهما، ويجريان التعديلات والإضافات التي يُثمر عنها المؤتمر.
المسوّدة الأولى
يكتب المتعلّم مسوّدته الأولى بالاعتماد على مخطّطه. المسوّدة الأولى ستكون بحاجة إلى مراقبة بنيتها الأساسيّة كنصّ سرديّ أو غير سرديّ.
يقرأ المعلّم المسوّدة في الصفّ مع المتعلّم، ويرسم على النصّ رموز الأخطاء، كما يكتب تغذية راجعة على الهامش تساعد المتعلّم في تطوير نصّه والحفاظ على بنيته.
يستعمل المتعلّم شبكة معايير خاصّة بالمسوّدة الأولى تركّز على بنية النصّ واكتمال عناصره أو أقسامه.
شكل (2): معايير مقترحة للمسوّدة الأولى لنصّ سرديّ. لاحظ التركيز على البنية السرديّة.
شكل (3): معايير مقترحة للمسوّدة الأولى لنصّ غير سرديّ، لاحظ التركيز على بنية المقالة.
المسوّدة الثانية
يعمل المتعلّم على تصحيح أخطائه بحسب الرموز، يمكن له أن يعود إلى القواعد الإملائيّة أو النحويّة في كتابه لتصحيح مثل هذه الأخطاء. أو ربّما يعود إلى النصوص المقروءة للبحث عن المفردة الصحيحة. وإن أعيَته مسألةٌ، فله أن يتوجّه إلى المعلّم الذي سيستغلّ الفرصة لتقديم درس مصغّر للمتعلّم حول القضيّة التي لم يفهمها. ومن البديهيّ هنا أن نشير إلى أنّ الأخطاء التي يرتكبها المتعلّم وهي من قواعد غير مدروسة عنده، يكتفي المعلّم بتصحيحها من غير وضع رموز عليها، فمن لم يدرس المصدر العامل عمل فعله مثلًا، ليس مسؤولًا عن الخطأ فيه، ومحاولة شرح الموضوع في درس مصغّر استنزافٌ لوقت المعلّم وقدرات المتعلّم في آنٍ.
يراجع المتعلّم التغذية الراجعة حول بنية نصّه، ويجري التصحيحات والإضافات اللازمة. يقرأ والمعلّم المسوّدة الثانية، ويملآن معايير تصحيحها التي تركّز على الالتزام بتصحيح الأخطاء وإجراء التعديلات البنيويّة. وعلى المعلّم استخدام رموز الأخطاء مجدّدًا في حال وجودها، كما يضع الملاحظات النهائيّة لتجويد النصّ أو احترام عناصره أو أقسامه.
شكل (4): معايير تصحيح المسوّدة الثانية لنصّ سرديّ أو غير سرديّ (التركيز على تصحيحات المسوّدة الأولى).
النسخة النهائيّة:
يجري المتعلّم التصحيحات بحسب رموز الأخطاء، والتعديلات بحسب الملاحظات، وينهي النسخة النهائيّة. يقرأ المعلّم النسخة النهائيّة، يصحّح الأخطاء التي ما زالت موجودة، ويشرح للمتعلّم أسبابها. يملأ المعلّم شبكة معايير خاصّة تتناول النصّ بنية ولغة وأسلوبًا.
شكل (5): معايير تصحيح النسخة النهائيّة لنصّ سرديّ.
شكل (6): معايير تصحيح النسخة النهائيّة لنصّ غير سرديّ.
النشر
بعد التصحيحات الأخيرة على النسخة النهائيّة، ينقل المتعلّم نصّه على الكتيّب، ويزيّنه بغلاف من تصميمه، مع عنوان النصّ والمؤلّف واسم المدرسة وسنة النشر.
يتعامل المعلّم مع الكتيّبات بما يراه مناسبًا لتعزيز ثقة المتعلّمين بإنتاجهم، كإنشاء معرض في المكتبة العامّة، أو دعوة الأهل إلى أمسيّة قصصيّة، أو إيفاد المتعلّمين لقراءة القصص لطلّاب المراحل الدنيا.
***
ليس المشروع الكتابيّ حلًّا سحريًّا لمعضلة التعبير الكتابيّ، لكنّه محاولة لربط النواحي المتعدّدة لتعليم العربيّة في نتاج مبدع يكسر الصورة السلبيّة التي يحملها الكثير من متعلّمينا عن الكتابة. كما أنّه يدمج بين التعليم المقعّد والوظيفيّ لمهارات النحو والإملاء، حيث يدفع التصحيح الذاتيّ المتعلّمين إلى التفكير بعملانيّة في النظريّات النحويّة التي يتناولونها في الصفوف.
ويشكّل تطوير النصّ تحت أعين المتعلّمين، من مسوّدة إلى أخرى، تعليمًا حقيقيّا لإنجاز التعليم الكتابيّ، يسهّل مهمّة المتعلّمين لاحقًا في تناول أيّ موضوع مطلوب. هي محاولة، تنتظر رأي الخبراء وتجاربهم.