اليابان، ذلك البلد الرائد في أقصى الشرق، كثيرًا ما يغفل عنه بقيّة العالم لانشغالهم بقسمه الغربيّ، ولا نتذكّره إلّا عند وقوع الكوارث. فمنذ ما يقارب 14 سنة، وتحديدًا عند وقوع الزلزال المدمّر والتسونامي العاتي سنة 2011، تحوّلت اليابان إلى محور اهتمام العالم. ففي خضمّ هذه الكارثة، لقّننا الشعب اليابانيّ دروسًا عظيمة في الشجاعة والتضحية، عندما رأينا المهندسين العاملين في المفاعلات النوويّة، يعرّضون حياتهم إلى الخطر لمنع وقوع كارثة أكبر. كما شاهدنا الأمل والإرادة تتجلّى في عيون شعب أنهكته الكوارث، ومع ذلك ينهض من تحت الأنقاض مثل طائر العنقاء الأسطوريّ، ليبهر العالم في كلّ مرّة بإرادته الصلبة. وأمام هذا النموذج الإنسانيّ الفريد، تولّدت لدى الكثيرين رغبة جامحة في فهم كيف يُبنى هذا الإنسان منذ طفولته، ليكون بهذه الكفاءة العالية، وكيف يُربّى ويُعلّم ليكون بهذه القوّة والصبر والانضباط. وحين نبحث عن الإجابة، نجد أنّ النظام التعليميّ اليابانيّ تجربة استثنائيّة بكلّ المقاييس، بل يمكن القول بثقة: إنّ نجاح التعليم في اليابان، هو الأساس الذي تقوم عليه كلّ النجاحات الأخرى، وليس العكس، إذ إنّ التفوّق في عالم الأفكار يسبق التفوّق في عالم الأشياء.
التحوّلات الاجتماعيّة في اليابان: من إرث الماضي إلى استشراف المستقبل
شهدت المجتمعات الشرقيّة تحوّلات اجتماعيّة كبرى خلال القرن الأخير، كانت مصحوبة بتحدّيات غير مسبوقة، استلزمت إصلاحات جوهريّة وعميقة في مختلف المجالات، وصيغت باعتماد برامج تربويّة وثقافيّة وإعلاميّة وتنمويّة، ذات رؤى استشرافيّة للمستقبل.
وفي اليابان تحديدًا، ظلّ الفرد مقيّدًا بإرث التقاليد لفترات طويلة، إذ شكّلت التبعيّة وضبابيّة الرؤية جزءًا من المشهد العامّ. لكنّ نقطة التحوّل الكبرى جاءت بعد وفاة الإمبراطور هيروهيتو الذي حكم اليابان لأكثر من ستّين عامًا، وشهدت البلاد في عهده مراحل عسكرة، وحروب، وهزائم، ثمّ نهوض وازدهار اقتصاديّ. ومع نهاية الحرب الباردة، تلاشت العديد من المسلّمات التي سادت طوال العقود الأربعة الماضية، وبالتزامن مع سقوط جدار برلين، وتفكّك الاتّحاد السوفييتيّ، وتلاشي جاذبيّة الفكر الاشتراكيّ والشيوعيّ، وجدت اليابان نفسها أمام واقع جديد، يفرض عليها اتّخاذ قراراتها بعيدًا عن تبعيّة الماضي، واحتضان عقول أبنائها وقلوبهم.
في خضمّ هذا التسارع والتعقيد، استطاعت اليابان أن تحقّق نهضتها، ليس بالتكنولوجيا المتقدّمة والروبوتات الذكيّة فحسب، بل بإصلاحات تربويّة شاملة، انبثقت من فكرها الإبداعيّ المتجذّر في تاريخها العريق، والمستند إلى رؤى استباقيّة للمستقبل. فالندّيّة الحقيقيّة للغرب لم تكن فقط في التفوّق عليه في سرعة السيّارات أو دقّة الحواسيب، بل في بناء نظام تعليميّ يدعمه المجتمع بسخاء، ليضع الإبداع، والابتكار، والتفكير النقديّ ضمن أولويّاته، ويتطلّع بطموح إلى مستقبل واعد.
الشغف بالتعليم في اليابان: رحلة مشتركة بين الأسرة والمدرسة نحو النجاح
لفهم سرّ الشغف اليابانيّ بالتعليم، لا بدّ من التعمّق في هذا الحماس الفريد الذي يميّز الطلّاب وأولياء الأمور والمعلّمين، على حدّ سواء. فالتعلّم في اليابان ليس مجرّد التزام أكاديميّ، بل هو جزء لا يتجزّأ من الهويّة الثقافيّة، إذ يُنظر إليه وسيلة للارتقاء الاجتماعيّ وضمان مستقبل مشرق.
