يشهد الميدان التعليميّ في فلسطين بصورة عامّة، وقطاع غزّة على وجه الخصوص، حالة من الكارثيّة اللا معقولة وغير معهودة بحقّ جيل كامل من الطلبة الفلسطينيّين، نتيجة الحرب المجنونة التي تشُنّها دولة الاحتلال الإسرائيليّ لقتل حالة الوجود الفلسطينيّ للطلبة الفلسطينيّين؛ عبر محاولة الإفناء والسحق والقتل لأبنائنا الطلبة تارة، وعبر تزييف الوعي وخلق حالة من العبثيّة المملوءة بالشكّ في الافتراضات والبديهيّات الوجوديّة المُسلّم بها، تارة أخرى عبر ماكينتها الإعلاميّة المخادعة.
وإزاء هذه الحالة التي باتت فيها أركان المنظومة التعليميّة في غزّة (الطالب، والمعلّم، والمشرف التربويّ، ومدير المدرسة، ووليّ الأمر) إمّا شهيدًا، أو مفقودًا تحت ركام منزله، أو جريحًا بإصابة بليغة، أو نازحًا في مراكز الإيواء، أو مشرّدًا من الشمال إلى الجنوب، أو شُطب من السجلّ المدنيّ هو وأسرته، أو أسيرًا مسلوب الحرّيّة... فإنّ حالة الأمل لا أقول تتلاشى، بل تلاشت من وجدان الطلبة الفلسطينيّين. وكلّ ما قرأه الطلبة الفلسطينيّون بين صفحات المنهاج حول الكرامة، والعدالة الإنسانيّة، والمواطنة العالميّة، والعيش المشترك، والقيم المشتركة أصبحت محلّ شكّ، ليس لأنّها ناقصة في نصوصها وغاياتها، بل لسخافة ممارساتها على الأرض من قبل مُنظّريها الذين ينادون بها ليل نهار!
وعبر هذا التشخيص السوداويّ المتوشّح بلون الدماء لواقع المشهد التربويّ والتعليميّ في غزّة، فإنّ قراءة الأحداث لا يمكن أن تُعبّر عنها لغة، أو يخُطّها قلم، أو ينطقها لسان. فكلّ شيء تغيّر، وليس معروفًا متى بزوغ الفجر الذي كان يُدرّسه معلّم اللغة العربيّة، ولا تاريخ السّلام الذي كان يدرسه معلّم التاريخ.
الكتابة في ذاكرة الألم!
لقد تغيّر المشهد المعهود لكلّ رموز العمليّة التعليميّة في عقليّة الطلبة الفلسطينيّين ووجدانهم؛ فالسرديّة الفلسطينيّة المثقلة بالقهر على مرّ العصور، تتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل. حروفها يأس، وكلماتها قهر، وجُملها بؤس.
لا قدسيّة للتعليم في غزّة!
ترتبط المدرسة بذكرياتها الجميلة في قلوب طلبة غزّة، لكنّ اليوم وفي أجواء هذه الحرب المسعورة، تحوّلت تلك الذكريات إلى كلّ معاني الأسى، والقهر، وفقدان الأمل.
تحولت مدرستي (والكلام مجازًا على لسان طالب فلسطينيّ من غزّة) من مدرسة أُمارس فيها حقّي في التعليم واللعب، إلى مركز لإيواء النازحين المهجّرين من بيوتهم. أمّا مدرسة صديقي فقد سوّيت بالأرض. وفي الحارة المجاورة، لم تعد المدرسة صالحة بفعل القصف والتدمير. أمّا المدرسة الواقعة على أطراف مدينتنا، فتحولت إلى ثكنة عسكريّة للمحتل الإسرائيليّ بجنوده وعتاده، ورَفع عليها علمه الذي لا تُشابه ألوانه ألوان علمي الذي يتزين به كتاب لغتي الجميلة، والذي كُنت أقف له كلّ يوم لتحيّته على أنغام السلام الوطنيّ الفلسطينيّ: فدائيّ... فدائيّ... فدائيّ!
أرقام قاسية من الميدان!
أنا وزملائي من الطلبة، والبالغ عددنا 600 ألف طالب، في قطاع غزّة، فقدنا حقّنا في التعليم. أمّا زملائي الطلبة الشهداء، فقد فقدنا حتّى الآن أكثر من 2000 منهم، ولا توجد إحصائيّة للمفقودين من زملائي الطلبة. وبخصوص مدارسنا في غزّة، فإنّ 773 مدرسة، هي قوام المدارس المتواجدة في قطاع غزّة، إمّا مدمّرة كلّيًّا، أو قُصفت جزئيًّا، أو تحوّلت إلى مراكز إيواء للنازحين. أمّا معلّمي فاستشهد هو وأسرته.
أسئلة بلا إجابات، للطلبة في غزة
يطرح الطلّاب في غزّة الكثير من التساؤلات الشائكة، والتي يشعر الجميع بالحرج تجاهها، وبالتحديد المؤسّسات الدوليّة والإقليميّة التي تعهّدت بحماية الحقّ في التعليم، أبرز تلك الأسئلة: هل سنبقى خلف الركب في ظلّ ما تنادون به، وهو: لن نترك أحدًا خلف الركب؟ المدارس الآمنة والشاملة والمنصفة والصحّيّة، هل بقي لها وجود في غزّة؟ الحماية من الإساءة والقتل للطلّاب، وتمكينهم من الحقّ في اللعب والعيش بأمان، هل لتلك المفردات وجود في غزّة؟ نحن طلّاب غزّة، هل ينطبق علينا مبدأ الحقّ في الحياة كبقيّة طلبة العالم؟ أغيثونا بإجابة إن لم تستطيعوا أن تغيثونا باحتياجاتنا الإنسانيّة.
القفز على الأشواك في الأزمنة الصعبة
ثمّة مساحة من الأمل يمتلكها الطلّاب في غزّة للحصول على حقّهم في التعليم، وأن لا يكونوا ضحايا الأزمات والكوارث والحروب. كما تعلّموا بأنّ التعليم يسهم في بناء السلام والاستقرار، وثمّة كشف حساب مُثقل بالديون يتحمّل سداده الجميع تجاه طلبة غزّة، عبر حماية حقّهم في الوجود أوّلًا، ثمّ حقّهم في التعليم ثانيًا.
سُجّل النصّ مع بودكاست صوت خلال العدوان على غزّة، عام 2023.