التعليم التحرّريّ وتجربة غزّة
التعليم التحرّريّ وتجربة غزّة
سائدة عفونة | مساعدة رئيس الجامعة للرقمنة والتعلّم الالكتروني وعميدة كلية التربية في جامعة النجاح الوطنية- فلسطين

هل التعليم التحرّريّ مصطلح فلسفيّ؟ أم شعار لغويّ؟ أم غطاء حالة شرود ذهنيّة في عمليّة تربويّة دخلت مرحلة الشيخوخة، وتتألّم في عصر رقميّ وهميّ؟ هناك عدّة تعريفات لهذا المصطلح مرهونة بمرجعيّة واضع التعريف الثقافيّة والسياسيّة: فهو ما بين التعليم لأجل التحرّر الفكريّ، والتعليم لأجل التحرّر الثقافيّ، والتعليم باعتباره أداةً لتحرير الأرض والوطن من استعماريّ استيطانيّ خارجيّ، أو من متسلّق محلّيّ ثوريّ متخاذِل. اختلفت المعاني، وتعدّدت الأفكار، وتجدّدت الأحلام يوم السابع من أكتوبر، عندما علم القاصي والداني أنّ للحقّ أياديَ وصوتًا، وأنّ صاحب الحقّ لا ينسى، مهما اختلفت الرواية ومرّ الزمن وتغيّرت الوجوه وتعدّدت معاني الحرّيّة. 

 

بين مفهوم الحرّيّة والتعليم التحرّريّ

قبل الحديث عن التعليم، دعونا نعرِّف الحرّية تعريفًا لغويًّا يمثِّل حالة التخلّص من الخنوع والرضوخ والعبوديّة للنفس والآخر والجماعة والرغبات. وتتأرجح هذه الحالة ما بين المعرفة بأنّك حرّ، وممارسة هذه المعرفة والتصرّف على أساسها والمحاربة لأجلها. ولكلّ مرحلة متطلّباتها المعرفيّة والفكريّة والمهاراتيّة والنفسيّة؛ فلنبدأ بمعرفة أنّك حرّ، فهذا يتجسّد بمقولة أنّنا ولدنا أحرارًا، ولكن لا نلبث أن نصطبغ بالموروثات الثقافيّة والأسريّة. وقبل هذا وذاك، نحن نولد مقيّدين باسم اختير لنا، ودين فُرض علينا، ولغة نتعلّمها بحكم المكان والزمان، وهواء نتنفّسه بكلّ ما يحتوي من غبار وذرّات. وتأتي التربية الأسريّة لتتحكّم بمفهوم الحرّيّة باختلاف ما بين أسرة وأسرة وبيئة وأخرى، وتتبخّر فكرة المعرفة بالحرّيّة لنستمتع بأنّنا عبيد بإقرار وشهادة ميلاد.  

أمّا التصرّف على أساس الحرّيّة فخيار صعب المنال يحتاج إلى شجاعة الفرسان، ويقين العبيد بحرّيّتهم، ومزاج الثوّار، وتعليم الإرادة. ففي ظلّ المؤثّرات الخارجيّة كلّها، تتنازع الإرادة مع النوازع الداخليّة لتصنع حالة فوضى من الصراع بين الأفكار والمعتقدات، بين ما يباح به وما يخجل الفرد من التصريح بالتفكير به. وتتثاقل الهموم من كثرة ضغوط مجتمع واهم، ورئيس متقلّب، وأب متسلّط، ليحاول كلّّ فرد إيجاد مساحة من الأمان ليرقد فيها من دون حراك ومزاحمة وتفكير. وأمّا المرأة فحكايتها مع الحرّيّة محفوفة بالمخاطر، وقصص الخيال، ودروب الجنون، وأسرار الخيام، ووساوس الشيطان، وهيمنة الذكور. 

من هنا، تتمثّل مرحلة التغيير والثورة لأجل الحرّيّة، بمختلف مستوياتها الذاتيّة والمجتمعيّة والوطنيّة، برفض قيود مجتمعيّة، وتعليمات إداريّة، ومفهوم قيد السجن، وعلاقة السجّان بالسجين من وجهة نظرهما، وسقف السجن من وجهة نظر الأسير، وسقف بيت أمّ الأسير من وجهة نظرها، ولحظة لقاء طفل بأبيه من وراء القيود، ثمّ اللقاء بعد غياب طويل مع تغيّر ملامح الطرفين: فلم يعد الطفل طفلًا، ولم تعد ملامح الأب واضحة بعد أن أخذت معالم السجن منها ما أخذت، وتآكلت عظامه، وارتفعت معنويّاته، وصُدِمت نفسيّته بالتفاف الجماهير حوله، وتنامت رغبته بالانعزال بين أسوار نفسه، بعيدًا عن ذكريات الماضي القريب والبعيد. بالإضافة إلى ذلك، يختلط مفهوم الحرّيّة ما بين حرّيّة المكان وحرّيّة الكلمة والفكرة والثورة.

