لم يعد دور المدرسة منحصرًا في تدريس الكتب المدرسيّة، بل تعدّى ذلك إلى الإسهام في بناء شخصيّة الطالب بمختلف أبعادها التربويّة والاجتماعيّة والسلوكيّة والثقافيّة. ولم يبقَ اهتمام البيئة التعليميّة الحديثة مقتصرًا على منح مساحة أكبر للمواد الأساسيّة فقط، بل شمل المواد الأخرى أيضًا، كالتربية الفنّيّة التي لا تقلّ قيمة عن غيرها. والتربية الفنّيّة جزء من المناهج الدراسيّة التي من شأنها تطوير مهارات التذوّق الفنّيّ لدى الطلّاب ومساعدتهم على اكتساب حبّ الفنّ والفنون، وتنمية الإحساس بالجمال لديهم في مختلف الأعمال والإنتاجات الفنّيّة.
يتحدّث هذا المقال عن وظيفة الفنّ في التعليم، ثمّ يتطرّق إلى أهمّيّة تدريس مادّة التربية الفنّيّة، والتي تظهر في دور المعلّم في توظيف أفضل الاستراتيجيّات والوسائل؛ لإيصال محتواها إلى المتعلّم. ينعكسُ ذلك، بطبيعة الحال، على تحصيله الأكاديميّ، ويؤثّر في كثير من صفاته وسماته الشخصيّة. ونختم بتسليط الضوء على التربية الفنّيّة في تنمية إبداع الطلّاب، ومساعدتهم على أن يكونوا أصحاب ابتكارات وإنتاجات فريدة ومميّزة.
ما وظيفة الفنّ في التعليم؟
يعرّف جودة (1999) وظيفة الفنّ في التعليم بأنّها تقديم المساعدة للأفراد، حتّى يكونوا قادرين على تحويل أفكارهم إلى صور ورسومات، باستخدام أساليب فنّيّة متنوّعة. كما تسهم في صقل مواهبهم الفنّيّة، وتجعلهم أكثر قابليّة للابتكار، وتذوّق الجمال الفنّيّ، والإفصاح عمّا يدور في ذواتهم. وترى عبيد (2005) أنّ وظيفة الفنّ في التعليم تكمن في تنمية إحساس الطلّاب، وتعزيز حبّهم الفنون وتهذيب نفوسهم، والتي تعدُّ تعديلًا أو إضافةً إلى سلوك الطالب الجديد، والذي يُعبَّر عنها بإتقانه بعضًا من النشاطات الفنّيّة أو إبداعه في أحدها، مثل الرسم والنحت والتصوير والعزف الموسيقيّ وغيرها. وهكذا، تدعَم التربية الفنّيّة التنمية الاجتماعيّة والفكريّة لدى الطلّاب، كما تساعدهم على استثمار أوقات الفراغ بممارسة نشاطات مفيدة، ما يجعلهم أكثر حُبًّا للتعلّم والتعليم.
أهمّيّة تدريس التربية الفنّيّة في المدارس
يشكِّل تدريس التربية الفنّيّة في المدارس ضرورة تسهم في تنمية القدرات الإبداعّية لدى الطلّاب، وتوفّر لهم إمكانيّة تعلّم موهبة جديدة أو هواية مفيدة، كما تجعلهم يمتلكون القدرات اللازمة للتعبير عن أنفسهم وأفكارهم. وبناءً على دراسة السبيعي (2011)، تنمّي التربية الفنّيّة وعي الطالب الفنّيّ وتعزّز لديه تذوّق قيم الجمال. فضلًا عن تمكينه من اكتشاف قدراته الفنّيّة والابتكاريّة، وتزيد من إدراكه لكيفيّة بناء العمل الفنّيّ، وتحقيق التوازن والتكامل بين العناصر الفنّيّة، وتجعله أكثر إلمامًا بالمصطلحات الفنّيّة.
يكمل السبيعي (2011) توضيح أهمّيّة التربية الفنّيّة بتسليط الضوء على دورها في زيادة دافعيّة الطالب نحو دراسة معايير الجمال في المجتمع، وذلك بربطها بمجموعة من الأسس التي تجعله أكثر قدرة على تمييز الاختلافات بين الفنون في المجتمعات الإنسانيّة. كما يتيح الفنّ الفرصة المناسبة أمام الطلّاب لتوظيف البحث والتجريب والاستكشاف، عن طريق دراسة المدارس الفنّيّة القديمة، والتعرِّف إلى الفنّانين أصحاب الأعمال المشهورة عالميًّا. بالإضافة إلى ذلك، تسهم حصص التربية الفنّيّة في تنمية روح الجماعة لدى الطلّاب، وتشجيعهم على التعاون والمشاركة في تنفيذ النشاطات. الأمر الذي يساعدهم على الوصول إلى تحقيق أعمال فنّيّة جماعيّة.