في هذا السياق، تؤدّي الأسرة اليابانيّة دورًا محوريًّا في إطار النسيج المجتمعيّ الضامّ، فلا يقتصر دورها على الدعم العاطفيّ والمادّيّ فقط، بل يمتدّ إلى التوجيه والمرافقة الأكاديميّة المستمرّة، ما يعزّز مفهوم "شراكة التعلّم".
فالتوقّعات العالية التي يضعها الأهل لأبنائهم لا تظلّ مجرّد آمال وأحلام، بل تتحوّل إلى ممارسات يوميّة ملموسة، مثل المتابعة الحثيثة للدروس، والمشاركة الفاعلة في الاجتماعات المدرسيّة، وتوفير بيئة منزليّة محفّزة وداعمة. ومن أبرز مظاهر هذا الالتزام، انتشار مدارس "الجوكو" (Juku) الخاصّة المسائيّة التي تعكس رغبة الأسر في تطوير قدرات أبنائها إلى أقصى حدّ، خارج إطار المدرسة التقليديّة (Dawson, 2014).
وقد أثبتت الدراسات أنّ هذه العلاقة الوثيقة بين الأسرة والمدرسة، لا تعزّز الأداء الأكاديميّ فحسب، بل تغذّي أيضًا دافعيّة الطلّاب نحو التعلّم والإنجاز. ويشير تاكيوتشي (Takeuchi, 2019) إلى أنّ مشاركة الوالدين الفعّالة في العمليّة التعليميّة، تؤدّي إلى تحفيز التلاميذ وتحسين نتائجهم الدراسيّة. وفي النهاية، فإنّ هذا النهج التكامليّ، القائم على الشراكة والثقة بين الأسرة والمدرسة، ليس مجرّد وسيلة لتجاوز العقبات، بل هو مفتاح أساسيّ لتمكين الأجيال القادمة من تحقيق النجاح والتألّق.
المعلّم في اليابان: تقدير مجتمعيّ ودعم أسريّ متكامل
يحظى المعلّم في اليابان بمكانة مرموقة، فهو المهندس الذي يشيّد عقول الأجيال، ويبني مستقبل الأمّة. هذه المكانة ليست مجرّد تقدير رمزيّ، بل هي جزء من ثقافة مجتمعيّة راسخة، تتجلّى في الاحترام العميق والدعم الذي يحظى به المعلّمون يوميًّا. وتُختزل هذه الفلسفة في المقولة اليابانيّة الشهيرة: "بعد الوالدين، يأتي المعلّم"، تعبيرًا عن دوره المحوريّ في تشكيل الأفراد والمجتمع (Shimahara, 2002).
لا يقتصر هذا التقدير على مستوى الخطاب والتنظير، بل يترجم عمليًّا وتطبيقيًّا بالشراكة الفعّالة بين الأسرة والمدرسة. إذ تسهم الأسر بشكل جوهريّ في تعزيز بيئة تعليميّة متكاملة، بمتابعة أداء التلاميذ منزليًّا، والتواصل المستمرّ مع المعلّمين، ما يعزّز فلسفة المسؤوليّة المشتركة في التربية (Lewis, 2011). كما تشكّل الاجتماعات الدوريّة بين أولياء الأمور والمعلّمين ركيزة أساسيّة في هذا النظام، فيسعى الأهل لتنسيق مستمرّ مع المدرسة، لضمان تحقيق أفضل النتائج الأكاديميّة والسلوكيّة لأطفالهم (Takeuchi, 2019).
إلى جانب الدعم الأكاديميّ، تغرس الأسر اليابانيّة في أطفالها ثقافة احترام المعلّمين والتفاعل الإيجابيّ معهم، ما ينعكس إيجابيًّا على أداء التلاميذ الدراسيّ، ويعزّز دافعيّة المعلّمين الوظيفيّة، ويمتدّ أثره إلى الارتقاء بجودة التعليم داخل الفصول الدراسيّة (Cave, 2016). وفي هذا السياق، يرى جون ديوي (Dewey, 1938) أنّ التعليم الفعّال يتطلّب انسجامًا بين المعلّم والطالب والبيئة الأسريّة، وهو ما يجسّده النظام التربويّ اليابانيّ بشكل مثاليّ، إذ يتكامل احترام المعلّم مع دعم الأسرة، لضمان مستقبل مشرق للأجيال القادمة.