وفي ضوء ما ورد أعلاه، يأتي مفهوم التعليم والتعلّم وما بينهما من مفارقة، ليحدَّد التعليم التحرّرّي باتّجاه وفكرة وسلوك، وتبعات كلّ واحدة منها. ونحن نحتاج أوّلًا إلى أن نقتنع بأهمّيّة تحرير أنفسنا من العبوديّة المفروضة علينا ممّن يملك السلطة، بما في ذلك ذواتنا. وبتجرّد مطلق، سيحدث هذا التعلّم في إطار منهجيّ أعدّه سابقًا معدّو مناهج تحرّريّة انبعثت من أفكارهم المتشكّلة بالعبوديّة، وتقنعهم بأنّهم أصحاب الرأي والفكر، وعلى الآخرين بناء طريق تحرّرهم. فما بين عبوديّة واضعي المناهج وحرّيّة المتعلّم وضيق حيّز المعلّم، تتّسع الرقعة ليضيق الأفق بالمفهوم، بحثًا عن الذات والمكان، وعن فضاء خياليّ لصياغة جريئة لمفهوم التحرّر من الذات، وممّا يُملَى عليها.

 

حول تجربة غزّة في التعليم التحرّريّ

ما حصل في السابع من أكتوبر حالة تحرير من كلّ المعقول واللامعقول، ومن المؤكّد أنّه كانت هناك منظومة فكريّة تعليميّة انبثقت من سنين، من الظلم والقهر والعدوان، أضاءت مصابيح تفكّر كلّ طفل قُهِر، وكلّ أمّ ثكلى، وكلّ رجل مكلوم، وكلّ شاب فقد حبيبته في قصف سابق أو اجتياح عابر أو حرب عشوائيّة، عبر سنين طويلة من الاستيطان. ولا أدّعي هنا أنّ مدرسة طوفان الأقصى كانت نظاميّة، إنّما أكاد أجزم بأنّها مدرسة وجدت من مشاعر جيّاشة لحنين إلى وطن مغصوب، وأمّ مقهورة، ومعالم بيت محيت عبر ذاكرة الترحيل، وحقيبة النزوح، وكرة من القماش صُنعت من بقايا خيمة في المخيّم.  

ومن باب التصوير الحالاتيّ، لننظر إلى طفل لم يتجاوز الرابعة من عمره أُخرج من بيته، ومشى ساعات طويلة إلى مكان مجهول. تساءل عن سبب تركه بيته ولعبته وقصّته، وتعلّم من عجز والديه عن الإجابة وحسرة جدّته ودموع كلّ من حوله. تعلّم أنّ حقّه قد اغتُصب، وأنّ أرضه تحتاج إلى الدفاع عنها، وأنّ القهر لا يفيد أحدًا، وعليه البدء من جديد لإيجاد طريق الصمود وأبواب الخروج من اليأس والخيمة، والهروب من الموت أو الرضا به. فالموت والفقد والحياة والماء والطعام والمنزل والمدرسة والأخ والجار والمحارب والثائر والخبز والحليب... كلّها مفاهيم تغيّرت وأصبحت لها معانٍ تستحقّ التوثيق في موسوعة خاصّة بالعمالقة وصانعي التاريخ. التعليم التحرّريّ في حالة طوفان الأقصى تعلّم مفهوم التحرّر بلغة الأحرار، فكلّ الدروس عمليّة، ولا وقت للتنظير وللعروض التقديميّة وللكتب الرقميّة. فالدرس أمامك، تتعلّم بأغلى الأثمان، بدماء الشهداء وحذاء الأبطال وإيمان الأمّهات، ودموع الرجال التي تغرورق عيونهم بها فتحرقها. دروس صيغت بكرامة الأحرار ونثر قيد الظلم، وأقلام من عظام بُعثرت لمئات القتلى. مدرسة جديدة صُنعت تحت الأرض من ثقوب الأنفاق، وحرارة الخيمة، وعزّة النفس، وهيجان البحر، وهجرة الطيور.  

