منذ بدايات ظهور المناهج الدراسيّة المدرسيّة، وهي في تطوّرٍ مستمرّ، فلم يعد التعلّم محصورًا بالمواد الأساسيّة فقط، بل بات هُناك تدريس لموادّ جديدة أخرى متوافقة مع متطلّبات العصر، ومع التحوّلات والقفزات المتنوّعة في مختلف المجالات، بما يدمج الواقع الإنسانيّ مع الواقع التربويّ التعليميّ. من هُنا، اهتمّت الوزارات والهيئات المسؤولة عن التعليم بإضافة المناهج الداعمة لذلك، بما يشمل جميع المعارف المتعلّقة بمختلف التخصّصات الأكاديميّة والمهنيّة. وساهم ذلك في المشاركة بتنمية القدرات المختلفة لدى الطلاب، ومنها ما يتعلّق بالمهارات الحياتيّة العامّة. من هنا جاء الاهتمام بتدريس مادّة التربية المهنيّة، أو المعروفة باسم مهارات الحياة في المدارس الأساسيّة والإعداديّة، من خلال تخصيص حصص لها في جدول الدروس الأسبوعيّ.
التربية المهنيّة
من خلال عملي كمعلّمٍ متخصّصٍ في تدريس مادّة التربية المهنيّة للطلّاب، أرى أنها من الموادّ الدراسيّة المهمّة. وهي مادّة تُدرّسُ من الصفّ الرابع الأساسيّ إلى الصفّ العاشر الإعداديّ بحصّتين متتاليّتين أسبوعيًّا، تكون الحصّة الأولى منهما شرحًا للمادّة النظريّة، أمّا الحصّة الثانية فتطبيق للمهارات والأنشطة العمليّة. وتُعدّ هذه المادة فرصة مناسبة لكلّ طالب للتعبير عن المهارات المكتسبة لديه في الأشغال والأعمال البسيطة، كما أنّها تُعزّزُ لدى الطلّاب أهمّيّة احترام المهن التي تشكّل جزءًا من الأعمال في المجتمع.
أمّا عن مفهوم التربية المهنيّة، فلها مفاهيم وتعريفات تربويّة وأكاديميّة وبحثيّة كثيرة. تُعرَّف المادّة، على سبيل المثال، على أنّها المسار التعليميّ الذي يُؤهّلُ الفرد لإتقان المهارات والمعارف والأدوات المتعلّقة بمهنةٍ معيّنة، وزيادة خبرته فيها من أجل ممارستها عمليًّا أو تعليمها وتدريبها لأشخاص آخرين.
ومن واقع خبرتي في تدريس التربية المهنيّة، أضيف تعريفًا إليها: هي المهارات التي يعلّمها المعلّم للطالب، وتشملُ مجموعة من النتاجات المعرفيّة والعمليّة التي يجب إدراكها بدراستها، وتعلّمها وفهمها، ومراعاة الإجراءات والتعليمات المرتبطة بالأنشطة المتضمّنة في منهاجها، والتمرينات المرافقة لكلّ درس من دروسها؛ إذ تُدرّسُ بتعليم مختلط بين النظريّ داخل الغرفة الصفّيّة، والعمليّ في المشغل الخاصّ بها. وكلّ ذلك يكون لإكساب الطالب مهارات عمليّة مبنيّة على المعلومات النظريّة الموجودة في المنهاج، ومساهمة في تعزيز الاعتماد على الذات في تنفيذ مجموعة من الأعمال، مثل الصيانة البسيطة للكهربائيّات والمشغولات الخشبيّة، وفنّيّات التعامل معها، والإسعافات الأوليّة وأدواتها، وإعداد بعض أنواع الأطعمة والحلويات، وغيرها من المهارات الأخرى.
مجالات التربية المهنيّة
تتخصّص التربية المهنيّة، بصفتها منهجًا معرفيًّا وتربويًّا، بعدد من المجالات. كما أن محتواها متّصلٌ ببعضه البعض، فيتكرّر كثير من الدروس بين المراحل الدراسيّة، مع إثراء المحتوى وإضافة معلومات جديدة في كلّ مرحلة. وتصنّف مجالات التربية المهنيّة في مجالين: الأوّل المجال الأكاديميّ، وهو الذي يدرسُ فيه الطالب جميع المفاهيم، والنقاط، وخطوات العمل، وغيرها من المعلومات النظريّة فقط، فيكتسب الطالب، في هذا المجال، المخزون المعرفيّ والمعلوماتيّ الذي يساعدهُ على فهم التربية المهنية ودروسها. أمّا الثاني، فهو المجال المهنيّ العمليّ الذي يعتمدُ على التطبيق المباشر، والتنفيذ الفعليّ للمهارات والخطوات الخاصّة بالأنشطة الموجودة في المحتوى النظريّ، فيتعلّم الطالب طريقة التطبيق العمليّ الصحيح للنشاط، سواء أكان فرديًّا أم في المشغل مع زملائه.
