يرفع ملايين الأطفال حول العالم شعار "من حقّي أن أتعلّم"، يطالبون بحقّهم في التعليم أثناء الحروب، وفي ظلّ الكوارث الطبيعيّة. أطفال فلسطين مثلهم مثل هؤلاء الأطفال ينادون بحقّهم بالتعليم منذ عشرات السنين، إذ حرموا من هذا الحقّ بسبب الاحتلال "الإسرائيليّ" الغاشم طوال سنين عديدة ماضية، وما زال الأمر مستمرًّا. عانى الفلسطينيّون من إغلاق المدارس وقصفها، واعتقال الأطفال والمعلّمين، واستشهاد بعضهم وجرح الكثير منهم، بالإضافة إلى تدخّل سافر في المناهج التعليميّة، خصوصًا في ما يتعلّق بالوطن والمواطنة وحقّهم التاريخيّ، وتغيير جغرافيّة الأرض وحدودها سياسيًّا وعاطفيًّا، ما بين حدود يسطّرها الأهل لوطن كبير يضمّ يافا وحيفا وصفد، وحدودٍ وضعت في كتاب اجتزأها، ليصنع خارطةً جديدةً حدودها مقزّمة يرفضها الطفل، لكنّ عليه حفظَها ليكتبها في ورقة الاختبار، ثمّ يعجز عن ذكرها في البيت خوفًا من غضب جدّة لا تزال تحمل مفتاح بيتها في يافا، وتغنّي له أغنيات العودة كلّ يوم، وتتفانى في سرد أدقّ تفاصيل بيتها الذي أُجبرت على تركه تحت تهديد السلاح، ويسمع مناشدتها للربّ صباح كلّ يوم ألّا تصعد روحها إلى السماء قبل عودتها إلى بيتها، ولو للحظة وداع أخيرة.
هي مشاهد عديدة في ذاكرة أطفال يعيشون في ظلّ نزاع. بين هذه المشاهد وتلك، يستمرّ الكبار بنقل أحلامهم للأجيال الجديدة، آملين لهم مستقبلًا أفضل من خلال ضمان تعليم جيّد. لا يُعدّ التعليم حقًّا طبيعيًّا لكلّ طفل فقط، لكن يصبح أملًا متجدّدًا في ظلّ الأزمات؛ لأنّه يحمل في طيّاته مستقبلًا واعدًا بالتغيير والتحسين وإنهاء الألم وتجديد الأمل.
على الرغم من أنّ التعليم ضرورة ملحّة، وحقّ أساسيّ من حقوق الإنسان بغضّ النظر عن الظرف الذي يعيشه، فإنّ مصطلح "التعليم في ظلّ الأزمات والطوارئ" مصطلح حديث نسبيًّا، يأتي ضمن الهدف الرابع لأهداف التنمية المستديمة، الذي يتحدّث عن "ضمان التعليم الجيّد المنصف الشامل للجميع"، و"تعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع". مع العلم أنّه ثمّة أكثر من 2 مليون طفل خارج إطار المدرسة في المناطق التي تتعرّض للحروب والنزاعات والاحتلال والكوارث الطبيعيّة. أمّا منذ جائحة كورونا، فقد وقع حقّ جميع الأطفال في التعليم تحت التهديد في كلّ مكان، وفي الوقت نفسه، لكن بنسب متفاوتة. وتأثّر بالأخصّ الطلبة الأكثر فقرًا، والذين يعيشون في مناطق أزمات أخرى بصورة أكبر.
خلال الجائحة عانى ملايين الأطفال من انقطاع جزئيّ أو كلّيّ عن التعليم لمدد متفاوتة، وتحوّل كثير منهم إلى التعلّم عن بعد أو التعلّم الإلكترونيّ، وهو ما شكّل حالةً من التوتّر في صفوف الطلبة ومعلّميهم حول استمرار تقديم خدمة تعليم جيّد يتلاءم واحتياجات الطلبة المختلفة، وحول التباين في أوضاعهم الصحّيّة والاجتماعيّة والنفسيّة والاقتصاديّة، وساهم أيضًا في زيادة الفجوة المعرفيّة بين المجتمعات والأسر من خلفيّات مختلفة؛ فالطلبة من المدارس الخاصّة والتجمّعات الميسورة والدول الغنيّة لم يتأثّر وضعهم كثيرًا. أمّا الطلبة من المناطق المهمّشة والمخيّمات والتجمّعات الفقيرة والدول النامية، فلم يستطيعوا الالتحاق بالتعلّم عن بعد إلكترونيًّا بصورة كاملة أو دائمة، وذلك لغياب التجهيزات الإلكترونيّة أو ضعف البنية التحتيّة، أو عدم جاهزيّة أولياء الأمور والمعلّمين للمساعدة في تأمين ذلك على المستوى الفنّيّ والتقنيّ والتربويّ.
