يُعدّ التعليم وسيلة الاستثمار الأساسيّة في الرأس المال البشريّ، والذي هو غاية التنمية والشرط الضروريّ لضمان تحقيق استدامة المجتمع. ومع التقدّم العلميّ والتكنولوجيّ المُتسارعِ، أصبح التعليم، كغيره من قطاعات الخدمات، مُطالَبًا بمواكبة التطوّر السريع، والإفادة منه لخدمة العمليّة التعليميّة على نحو يُحقِّق المزيد من الكفاءة، ويُعين على استخدام الموارد الماديّة والبشريّة استخدامًا أمثل، لدعم التنمية المُستدامة على أوسع نطاق.
وخلال جائحة كورونا، برزت حاجة التعليم إلى آليّات جديدة تتلاءم مع الأزمة، فكان التعليم الإلكترونيّ هو البديل الوحيد الكفيل باستمرار العمليّة التعليميّة. لكن بعد انتهاء الجائحة، أصبح من الضروريّ تطوير التعليم الإلكترونيّ، تفاديًا لحدوث أيّ أزمة مستقبليّة، وللاستمرار في تقديم التعليم بشكل فعّال.
يتطرّق هذا المقال إلى أهمّيّة التعليم الإلكترونيّ في الواقع التعليميّ الراهن، وضرورة تطويره والإفادة من مزاياه في المستقبل؛ فنعرض واقعه وأهمّيّته، ثمّ بعضَ ميزاته وآثاره الإيجابيّة في الاقتصاد والمجتمع والبيئة، لنختم بتبيان ما يحتاج إليه في المستقبل من متطلّبات تسهم في تطوّره.
واقع التعليم الإلكترونيّ وأهمّيّته
ممارسة الخدمات الاجتماعيّة مثل التعليم والعمل، باتت تتمّ عن بُعد، كواحدة من الأساليب الرئيسة التي لجأت إليها الدول لمواجهة تداعيات الأزمات. وأتاح التقدّم التكنولوجيّ الكبير في مجال الاتّصالات، إمكانيّةَ إدارة دورة تعليميّة كاملة، من دون الحاجة إلى وجود الطلّاب والمعلّمين في المكان ذاته. وفي هذا الإطار، سعت الدول إلى تفعيل التعليم الإلكترونيّ من أجل استمرار العمليّة التعليميّة خلال فترة الأزمات، وذلك بتوفير نظام تعليميّ يستخدم أدوات التكنولوجيا الحديثة، من أجل الارتقاء بجودة التعليم وكفاءة مخرجاته على نحو مُستدام.
يُعدّ التعليم الإلكترونيّ، مفهومًا وتقنيّةً، مجالًا حديثًا في حقل التعليم، كما أصبح رُكنًا مهمًّا للاقتصاد المعرفيّ. ولا يقتصر مفهوم التعليم الإلكترونيّ على تدريس المناهج وتخزينها في أقراص مُدمَجة، وإنّما هو تعليم مبنيّ على التفاعل؛ حيث يقتضي وجود مناقشات متبادلة بين المعلّم والطلبة، وبين الطلبة أنفسهم. يدور التعليم الإلكترونيّ حول أربعة محاور رئيسة، هي: استخدام التكنولوجيا، والتواصل بين المعلّم والطالب، وتضمين المعلومات والتدريب، واستهداف جودة التعليم. أمّا أهمّ آليّاته المُستخدَمة في التعليم، فهي: تقنية الـ"فيديو كونفرس"، والمحاضرات المباشرة، وتسجيل محاضرات المعلّمين والمختصّين وحفظها في موقع معيّن، فضلًا عن استخدام التطبيقات الحديثة مثل تطبيق زوم.
لم يعد بإمكان المؤسّسات التعليميّة الوقوف موقف المُتفرِّج من التطوّرات التكنولوجيّة والمعلوماتيّة الحاصلة حولها، وسط عالم تتسارع فيه الأحداث، وتتغلغل فيه التكنولوجيا في جميع مفاصل الحياة. أدرك كلّ من المعلّم والطالب في مختلف المراحل الدراسيّة، أهمّيّةَ تكنولوجيا المعلومات، وكيفيّة توظيفها من أجل تحديث العمليّة التعليمّية، ولا سيّما في فترة الأزمات.