الشراكة بين الأسرة والمدرسة في مواجهة العبء الدراسيّ المكثّف
تتميّز المدرسة اليابانيّة بصرامتها وكثافة برنامجها الدراسيّ، فتعتبر السنة الدراسيّة في اليابان واحدة من أطول السنوات الدراسيّة في العالم، إذ يلتزم الطلّاب بالحضور من الساعة الثامنة صباحًا وحتّى الرابعة مساء، بينما يواصل المعلّمون عملهم حتّى السادسة أو السابعة مساء، ما يعكس الجدّيّة والانضباط اللذَين يتميّز بهما النظام التعليميّ اليابانيّ (Shimahara, 2002).
ولا تقتصر هذه الكثافة الدراسيّة على فترة الدوام المدرسيّ، بل تمتدّ إلى العطل التي تكون محدودة وقصيرة، مقارنة بالأنظمة التعليميّة الأخرى، إذ لا تتجاوز عطلة الربيع وعطلة بداية السنة الميلاديّة عشرة أيّام لكلّ منهما، بينما تتراوح العطلة الصيفيّة بين أربعين يومًا وشهر ونصف الشهر فقط، ومع ذلك يُطلب من الطلّاب الحضور في بعض أيّام العطلة، للمشاركة في برامج تعليميّة محدّدة، بالإضافة إلى إنجاز واجبات ومشروعات بحثيّة تتطلّب جهدًا كبيرًا (Takeuchi, 2019). كما يشارك التلاميذ في أنشطة رياضيّة مدرسيّة متنوّعة، ما يُبقيهم في أجواء تعليميّة حتّى أثناء فترات الراحة.
وفي ظلّ هذا العبء الدراسيّ الكبير، تؤدّي الأسر اليابانيّة دورًا حيويًّا في تقديم الدعم الضروريّ لأبنائها، نفسيًّا وأكاديميًّا. ويحرص الآباء على توفير بيئة منزليّة داعمة، تساعد الأطفال في الإنجاز واستغلال الوقت بطريقة فعّالة، وتحفّزهم على مواصلة الاجتهاد والطموح. في السياق نفسه، تعتمد اليابان على ممارسات تعليميّة أخرى، مثل "شيوكاي" (Shu-kai)، والتي تعني الاجتماعات التربويّة بين المعلّمين وأولياء الأمور، يُناقش فيها تطوّر التلاميذ المدرسيّ، وتُقدّم التغذية الراجعة المستمرّة. يعزّز هذا النوع من التواصل المنتظم التعاون بين المدرسة والأسرة، ما يسمح للوالدين بالمشاركة الفعّالة في المسار التعليميّ لأبنائهم، وبالتالي تحسين أدائهم الأكاديميّ ومهاراتهم الشخصيّة.
هذه العلاقة التعاونيّة تغذّي الشغف لدى التلاميذ، وتعزّز من دافعيّتهم إلى التكيّف مع مختلف الضغوط الدراسيّة، وتساعدهم في تحقيق مستويات جيّدة من التحصيل الأكاديميّ، ما يعكس فلسفة النظام التعليميّ اليابانيّ الذي يركّز على الانضباط والمثابرة، باعتبارهما قيمتين أساسيّتين في بناء الأجيال القادمة.
المعتقدات والممارسات الثقافيّة التربويّة الداعمة للنجاح المدرسيّ
يتميّز النظام التربويّ اليابانيّ بتكامل مثاليّ بين الأسرة والمدرسة، فلا يُنظر إلى التعليم على أنّه مسؤوليّة حصريّة للمدرسة وحدها، بل يعتبر التزامًا مجتمعيًّا موسّعًا. يتجلّى هذا التوجّه في مجموعة من الممارسات المجتمعيّة التربويّة التي تشكّل دعمًا معنويًّا مهمًّا لنجاح الطلبة وتفوّقهم الدراسيّ، إذ تُزرع فيهم مبكّرًا وعميقًا قيم الانضباط، والمثابرة، والتحسين المستمرّ.
ويعتبر نهج التحسين المستمرّ في التربية والتعليم، المستمدّ من فلسفة الكايزن (Kaizen)، أحد الأسس الفلسفيّة التي تعكس جوهر النظام التعليميّ اليابانيّ، وهو مبدأ يركّز على التطوير التدريجيّ، سواء على مستوى التلميذ، أو المعلّم، أو المؤسّسة التربويّة.
