في الأيّام التي اشتدّت فيها وطأة التعليم عن بعد، حكى لي أحد الآباء كيف أنّ طفله أصبح يتحدّث لغة الآلة ويتّبعها اتّباعًا، ولم يعد مهتمًّا بما يدور حوله قدْر اهتمامه برنّات الهاتف، وقراءة الرسائل القصيرة لزملائه، والإصغاء الدقيق لكلام معلّمته. علّق الأب على هذا الموقف قائلًا: أشهد يومًا بعد يوم عزلة ابني، وأعتقد أنّ معايشة الآلة تُغيّر الذهنيّة، وتُفشِل عملنا في التربية، فأيّ تعليم هذا الذي صار يتحكّم بأرواح أطفالنا بعد أن سعيْنا في تحريرها من التعليم التقليديّ.
انطوى ما أسرّ به الأب لي على مشكلة حقيقيّة يعانيها التعليم في البلدان العربيّة، وهي مشكلة بنيويّة، ومن أعراضها في ظلّ الأزمة الحاليّة عسْرُ الانتقال من العالَم الواقعيّ إلى العالَم الافتراضِيّ. وهو ما سيتكشّف أكثر إذا نظرنا في التعليم عن بعد بوصفه مكعّبًا: كلّ وجه من وجوهه يترابط بنيويًّا مع الوجوه الأخرى، وأيّ عبث يمسّ أَحَدَها تتداعى له باقي الوجوه. فالسياسة التعليمية تخاطب أولياء الأمور، والمعلّم/ المعلّمة، والمتعلّم/ المتعلّمة، وتقتني أساليب التدريس، وترسم ملامح المجتمع. وكلّها ترتبط بالتعليم بوصفه رهانًا إنسانيًّا. فكيف تشكّلت وجوه مكعّب التعليم عن بعد في الطريق نحو اعتماده أسلوبًا في التعلّم؟ ومن يا ترى يقبع خلف هذه الوجوه؟ ولماذا قد يهتمّ بالتعليم عن بعد؟ وهل يدرك أولئك القابعون خلف وجوه المكعب غايتهم من التعليم في لحظة كهذه؟
السياسة التعليميّة
هذا الوجه سياسيّ بامتياز، ويحتلّ قمّة المكعّب، فهو الضابط الأوّل لسمفونيّة التعليم، والمحدّد لمصيره إن صحّ التعبير. وكان الهاجسُ الوحيد الفريد وراءَ تشكّله إتمامَ سلسلة من العمليّات التي انطلقت بنجاح، وتوقّفت بصورة طارئة بسبب الفيروس. وهذا الوجه بقدر تحكّمه في مسار التعليم، فهو غريب عنه، لأنّه لا يُحسن الإنصات للأصوات المتعالية المطالبة بتوفير شروط التعلّم: الوسائل التكنولوجيّة للمعلّم والمتعلّمين معًا، والاتصال عبر الإنترنت مجّانًا في ظلّ الأزمة، وغيرها. إنّ همّه الأسمى أن ينضبط الفاعلون، وأن يُتقنوا العمل، ويخرجوا المنتوج أفضل إخراج.
أولياء الأمور: الصوت 1
الوجه الثاني للمكعّب يتقاسم مع الوجه الأوّل الرغبة في إخراج منتوج، بمواصفات نوعيّة، تُشبع جموح المستخدم وتوقعّاته. فآباء الطلّاب ينزلقون مُكرهين، رغبةً منهم في ضمان مستقبل أبنائهم، نحو خدمة أجندة سياسيّة لنظام اقتصاديّ مثقل بهاجس الربح. وفي ظلّ التّعليم عن بعد يوفّر أولياء الأمور كافّة الاحتياجات لأبنائهم، ويداومون على تتبّع مسارهم الدراسيّ حتى لا يضيّعوا تعلّم محتوى المنهاج الدراسيّ بصورة خطيّة.
أولياء الأمور: الصوت 2
وينشقّ عن الوجه الثاني وجهٌ ثالث، إنّه صوت آخرُ لآباء الطلّاب، غير مؤمن بجدوى هكذا تعليم، لأنّه يطوي ولا يفتح، يُجْمل ولا يُفصِّل، يُشَدّد ولا يتوقّع، يضع النهايات ولا يعود إلى المجريات. هكذا ترتفع آمال آولياء أمور المتعلّمين أحيانًا وتتكسّر في أحايين أخرى، بالرّغبة وعدم القدرة، وبالطّموح وقلّة الحيلة، وبالعقول التوّاقة وضيق الخواطر. إنّه صوت أتعبه ضغط الحياة اليوميّة، وأنهكته التّجربة الجديدة للتعلّم.
