لعلّ طلبة الصعوبات التعلّميّة هم أكثر الفئات التي تحتاج إلى التفاعل المباشر في التعلّم، وإلى الكثير من الأدوات والاستراتيجيّات الملموسة والمحسوسة التي تعتمد على ما يُسمَّى بالتكامل الحسّيّ، حتّى تتطوّر مهاراتهم بشكل فعّال. فعلى سبيل المثال، الطفل الذي يعاني تأخّرًا لغويًّا يحتاج إلى تدريبات مباشِرة لتحسين أعضاء النطق، حتّى يستطيع إنتاج الأصوات بالشكل الصحيح. والطفل الذي يعاني عسرَ الكتابة يحتاج إلى أدوات حسّيّة تساعده على الكتابة. وكذلك الأمر مع أطفال التوحّد وفرط الحركة وتشتّت الانتباه، فهم بحاجة إلى الكثير من الوسائل والمصادر المتنوّعة التي تراعي قدراتهم وتجذب انتباههم، فتساعدهم على زيادة التركيز.
لكن، وعلى رغم الصعوبات التي يتعرّض لها هؤلاء الطلبة، تمكّنا في مدرستنا من ابتكار الحلول البديلة خلال فترة التعليم عن بعد، والذي حرصنا على الاستمرار في استخدامه في ممارستنا مع الطلبة بعد العودة إلى التعليم الوجاهيّ، وذلك نظرًا لمدى نجاعته في مختلف الظروف. من هنا، نسلّط الضوء في هذا المقال على الاستراتيجيّات التي اتّبعناها مع طلبة الصعوبات التعلّميّة في التعليم عن بعد والتعليم الوجاهيّ على حدّ سواء.
استراتيجيّة العمل مع أهالي الطلبة
اقتضى التعليم عن بُعد العملَ مع الأهل بشكل مباشر، إذ أصبحوا شركاء فاعلين في دعم الطلبة. أرسلنا أوراق عمل ونشاطات متنوّعة إلى الأهل حتّى يقوموا بتنفيذها مع أبنائهم في البيت، وذلك بعد إرسال فيديوهات توضيحيّة لتقديم استراتيجيّات عمليّة تساعد الأهل على دعم أبنائهم في البيت. وذلك عكس ما كان يحدث قبل التعليم عن بعد، حيث كانت الاستراتيجيّات التي نشاركها مع الأهل مجرّد شرح نظريّ، من خلال المحاضرات والاجتماعات وورش العمل. شملت النشاطاتُ المرسلة المهاراتِ النمائيّة، مثل التركيز والانتباه والذاكرة والمهارات اللغويّة، بالإضافة إلى المهارات الأكاديميّة. وبهذا، حوّلنا، نحن والأهل، المنازل إلى بيئة تعليميّة بكلّ ما في الكلمة من معنى.
وفي مثال توضيحيّ، أذكر طفلًا عانى مشكلاتٍ في النطق، واحتاج إلى تدريبات لتحفيز أعضاء النطق على إنتاج الصوت من مخرجه السليم. فاتبعنا، لتحقيق ذلك، أسلوب النمذجة والتقليد، حيث استعان أعضاء الفريق بأبنائهم وبناتهم في البيوت لتمثيل الأدوار. بالإضافة إلى تسجيل الفيديوهات التي شرحت عمل الأخصّائيّ مع طفله، والأدوات المطلوبة، وكيفيّة التدريب على استخدام أعضاء النطق استخدامًا سليمًا، من أجل أن تكون الصورة واضحة للأهل في تنفيذ المطلوب مع أبنائهم. كذلك، تطلّبت مساعدة الطفل الذي يعاني مشكلات أكاديميّة في مهارات القراءة والكتابة، تزويدَ الأهل بالاستراتيجيّات التي تساعد في عمليّة تقسيم الكلمات إلى مقاطع صوتيّة، ممّا يُسهِّل على الطالب القراءة والكتابة. شاركنا الأهل الطرق العمليّة التي ساعدت الطفل على ربط الأحرف والكتابة بالاتّجاهات الصحيحة، بالإضافة إلى استراتيجيّات عمليّة لتقوية العضلات الدقيقة التي ساعدت الأطفال على إمساك القلم.
وبرغم صعوبة هذه الطرق والاستراتيجيّات على الأهل، لما تفرضه من ثقل أكاديميّ وضغط نفسيّ في ذلك الوقت، إلّا أنّ أغلبهم أظهر تعاونًا إيجابيًّا في دعم أبنائهم في البيت، وأرسلوا فيديوهات توثِّق عملهم مع أطفالهم في البيت. وكانت هذه المرّة الأولى التي يتعرَّف فيها الأهل إلى نقاط القوّة والضعف لدى أبنائهم تعرُّفًا مباشرًا، فضلُا عن إدراكهم المشكلات والتحدّيات التي يعانيها أبناؤهم، وكيفيّة مساعدتهم ودعمهم بشكل عمليّ.
استراتيجيّة توظيف المنصّات الإلكترونيّة
من جهة أخرى، فرضت مواكبة التطوّر وتفعيل التكنولوجيا في دعم طلبة صعوبات التعلّم نفسها؛ فوظّفنا المنصّات الإلكترونيّة، وقدّمنا جلسات افتراضيّة بين الطفل والأخصّائيّ. شملت هذه المنصّات مواد ومصادر متنوّعة ذات مؤثّرات صوتيّة وحركيّة، أسهمت في دعم الطلبة أثناء الجلسات الافتراضيّة. وتمثّل التحدّي الكبير في خلق جلسة شيّقة وممتعة لجذب الطالب، إذ إنّ المحاضرة المباشرة القائمة على التلقين لا تصلح في هذه الحالة.