لقد ساهمت الجائحة في زيادة الفجوة الرقميّة، وتعميق انعدام العدالة الاجتماعيّة، وضياع حقّ الأطفال في التعليم الجيّد. لذا، على الدول العمل على تطبيق معايير ضمان التعليم في ظلّ الطوارئ والأزمات ضمن المحاور الآتية:
- المشاركة المجتمعيّة في العمليّة التعليميّة، وعدم الاعتماد الكلّيّ على الهيئات الرسميّة، لأنّها لا تستطيع ضمان التعليم الجيّد وحدها.
- التركيز على الاحتياجات المختلفة للطلبة لمنحهم الحقّ بالتعليم، والحقّ بالحماية والأمن، والحقّ بالدعم النفسيّ، ولتزويدهم بأدوات المقاومة والصمود والتحمّل والاستمرار، لإيصالهم إلى إحساس بالسلام الداخليّ والخارجيّ على الرغم من الظروف المحيطة.
- وضع خطّة طوارئ للتعليم تضمن تلبية الاحتياجات أعلاه، وتتواءم مع حالة الطوارئ والثقافة والبيئة، فلا تكون مستوردةً من ثقافات أخرى بصورة معلّبة، إذ إنّه ليس من خطّة واحدة تصلح للجميع.
- مشاركة الأطفال والشباب وأولياء الأمر في وضع خطّة الطوارئ، وإيجاد البدائل، والاستماع لصوتهم بوصفه صوتًا مهمًّا في العمليّة التعليميّة.
- توفير بدائل عدّة تتناسب مع كلّ التجمّعات والاحتياجات والقدرات، لضمان التنوّع والشموليّة في الخدمات ضمن البدائل المتاحة.
- تمكين المعلّم نفسيًّا ومهاريًّا ليستطيع مساعدة طلبته ودعمهم بصفته المحارب في الجبهة الأماميّة.
إنّ ما يتعرّض له الأطفال حاليًّا في ظلّ الجائحة من انتقاص لحقهم بتعليم جيّد، لهو ظاهرة خطيرة تهدّد مستقبل العالم، وعلينا إيجاد الحلول البديلة سريعًا لضمان عدم استمرار حالة التجهيل التي يتعرّض لها الكثير من الطلبة، لا سيّما في المناطق الأكثر فقرًا، والأقلّ حظًّا، والواقعة ضمن نطاق نزاع أو حرب.
وهذا لا يمنعنا من تسليط الضوء على الجانب الآخر للأزمات، فإنّ لها نتائج جانبيّة إيجابيّة، مثل امتلاك الطلبة مهارات ومعارف جديدة بسبب تحدّيات المرحلة، إذ تحتّم عليهم الاستعداد والتعلّم لضمان البقاء. على سبيل المثال: إنّ أزمة كورونا قد حوّلت النشاط الإلكترونيّ للطلبة عن التسلية وإضاعة الوقت إلى التعلّم والتشارك والتواصل العلميّ، وزوّدتهم بمهارات تقنيّة متنوّعة، وعرّضتهم لتجارب تعليميّة وتقويميّة غنيّة، سينتج عنها تغييرات في النظام التعليميّ مستقبلًا، فهذا المتعلّم لن يرضى الرجوع إلى الوراء بعد أن امتلك مهارات التعلّم الذاتيّ، وأصبح محورًا فعليًّا وشريكًا نشطًا في العمليّة التعليميّة. إنّ أطفالنا فلذات أكبادنا، وعلينا مساعدتهم للعيش في عالم آمن، واستخراج طاقاتهم الكامنة، فهم سيقودون العالم يومًا.