المعلّم/ المعلّمة
وأما الوجه الرابع للمكعّب فهو المعلّم/ المعلّمة. إنّه أمل الوجوه الثلاثة السالفة وضامن مساعيها. يقف المعلّم بخبرته النظريّة والعمليّة حائرًا متسائلًا حول جدوى التعليم في هذه المرحلة. لكن يبدو أنّ الأحداث تتسارع بما لا يُتيح الوقت حتى للتفكير، فما بالك بالتأمّل؟ إنّ الأمر أشبه بماكينة لا تتوقّف عن العمل إلّا بتغليف المنتج كلّه. إنّ المعلّم في نهاية المطاف يؤدّي وظيفته، ويخشى ألّا يؤدّيَها. إنّه يستجمع قوّته، ويُنسِّق مع الإدارة التربويّة ليبقى على اتصال بمتعلّميه؛ يعطي دروسًا، ويصحّح التمارين، ويُقَيِّم التعلّم عبر وسائل الاتّصال الجديدة. فمع الأزمة تشكّل مُعلّم جديد، مُعلّم عن بعد. أمّا شروط التعلّم فهي ما زالت في بداية تشكّلها.
المتعلّم/ المتعلّمة
ويقف الوجه الخامس للمكعّب مرتبكًا؛ متعلّم يحدوه أمل النجاح وتُعييه وجوه المكعب الناشزة المتنافرة. إنه مركز سيرورة التعليم ادّعاءً، وكلّ السعي فيه ولأجله استعراض. وحتّى لو كان التعليم لأجله، لأجل أن ينال حظّه من وظائف المستقبل، ففي نهاية المطاف، لا يعمل سوى على استكمال مساره كمنتج. إنّ استخدام أيّ أسلوب في التدريس لا بدّ وأن يأخذ في الاعتبار تنمية المتعلّم: عقله، وخياله، وانفعاله، وجسده. والتعليم عن بعد كأسلوب فرضته الأزمة، ينبغي له أن يستجيب لتحدّي تنمية هذه الجوانب في المتعلّم، إذا أراد له بالفعل أن يكون في مركز عمليّة التعلّم.
تكنولوجيا المعلومات
أمّا الوجه السادس للمكعّب فهو الأداة المتفوّقة على ذاتها، إنّها التكنولوجيا العابرة لأسطح المكعّب، محوّلة مادّته إلى برمجيّات لا تعرف سوى التمركز، وجذب أوجه المكعب الأخرى نحوها. ونحن بالفعل ننجذب إليها قسرا، مؤمنين بأنّ دورنا لا ينبغي له أن يتوقف لمجرّد كونها أداة تحكُّم قبل أن تكون أداة تعليم. ونؤمن أيضًا، ونحن في عزّ الدعوة إلى التحرّر من الأساليب التقليديّة للتّعليم، أنّ التكنولوجيا ينبغي أن تشهد ثورة، تتحرّر فيها من عناصر التحكّم والضبط، بفضل العقليات التي تُدرك أهمّيّة الحريّة في تشكّل الفهم الإنسانيّ.
المجتمع
سأنتقل الآن من النظر في الأوجه الستّة للمكعّب إلى تأمّل مصدر بقائها وهو المجتمع. فالمكعّب هو صنيع الحسّ العامّ، إذ تَشَكَّل المكعّب بفضله تدريجيًّا، وهو مَن يتحمّل مسؤوليّة إعادة تشكليه. والمتعلّم بوصفه جزءًا من الحسّ العامّ، هو في نهاية المطاف نتاج تنشئة اجتماعيّة، وهو في الوقت نفسه الأحوج إلى أن يتميّز بذاته، ويعيد النظر في تربيته لأجل التغيير. لكن الحلقة الذهبيّة التي يُعقد عليها الأمل مفقودة، بسبب تنشئة اجتماعيّة غير مستديمة ساهم فيها التعليم ذاته. ونحن المعلّمين محكومون بأدوارنا، وهي في مكعّب التّعليم عن بعد غارقة في الوضوح. إنّ مشكلات التعليم تتفاقم ما دمنا نحجب عن عقولنا رؤية مجالات رحبةً للتعلّم، وما دام التعليم ميكانيكيًّا مُغْرضًا يستخدم كلّ ما هو جديد، ثمّ يُبقي على جوهره التقليديّ. لقد صار المتعلّمون في العالم العربيّ مجبرين على استخدام الوسائل التي توفّرها تكنولوجيا المعلومات، إلى حدّ أنّ إتقانها أصبح مطلبًا ملحًّا من قبل مديري السياسات التعليميّة. فأُضيفت إلى ما يُعدّ أساسيًّا مثل القراءة والكتابة والحساب، مع تهميش رسميّ لكلّ ما ينبغي للتعليم أن يؤدّيه لأجل حياة المتعلّمين بصفتهم وجهًا رئيسًا من أوجه المكعّب. وتأكيدًا على الدور الذي ينبغي أن يضطلع به التعليم، نستشهد بما أورده Sterling، في كتابه "التعليم المستدام، تجديد الرؤية حول التعلّم والتغيير":