ويركّز اليابانيّون على مبدأ "الجدّ والاجتهاد أهمّ من الموهبة والذكاء الفطريّين للطفل"، وعلى عكس ما هو معروف في كثير من الدول، فالطلّاب اليابانيّون يؤمنون بتوجيهات مدرّسيهم ووالديهم وإرشاداتهم، والتي تنصبّ في توصيفات مختلفة للنجاح وللتفوّق، فيتمّ التأكيد على أنّ النجاح والتفوّق يمكن أن يتحقّقا بالاجتهاد والكدّ، وليس بالذكاء فقط. تعكس هذه الفكرة فلسفة يابانيّة تُعرف باسم "نموذج العقليّة النامية"، والتي تتلاقى مع مبدأ "غانبارو" الذي يركّز على أهمّيّة المثابرة والاجتهاد لتحقيق النجاح، بغضّ النظر عن مستوى الذكاء الفطريّ؛ إذ يُشجّع الطلّاب على عدم الاستسلام أمام التحدّيات والإخفاقات الدراسيّة، واعتبارها فرصة للتعلّم وزيادة الخبرة، وكلّ هذا بالطبع يدعم مباشر ومستمرّ من عائلاتهم ومدرّسيهم، لتحقيق أقصى إمكاناتهم (Holloway, 2000).
في سياق "القيم التربويّة والمجتمعيّة"، أو "المعتقدات الثقافيّة في التعليم" التي تشكّل الإطار الفكريّ المرجعيّ للسلوك التعليميّ في اليابان، تبرز المبادئ التالية:
1. غانبارو (Ganbaru): مبدأ المثابرة والعمل الجادّ، إذ يُشجّع الأفراد على الاستمرار في بذل الجهد، وتجاهل العوائق والتحدّيات.
2. نموذج العقليّة النامية (Growth Mindset): مفهوم يتماشى مع الرؤية اليابانيّة بأنّ الذكاء والقدرات يمكن تطويرها والارتقاء بها بالمثابرة والاجتهاد.
3. "دوريكو" (Doryoku): وتعني "الاجتهاد والمثابرة"، قيمة أساسيّة تُغرس في الأطفال مبكّرًا، إذ يُنظر إلى النجاح على أنّه نتاج العمل المستمرّ الدؤوب، وليس موهبة فطريّة.
4. "شيكو ريكي" (Shiko Reki): وتعني "قوّة التفكير"، إذ يتمّ التركيز على تطوير مهارات التفكير النقديّ وحلّ المشكلات، بدلًا من الاعتماد على الذكاء الفطريّ فقط.
5. "تايوكو" (Taiyoku): وتعني "قوّة التحمّل"، وتشير إلى القدرة على التحمّل والصبر أثناء التعلّم والتدريب المستمرّين.
6. "كينبين" (Kenbin): وتعني "التواضع والمثابرة"، إذ يُنظر إلى النجاح على أنّه ثمرة جهد مستمرّ، وليس نتيجة موهبة فرديّة.
***
تمامًا كما تعلّمنا فلسفة "كينتسوجي (Kintsugi)" وفلسفة "الوابي-سابي (Wabi-Sabi)" أن نقدّر الجمال في البساطة والنقص، وأن نرى أنّ العيوب جزء من الجمال الطبيعيّ للأشياء، وأنّ الكسور والتصدّعات ليست عيوبًا، بل يمكن أن تتحوّل إلى مصدر جمال وقوّة، فإنّ التحدّيات والإخفاقات والصعوبات الدراسيّة التي يواجهها التلاميذ في رحلتهم التعليميّة ليست عائقًا، بل فرصة للنموّ والتطوّر والتعلّم. هنا تأتي أهمّيّة الشراكة المتينة والداعمة بين الأسرة والمدرسة، فهي الرابط الذهبيّ الذي يساعد في ترميم الصعوبات والكسور، وتحويل العقبات إلى نقاط قوّة. عندما يتعاون الأهل والمعلّمون في دعم الطلّاب، يصبح الفشل مجرّد خطوة نحو النجاح، وتتحوّل الأخطاء إلى دروس وتجارب وخبرات قيّمة، ما يسمح للطلّاب ليس فقط بتخطّي العقبات، بل بالازدهار والإثمار وتحقيق إمكانيّاتهم الكاملة.
وكما يجعل "الكينتسوجي" القطعة المكسورة أكثر جمالًا بعد إصلاحها، فإنّ هذه الشراكة تجعل الأطفال أكثر جَلدًا وصمودًا، وتدعم قدرتهم على التحمّل (Resilience)، وتدعمهم للتطلّع إلى المستقبل بعزيمة وإصرار.
المراجع
- Cave, P. (2016). Education in Japan: Learning to change, changing to learn. Cambridge University Press.
- Dewey, J. (1938). Experience and education. Macmillan.
- Holloway, S. (2000). Contemporary Japanese education: An ethnography of schooling in Japan. Cambridge University Press.
- Lewis, C. (2011). Educating hearts and minds: Reflections on Japanese preschool and elementary education. Cambridge University Press.
- Shimahara, N. (2002). Teaching in Japan: A cultural perspective. Routledge.
- Takeuchi, H. (2019). Parental involvement in education and student achievement in Japan: A longitudinal analysis. Educational Studies in Japan,