من الوسائل التعليميّة المستخدمة في تدريس التربية الفنّيّة
يُستخدَم في تدريس التربية الفنّيّة عددٌ من الوسائل التعليميّة المساعدِة على تحقيق نتاجات التعلّم المطلوبة. من أبرز هذه الوسائل التي أشار إليها الجسار (يونيو، 2021) في دراسته:
1. اللوحات التعليميّة: هي وسيلة تعلّم بصريّة تساعد الطالب على إدراك شكل العمل الفنّيّ ومحتواه بالنظر إليه، ومن أهمّها الخرائط والملصقات الملوّنة.
2. المجسَّمات: هي أشكال ثلاثيّة الأبعاد، يصنعها المعلّم أو الطلّاب معًا، باستخدام عدد من المواد، مثل الأخشاب والمعادن وغيرها.
3. الصور المتحرِّكة: تتمّ بتوظيف جهاز العرض الرقميّ أو التلفاز في عرض مجموعة من الصور أو الفيديوهات التعليميّة، والتي تعزِّز فهم الطلّاب وإدراكهم الأعمال الفنّيّة ومكوّناتها.
دور التربية الفنّيّة في تنمية إبداع الطلّاب
تعدّ صفة الإبداع ميزةً للإنسان، تجعله يمتلك مهارات خاصّة به. كما تُشكِّل الصفات الإبداعيّة جزءًا من الفروقات الفرديّة بين الأفراد. لذلك، كلّ إنسان مبدع في عمل أو مهنة أو نشاط ما، يكون متفرِّدًا واستثنائيًّا ومتألِّقًا في أداء مجاله. تناول نصّار (2014) في دراسته عددًا من المفاهيم المتّصلة بالإبداع، مثل اعتباره استحداث أسلوب جديد وغير تقليديّ، ينتج عن التفكير بعدد من الجوانب الفكريّة والحسّيّة. وفي تعريفات أخرى، هو مجموعة من الأفكار غير التقليديّة التي تسهم في حلّ بعض المشكلات، أو تطوير قدرات عقليّة، تؤدِّي إلى تقديم المبدع نفسه وفنّه بأفضل صورة.
يشير نصّار (2014) إلى أنّ دور التربية الفنّيّة في تنمية إبداع الطلّاب، يكون بتوظيف ما يُعرَف باسم التعليم الإبداعيّ؛ وهو شعور الطالب بمشكلة ما، ثمّ جمع المعلومات المتعلقِّة بها، وتركيبها بطريقة تساعده على تحديدها، من أجل الوصول إلى أفضل الحلول والنتائج التي يوصلها الطالب بدوره إلى معلّمه أو زملائه في الصفّ. يذكر نصّار (2014) أفضل الطرق التي تحقّق دور التربية الفنّيّة في تنمية الإبداع لدى الطالب، ويحصرها في طريقتين:
- - الطريقة الأولى تحتاج إلى تصميم برامج تدريبيّة وتعليميّة تُنمّي الإبداع، والمهارات الإبداعيّة، والتفكير الإبداعيّ عند الطلّاب، وتُطبَّق تطبيقًا مباشرًا في المدرسة.
- - الطريقة الثانية تستخدِم مجموعة من الوسائل والأدوات التربويّة المتعلِّقة باستحداث مناهج مطوَّرة، وتحتوي على نشاطات تفاعليّة، مثل نشاط رسم مراحل حدوث البراكين، وتوظيف الألوان والجماليّات الفنّيّة في توضيح كلّ مرحلة منها، من خلال الرؤية الإبداعيّة الخاصّة بكلّ طالب. وهكذا، يكون للتربية الفنّيّة دور حقيقيّ في تنمية إبداع الطلّاب، والإسهام في تطويره.