بالإضافة إلى ذلك، أدّت المنصّات الإلكترونيّة دورًا في عمليّة التواصل وتنسيق الاجتماعات، إذ لم يكن من السهل تحديد وقت يناسب جميع الأشخاص المعنيّين بالحضور. ولكنّ الأمر أصبح أسهل في ظلّ جائحة كورونا، حيث يكون الحضور عبر المنصّات الإلكترونيّة، مثل منصة زووم، والتي ساعدت على عقد الاجتماعات، فأصبح باستطاعة الجميع الحضور من أيّ مكان في العالم من دون التقيّد بمكان محدّد. كما أفاد عقد الاجتماعات عبر المنصّات في تسجيل الاجتماعات، بهدف الرجوع إليها في أيّ وقت للاطّلاع على النقاط التي تحتاج إلى المزيد من الإيضاح.
استراتيجيّات فعّالة تمّ تطويرها أثناء الجائحة
لا شكّ في أنّ عودة الحياة إلى شكلها الطبيعيّ أعاد النبض إلى قلوبنا، ولكن لا يمكننا إغفال الإيجابيّات الناتجة عن التعلّم عن بعد، بكلّ ما اتسم به خصائص، مثل المرونة والاستمراريّة والتعلّم الفعّال، وذلك باستخدام الحواس المتعدّدة. فضلًا عمّا حقّقه من تطوّر في شخصيّة الطالب، وجعلها أكثر استقلاليّة وتحمّلًا للمسؤوليّة. لذلك، حرصنا، كمختصّين في مجال التربية الخاصّة، على استخدام هذه الاستراتيجيّات أثناء فترة التعليم عن بعد. من هنا، أرسلنا المواد والنشاطات إلى الأهل مع تسجيل فيديو توضيحي، حتّى لا ينقطع الأهل عن متابعة تطوّر أداء أبنائهم. كما ساعدت هذه النشاطات على توحيد العمل بين ما يتمّ التدريب عليه في المدرسة وفي البيت، ولا سيّما مع الطلّاب الذين يعمل معهم معلّم خاصّ في البيت. ولم ننسَ إرسال أهداف الجلسات قبل بداية كلّ أسبوع، لكي يجهّز الأهل المواد المطلوبة للجلسات الافتراضيّة.
بعد عودة التعلّم الوجاهيّ، تابعنا إرسال أهداف الجلسات، إذ أصبح ذلك مطلب الأهل. والجدير بالذكر أنّ الجلسات الافتراضيّة كانت جميعها مسجّلة، ما أتاح للأهل الرجوع إليها في أيّ وقت، لمراجعة المفاهيم مرّة أخرى مع الطلبة. ساعد ذلك بدوره في عمليّة دعم الطفل، والحفاظ بشكل كبير على مستوى تطوّره، لأنّ طلبة الصعوبات التعلّميّة بحاجة دائمة إلى التكرار لتثبيت المفاهيم التي يتلقّوها. كما ساعد تسجيل الجلسات على فهم الأهل هدف الجلسة ومحتواها، ومتابعة تطوّر أطفالهم، فأصبحوا على وعي كامل بطبيعة عمل قسم الدعم، وبتوقّعاتهم تجاه أبنائهم.
إضافة إلى ذلك، حرصنا على تسجيل بعض الجلسات الفرديّة وإرسالها إلى الأهل، لنسهّل عليهم دعم أبنائهم في البيت، ولا سيّما في ما يتّصل بالمفاهيم التي تحتاج إلى استراتيجيّات من المختصّين. كما حرصنا على أن تتمّ الاجتماعات واللقاءات بشكل افتراضيّ، من خلال المنصّات، لسهولة تحديد موعد اللقاء من دون التقيّد بمكان. فأصبح اليوم باستطاعة ولي الأمر متابعة أبنائه، حتّى لو لم يكن في البلد نفسه. ويكمن الهدف من الاستمرار في استخدام التقنيّات المذكورة في تعزيز مفهوم التطوّر المستمر، والتفكير خارج الصندوق، والاستعداد لأيّ ظروف تجعلنا ننتقل مرّة أخرى إلى التعلّم عن بعد.
الأمر اللافت للنظر كان قدرة بعض طلبة الصعوبات التعلّميّة على التأقلم والمرونة والقابليّة للتغيير وتحمّل المسؤوليّة. ظهر ذلك بوضوح خلال فترة التعلّم عن بعد، حيث لاحظنا قدرة الطلبة على الانضمام إلى حصصهم بشكل مستقلّ، وتذكّر الأوقات والمواد من دون الاستعانة بأولياء أمورهم. أصبح الطالب فعّالًا أكثر، وهذا ما نسمّيه بلغة البكالوريا الدوليّة صوت الطالب، إذ أصبح هو محور الجلسة لا المعلّم، مع تقديم بعض التوجيهات له، كأن يُحضِّر الطالب نشاطًا في البيت عن هدف الجلسة، ثمّ يأتي به إلى المدرسة ويفتتح الجلسة، مبيّنًا ما فعله.
خاتمة
في النهاية، نجد أنّ الجائحة استُثمِرت في كلّ من المعلّم والأهل والطالب؛ فالأهل أصبحوا شركاء فعّالين في دعم أطفالهم، والمعلم أصبح أكثر ابتكارًا وتفكيرًا خارج الصندوق، والطالب أثبت قدرته على التأقلم والمرونة، ولا سيّما طلبة الصعوبات التعلّميّة. كما عزّزت الجائحة مفهوم الاستمراريّة، حيث لم يعد من داعٍ لتعليق الدراسة بسبب مرض أو سفر أو سوء أحوال جويّة.