 

أن ترغب باستكمال الدراسة وتجعل جزءًا من الخيمة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة والإسعاف الأوّليّ، وأن تتعلّم المشي حافيًا على رمال ملتهبة وأنت جريح، لتبحث عن أقربائك قبل البحث عن مستشفى مهدوم وطبيب مكلوم، هذا هو التعليم التحرّريّ. أن تصمد طفلة صغيرة، وتغنّي "موطني"، وتتعلّم كتابة اسمها على يدها حتّى يُتعرَّف إليها وروحها تصعد إلى السماء، هذه هي مدرسة التحرير. أن تشتري أمّ بآخر مبلغ لديها كتبًا لتدرّس أطفالها، وتخصِّص مكانًا في خيمة مكتظّة للخلو بهم ومتابعة القراءة لهم، ليعلو صوتها على صوت مَعِدهم الخاوية، وتتابع فتقول: "ليس لنا سوى التعليم، فهو سلاحنا"، هذه التربية التحرّريّة. وتأتي الدبّابة لتجتاح جميع مَن يعتقد بهذا المعتقد، وتمحو أثارهم من الوجود، وتطير أوراق الكتب، وتقع صفحة منها مرسوم عليها عَلم فلسطين على الدبّابة، راسمةً لوحة صمود استثنائيّة في مشهد استثنائيّ مات فيه الجميع، وبقي العَلم يرفرف في مخيّلتهم ويغيظ كبرياء المحتل.  

استشهدت لميس وابنها كمال وهما في طريقهما إلى مكان يتوفّر فيه الإنترنت، لتستطيع تقديم امتحانها، تاركةً طفلتها كرز جريحة، كذكرى جميلة لعائلة سعيدة جعلت من العِلم شعارها، ومن الصمود أسلوب حياة. تعلّمت كرز أنّ أمّها تحبّ التعليم، وأنّ عليها صراع الموت لتغلبه، لتبقى وتكمل ماجستير أمّها. تعلّمت لميس عن التربية التحرّريّة من نزوح والدها وهدم مكتب جدّها وسرقة أحلام أخيها. تعلّمت بدمائها وتركت منهاجًا واضحًا لابنتها كرز، لتكمل كتابة آخر فصل فيه، لتتعلّم منه الأجيال.  

جسّد التعليم التحرّريّ في طوفان الأقصى نظريّة باولو فريري بالتطبيق العمليّ، والخوف الآن من العودة إلى المناهج السلطويّة التي أصبحت غير ملائمة لتجارب أطفال غزّة، وأصبح وعيهم أكبر من صفوف المدرسة التي فقدت مضمونها بتحوّلها إلى مركز إيواء. تحرّر الأطفال من المخاوف، ومن فكرة الموت، وتحرّروا من النظر إلى المستقبل الحالم، محاولين جاهدين الاستمتاع بلحظة يقتنصونها من تحت قصف مستمرّ. كما اختلفت علاقة المعلّم بطلبته وجدران مدرسته، فأعاد المعلّم تشكيل الكتب المدرسيّة بما يتلاءم مع مقتضيات الخيم واحتياجات المتعلّمين، وعاد إلى إيمانه السابق والمتوارث بين الأجيال: التعليم رسالة مقدّسة تخيِّم بمبادئها على ظلال الخيام، وما تبقّى من البيوت.  

آن الأوان، وقد أصبحت الأرض خصبة وجاهزة لاستقبال التعليم التحرّريّ في منظوره الجديد، وتحت إطار مبادئ التعليم في ظلّ الطوارئ، لتتحمّل الأسرة والمجتمع مسؤوليّتهما المباشرة عن التعليم، وكي لا يبقى تحت سلطة مَن هم مكبّلون باتّفاقيّات دوليّة ومشاريع تمويليّة تقيّد أداءهم وتحدّ من عطائهم. لننطلق مركّزين على استغلال القدرة على حلّ المشكلات، والتي تطوّرت بتعرّض الأطفال إلى ظروف صعبة أجبرتهم على إيجاد البدائل والحلول لمشاكلهم، وأصبح التفكير خارج الصندوق التفكير السائد. العديد من المبادرات انطلقت من المعلّمين، وعلينا التعلّم منها، وتطوير المستقبل بناءً على تطوّرات المرحلة ووعي المتعلّمين والمناهج التحرّريّة.   

 

* * *

في الختام، التعليم بصورته الحاليّة لا يتلاءم مع قواعد التعليم التحرّريّ الذي رسم معالمه الطلبة، من وعيهم بواقع أليم ومليء بالكرامة وشرف النضال وآلام النزوح وعزاء الفقد وغربة التشرّد. فعلى مؤسّساتنا التعليميّة الآن إعادة هندسة المنظومة التعليميّة بما يتلاءم مع توقّعات الطلبة وأحلامهم بوطن محرّر يلأم الجروح، ويضيء الطريق، ويتفهّم الآلام، ويعيد بناء الأمل.