تمنح شبكة الإنترنت المؤسّسات التربويّة منصّة إعلاميّة متطوّرة ورخيصة الكلفة نسبيًّا، إذا ما قورنت بتكاليف التعليم التقليديّ. ومن الممكن أن تُوظِّف المؤسّسات التعليميّة التقنيّات الحديثة في مجال الصوت والفيديو الرقميّين، من أجل بثّ نشاطاتها عبر الإنترنت وتمكين الطالب من التعلّم بسهولة.
الآثار الإيجابيّة للتعليم الإلكترونيّ وبعض مزاياه
تتطلّب المرحلة الراهنة من المؤسّسات التعليميّة أن تنتقل من مرحلة التعليم التقليديّ إلى التعليم الإلكترونيّ. ويحتاج ذلك إلى متطلّبات فنيّة وإداريّة واقتصاديّة واجتماعيّة، حيث يعمل التعليم الإلكترونيّ على تقديم الدعم لتحقيق التنمية التعليميّة المستدامة، مقارنة بالدور الذي يمكن أن يقوم به التعليم التقليديّ.
ومن الناحية الاقتصاديّة، تَتركَّز تكلفة تدشين التعلّم الإلكترونيّ على التكاليف الثابتة، والمتمثّلة في البنية التحتيّة والأجهزة وتصميم البرامج والمقرّرات. وبهذا، يُحقِّق التعليم الإلكترونيّ وَفَرات ماليّة تتعلّق بتكاليف نفقات انتقال المعلّمين والمتعلّمين، والتكاليف الإداريّة، وكذلك كلفة الأبنية والفصول والمعامل والموارد الخاصّة التي يتمّ استبدالها ببيئة التعلّم الافتراضيّة.
أمّا تأثير التعليم الإلكترونيّ في المحور الاجتماعيّ، فيتمثّل في المساعدة التي يقدّمها على إيصال التعليم إلى المناطق كافّة، حتّى النائية منها. كما أنّه يساعد على تمكين المرأة وذوي الاحتياجات الخاصّة من فرص التعليم.
ومن ناحية أخرى، يُعدّ التعليم الإلكترونيّ صديقًا للبيئة، حيث إنّه يستهلك 90٪ طاقةً أقلّ من الطاقة المُستخدَمَة في نظم التعليم التقليديّة. وهذا الأمر يؤدّي إلى انخفاض حجم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 85٪ لكلّ طالب، من خلال ترشيد استخدام وسائل النقل ومتطلّبات الأبنيّة التعليميّة، وعدم استخدام عدد كبير من الأوراق، مقارنةً بما تحتاج إليه أشكال التعليم التقليديّ منها. كما يحدّ التعليم الإلكترونيّ من تبعات انتشار العدوى في الفصول الدراسيّة المُكدَّسة في وقت الأزمات والأوبئة.
بالإضافة إلى هذه الآثار الإيجابيّة، يتميّز التعليم الإلكترونيّ بمرونة الوقت، على عكس الفصول التقليديّة. فالتعلّم عبر الإنترنت طريقةٌ مناسبة للأغلبيّة، حيث يمكن للموظّفين والطلّاب الحصول على دورات في المجالات التي يرغبون بها في الوقت الذي يناسبهم، مثل حضور المحاضرات في عطلة نهاية الأسبوع، أو في المساء بعد نهاية دوام العمل. كما يُسهِم التعليم الإلكترونيّ في توفير بعض الوقت اللازم للتعلّم، إذ لا وجود فيه للوقت الذي يحتاج إليه الطالب للانتقال إلى المقرّ التعليميّ والعودة منه إلى المنزل.
وأخيرًا، يتيح التعليم الإلكترونيّ تسجيل الفصول الدراسيّة، فيستطيع الطالب مشاهدة الدروس والمحاضرات أكثر من مرّة، حتّى يستوعب المعلومات بشكل كامل. لا يتوافر ذلك في الفصول الدراسيّة التقليديّة، حيث تبدأ المحاضرة وتنتهي في وقت معيّن، وإذا لم يتمكّن الطالب من حضورها، فلا يمكنه مشاهدتها في وقت لاحق. وذلك على عكس التعليم الإلكترونيّ الذي يُمكِّن الطلّاب من الوصول إلى المحتوى التعليميّ في أيّ مكان وفي أي وقت، ممّا يساعدهم على التحضير والإعداد للاختبارات.