نماذج من النشاطات الفنّيّة التي تنمّي إبداع الطلّاب
يظهر إبداع الطلّاب في مادّة التربية الفنّيّة في عددٍ من النشاطات التي ينفّذونها، وتختلف الذائقة الفنّيّة لديهم باختلاف المرحلة العمريّة والدراسيّة. وضّح ذلك الحيلة (2008)، حيث أشار إلى أنّ أوّل أنموذج فنّيّ ينمي إبداع الطلّاب هو التعبير الفنّيّ بالرسم، وفيه يميّز الطالب بين الخطوط وأنواعها، كأن يرسم الأشجار والأشكال، ويختار لها خطوطًا تعبِّر عنها.
يشير الحيلة (2008) كذلك إلى أنموذج توظيف الأشكال الهندسيّة البسيطة في الرسم، حيث يرسم الطلّاب المربّعات والمستطيلات والمثلّثات وغيرها من الأشكال بأحجام مختلفة، بهدف التعبير عن نظرتهم إليها. يصل الطالب بذلك إلى مرحلة توظيف الألوان في الرسم، والتفريق بين كلّ لون ولون، ودرجاته اللونيّة، فيستخدم الألوان الشمعيّة في رسم صورة مصغَّرة عن منزله وتلوينها. قد يستخدم الطالب الألوان المائيّة في تلوين رسمة تحتوي على منظر طبيعيّ، كبستان مليء بالورود، وفي زاوية الورقة توجد شمس ساطعة.
لا تقتصر نماذج النشاطات الفنّيّة الطلابيّة على الرسم فحسب، بل تتعدّاه إلى مجال التشكيل والتركيب الفنّيّين، والذي يمتلك فيه الطالب مهارات تصميم الأشياء وتركيبها، كتركيب الألعاب، وتشكيل المجسّمات والأبنية، أو ابتكار أشكال يستوحيها من خياله أو البيئة المحيطة به. يستخدم في صنعها الطين أو ورق الكرتون المقوى، والذي يساعده على التعبير عن أفكاره وترجمتها في الواقع (الحيلة، 2008).
* * *
للفنّ دور مهمّ في تنمية إبداع الطلّاب، وتعزيز ذوقهم الفنّيّ، بتعريفهم بمكوّنات الأشياء وتفاصيلها، واكتسابهم مهارات فنّيّة متنوّعة، وتمكّنهم من تطبيق عدد من النماذج الفنّيّة التي تُترجِم ما يفكِّرون فيه، سواءً من خلال الرسم أم التصميم والتركيب. من هنا، تأتي أهمّيّة تدريس التربية الفنّيّة، مبحثًا دراسيًّا له حصص أسبوعيّة في جدول الدروس، ويدرَّس بتوظيف استراتيجيّات وأساليب التدريس المتنوّعة، مع الاستعانة بالوسائل التعليميّة المساندة. الأمر الذي يُحقِّق دور التربية الفنّيّة في تنمية الإبداع لدى الطلّاب.
المراجع
- الجسار، عدلة ثاني جبر. (يونيو، 2021). دور المفاهيم للاتجاهات المعاصرة في التربية الفنّيّة. مجلّة الفنون والعلوم الإنسانيّة. كليّة الفنون الجميلة.
https://majs.journals.ekb.eg/article_177050_ee27d15d401b38049c260560d0e53722.pdf
- جودة، محمد. (1999). الجديد في الفنّ والتربية الفنّيّة. دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة.
- الحيلة، محمد محمود. (2008). التربية الفنّيّة وأساليب تدريسها. دار المسيرة.
- السبيعي، حمود مناحي. (2011). مشكلات تدريس التربية الفنّيّة في المرحلة المتوسّطة بدولة الكويت من وجهة نظر الموجّهين التربويّين والمعلّمين. كلّيّة العلوم التربويّة. جامعة الشرق الأوسط.
https://meu.edu.jo/libraryTheses/58a7eb0a6afeb_1.pdf
- عبيد، كلود. (2005). الفنّ التشكيلي نقد الإبداع وإبداع النقد. دار الفكر اللبناني.
- نصّار، ضياء حسين. (2014). مدى قدرة منهاج الفنون والحرف على تنمية القدرات الإبداعيّة لدى طلبة الصفّ التاسع الأساسيّ من وجهة نظر الطلبة في محافظة قلقيلية. كلّيّة الدراسات العليا. جامعة النجاح الوطنيّة.
https://scholar.najah.edu/sites/default/files/Diya%20Nassar.pdf