أساليب تدريس التربية المهنيّة
لا تختلفُ الأساليب المتّبعة في تدريس التربية المهنيّة عن غيرها من الموادّ الدراسيّة الأخرى، لذلك من الممكن توظيف أكثر من أسلوب في تدريسها. يستطيع المعلّم تطبيق التدريس المباشر في شرح بعض النقاط والأفكار التي تحتاجُ إلى توضيح، كما من الممكن توظيف أساليب تدريس أخرى أكثر تفاعليّة، مثل "التعلّم التعاونيّ" عن طريق تقسيم الطلّاب إلى مجموعات، تُكلَّف كلّ مجموعة منها بنشاط معيّن. أو يطلب المعلّم من جميع المجموعات تنفيذ نشاط واحد، ثم يُقيّم عملهم، لاختيار مجموعة مُلهمة من بينهم.
كما تُدرّسُ التربية المهنيّة عن طريق "العروض التقديميّة المحَوسبة"، عبر توظيف أجهزة العرض الرقميّ (Data Show) لتوضيح الدروس، وعرض فيديوهات أو صور تشرح كيفيّة تطبيق الأنشطة والتمرينات العمليّة بطريقة واقعيّة مباشرة. وبرأيي، هذا الأسلوب هو من أساليب التدريس المفيدة التي تزيد من تفاعل الطلاب مع الدرس، خصوصًا مع استخدام أسلوب "المعلّم الصغير" الذي يُحضّرُ فيه الطالب موضوع الدرس، ثم يشرحه أمام زملائه، فيساهم ذلك في زيادة ثقته بنفسه، ويُحفّزهُ على استخدام وسائل البحث عن المعلومات، والإجابة على أسئلة زملائه، وبناء جسور حوار ونقاش معهم. كما يكون نموذجًا للطلّاب الآخرين في المشاركة، وتنفيذ هذا النوع من استراتيجيّات التعلّم والتعليم.
أهمّيّة تدريس التربية المهنيّة
لا تقلّ التربية المهنيّة أهمّيّة عن أيّ مادّة دراسيّة أخرى، بل أرى أنّها مهمّة جدًّا؛ فمن خلال تدريسها، يمتلك الطلّاب مهارات نظريّة وعمليّة مُختلفة يحتاجون إليها في حياتهم، كما تساعدهم على تعلّم الإجراءات والخطوات المتعلّقة بالمادّة. هكذا يصير الطلاب أكثر تقديرًا للمهن والعاملين فيها، من خلال اكتسابهم جميع القيم الإيجابيّة تجاه العمل، والحدّ من النظرة السلبيّة، والصورة النمطيّة التي تقلّل من قيمة الأعمال المهنيّة، وتُصنّفها ضمن خانة الوظائف غير المرغوب فيها لدى كثير من الطلّاب.
وتعدّ حصّة التربية المهنيّة من الحصص الممتعة لدى الطلّاب، لكونهم يغادرون أجواء التعليم الجامدة أو التقليديّة؛ فيصبح التعلّم أكثر متعة وتشويقًا، تحديدًا عند تطبيق أحد الأنشطة المتاحة ضمن المنهاج الدراسيّ، بما يجعل الطالب يشعر بأنّ التعلّم ليس مملًّا أو مليئًا بالمصطلحات والمعلومات الثابتة أو التي تحتاجُ إلى فهم وحفظ فقط.
في الختام، يهدف التركيز على أهمّيّة تدريس التربية المهنيّة إلى الإشارة إلى دورها الإيجابيّ في تعريف الطلاب بالمهارات العمليّة والمعرفيّة، والمفاهيم والمصطلحات التي تجعلهم يمتلكون الوسائل للتعامل مع متطلّبات الحياة المعاصرة، وتزويدهم بخبرات عمليّة ومهنية متنوّعة تمكّنهم من صقل مهاراتهم في عدد من المجالات. فكثير من الطلاب يميلون نحو تعلّم مهنة معيّنة أو صنعة ما، وفي هذا تساعدهم التربية المهنيّة على تعلّمها، واكتساب جميع المهارات والأدوات اللازمة لتوجيههم وإرشادهم نحو تحقيق النجاح الذي يطمحون إليه في المستقبل.