مستقبل التعليم الإلكترونيّ ومتطلّباته
من المتوقّع أن يتفوّق التعليم الإلكترونيّ على التعليم التقليديّ في دعم التنمية التعليميّة، ولا سيّما أنّ التعليم التقليديّ يواجه عدّة تحدّيات، منها: عدم توافر مصادر التمويل بشكل متوازن ومستدام، وطبيعة التوزيع الديموغرافيّ غير المتوازن للسكّان، وصعوبة التكيّف ومواكبة الثورة التكنولوجيّة والمعلوماتيّة، والتسرّب من التعليم الناتج عن ثقافة بعض المجتمعات أو بسبب الظروف الاقتصاديّة، وعدم تَوفّر الكادر البشريّ المؤهّل تمامًا للعمليّة التعليميّة. وبالطبع، تتضخّم حدّة هذه التحدّيات في الدول النامية منخفضة الدخل. الأمر الذي يحول دون تحقيق التنمية المستدامة في هذه الدول بشكل خاص.
وعليه، قد يحظى التعلّم الإلكترونيّ بإقبال كبير في المستقبل، وبإيلاء مزيد من الجهود لتطوير جودة العمليّة التعليميّة، حيث إنّ الآليّة التكنولوجيّة الحديثة التي يقوم عليها التعليم الإلكترونيّ هي الأكثر ملاءمة لروح العصر. فتسهم سهولةُ التواصل التي يؤمّنها التعليم الإلكترونيّ في تحفيز الطلّاب على المشاركة والتفاعل، وذلك بالعصف الذهنيّ الذي يُولِّد الطاقات الإبداعيّة ويُظهِرها. كما أنّها تُمكِّن المعلّم من مقارنة التطوّر الدراسيّ للطلّاب ومتابعته، بالإضافة إلى ما يتيحه التعليم الإلكترونيّ من تنويع لمنهجيّة التعليم وطرق الإيضاح، حسب نوعيّة الطلّاب وخصائصهم. فيتمكّن الطلّاب، من خلال المقرّرات الإلكترونيّة، من الاطّلاع المستمرّ على المحتوى الدراسيّ، ما يرفع من مستويات التحصيل الدراسيّ بالإجمال.
تتطلّب هذه النقلة المستقبليّة في مجال التعليم الإلكترونيّ توافر بعض الأمور الأساسيّة، من أهمّها:
1. الدعم الإداريّ السياسيّ للتعليم الإلكترونيّ. وذلك يقتضي وجود الأنظمة والتشريعات المرنة والمناسبة لمتطلّبات هذا التعليم.
2. تَوفّر خدمة الإنترنت، والتي تقتضي بدورها تَوفّر بنية تحتيّة تتناسب مع زيادة الطلب على خدمات تقنيّات المعلومات والاتّصالات.
3. بناء القدرات والطاقات البشريّة، بحيث تحتاج تطبيقات التعليم الإلكترونيّ إلى تَوفّر معلّمين يتحلّون بالمهارة والقدرة على التعامل مع التقنيّات الجديدة.
4. مساعدة القطاع الخاص والعام ومؤسّسات المجتمع المدنيّ للمؤسّسات التعليميّة.
5. تَوفّر المبالغ الماليّة اللازمة لدعم التعليم الإلكترونيّ.
خاتمة
بناءً على ما تقدّم، يبشّر التعليم الإلكترونيّ بمستقبل واعد في مجال التربية والتعليم. لكنّه يحتاج إلى متطلّبات تُسهِم في تخطّي الصعوبات وتذليلها، للوصول إلى الرقيّ في تقديم جودة عالية في التعليم المدرسيّ والجامعيّ. فمن الأهمّيّة بمكان، صياغة خطّة استراتيجيّة تسعى إلى تصميم نموذج جديد لتطوير تعليم إلكترونيّ يناسب الجميع.
من هنا، يجب على واضعي السياسات والحكومات ومصمّمي مواقع الشبكة الإلكترونيّة، توفير الحدّ الأدنى من متطلّبات التعليم الإلكترونيّ للطلاب والمعلمين، وتنظيم مشاريع تُسهِم في دعم قدرة المؤسّسات التعليميّة على استخدام الأنظمة الحديثة. بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ من عقد دورات تدريبيّة للمعلّمين بشكل دوريّ، وتعزيز ثقافة الجودة وتوعية المعلّمين وموظّفي المؤسّسات التعليميّة حول أهمّيّة التطوّر في استخدام الأنظمة التعليميّة الحديثة، من أجل رفع إمكانات الكوادر المؤهَّلة، وتحقيق التقدّم في المدارس.