"لقد شهدنا مدارسَنا تتعرّض لانتقادات تريد أن تعرف لماذا 'لا يستطيع جوني القراءة، لا يستطيع جوني الكتابة'؟ والتي دعت للعودة إلى 'الأساسيّات'... لكن لماذا يتوقف خوفنا عند ذلك؟... لماذا لا نخشى أنّ جوني لا يستطيع الرقص، أو لا يستطيع الرسم، أو لا يستطيع التنفّس، أو لا يستطيع التأمّل، أو لا يستطيع الاسترخاء، أو لا يستطيع التغلّب على القلق والعدوانيّة (الاعتداء على حقوق الغير) والحسد، أو لا يستطيع التعبير عن الثقة والرقّة؟... أنّ جوني لا يعرف نفسه من يكون؟... دعونا نقبل أنّ المهارات الأساسيّة لا شأن لها بصحّة جوني، أو سعادته، أو صحّته العقليّة، أو بقائه، لكنّ لها شأنًا بأهليّته للعمل. من يهتمّ، إذًا، إن كان تعليم جوني يؤدّي دوره؟" (p.43)
وكما ارتبكت أوجه مكعّب التعليم عن بعد في العالم العربيّ، تعقّد موقف "جوني" مع التعليم عن بعد. فليس للتعليم الافتراضيّ سوى أن يعكس أسوأ ما في التعليم الحضوريّ؛ إنّه مرآة، وفوق ذلك هي مزيَّفة إن بدا ثمّة في الأفق أمل. لا ينبغي لغاية التعليم أن تكون مجرّد فتح قنوات للتواصل، فالتواصل يتعدّى مجرّد كونه قناةً، إنّه عمليّة تفاعليّة من شأنها أن تعيد الحياة إلى "جوني". إنّ مجتمعاتنا التربويّة في أمسّ الحاجة لدمج الممارسة التعليميّة والتعلّميّة في كلّ فعاليّات المجتمع الثقافيّة التي تشجّع على التفكير الإبداعيّ من مثل المسرح، والسينما، والرسم، والكتابة الإبداعيّة، والاختراع العلميّ، وغيرها، حتى لا تكون المدرسة سلاحًا يفتك بخيال المتعلّمين، ومن ثمّ يحدّ من تفكيرهم العقليّ التحليليّ الناقد البنّاء.
إنّ استقصاءً بسيطًا لواقع المتعلّمين قبل الجائحة، وفي أثنائها، وفي ظلّ اعتماد الوسائط الرقميّة جزئيًّا، سيشي لنا بالتخبّط الحاصل في عمليّة التعلّم. فالمتعلّم يتحوّل بصعوبة بين السياقات التي تحكم وجوده، بسبب غياب تصوّر يفرض التكامل فيما بينها. فلا هو أشبع حاجاته الاقتصاديّة، ولا هو نال الحماية البيولوجيّة، ولا ملك القدرة على فرض الاتّزان النفسيّ، ولا هو حقّق الاندماج الاجتماعيّ، ولا توفّر له مناخ طبيعيّ، فكيف يمتلك القدرة على حمل كلّ هذه الأثقال، إذا أضيف إليها تحوّل الوسائط الرقميّة إلى قدر جديد يزيد ثقلًا إلى أثقاله! إنّ التعليم الافتراضيّ يحتاج مسبّقًا لأرضيّة صلبة حتى يكون متكاملًا، وإلّا تحوّل إلى "دراما"، لا هي تسير بوتيرة الحياة الواقعيّة فتسمحَ بالتأمّل فيها، ولا لاعبو أدوارها قادرون على مراجعة منطلقاتهم والاتّفاق على قواعد لعب جديدة. إنّها "دراما" بلا حماية للمنخرطين فيها، خاصّة أنّنا نقف لدى ممارستنا لها على أنطولوجيّتين متماسّتين لعالمين، أحدهما واقعيّ والآخر افتراضيّ، أحدهما يجتاحه الوباء والآخر يجتاحه ضعف الإمكانات، والانتقال بينهما يحدوه الأمل ويعوقه الإحباط.
خلاصة
إنّها فرصة ذهبيّة لأن نقف وقفة تأمّل في هذا الموقف المستجدّ، علَّنا ندرك أنّ التعليم عن بعد هو نمط وجود، وفيض لوجودنا الواقعيّ الذي يحتاج إلى تجديد هياكله ليتحوّل بالضرورة، دون ارتباك، ودون تلاعب، ودون الرغبة في التحكّم إلى عالم افتراضيّ، وإلى عالم ممكن يرتفع بعالمنا الواقعيّ بعيدًا عن حالة التشظّي والتجزيء والتوتّر. وإذا توقّف التعليم عن لعب دوره الحقيقيّ في العالم الواقعيّ، فصدقًا لن يفلح بذلك في العالم الافتراضيّ. إنّه في ذلك مثل "الدراما"، لا تخلق التوتّر، ولايكون لها أثر على الجمهور، ما لم تكن مستقاةً من حياتهم الواقعيّة حيث يكونون "في ورطة". وإذا كان دور التعليم في العالم الواقعيّ هو التنمية وحفز الإبداع وحفظ المكتسبات، فإنّ دوره الأساسيّ في العالم الافتراضيّ هو إتاحة فرص تعلّم أكبر للجميع، وتيسير التواصل، ودعم القيم، وفق رؤية تكامليّة لحياة المتعلّمين.
المراجع
- Sterling, S. (2001). Sustainable Education: Re-visioning Learning and Change (4th Edition). Green Books.