أصداء الدردشة: التعليم بلا مدارس.. الحاجة إلى الإبداع والتعليم البديل
أصداء الدردشة: التعليم بلا مدارس.. الحاجة إلى الإبداع والتعليم البديل

تؤدّي المدارس دورًا مهمًّا في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات، بإتاحة بيئة منظّمة للتعلّم والتنمية، فهي المؤسّسات الرئيسة التي تقدّم المهارات والمعارف والقيم الضروريّة لضمان تحقيق نموّ المتعلّمين، بدءًا من أسس القراءة والكتابة، وحتّى تعقيدات البحث العلميّ والتفكير النقديّ. فضلًا عن كونِها المساحة الآمنة، حيث يمكن للمتعلّمين فيها التعبير عن أنفسهم واكتشاف هويّتهم. ولكن، ماذا لو اختفت هذه المؤسّسات فجأةً من ملامح حياتنا اليوميّة؟ 

قد يبدو هذا السؤال منافيَّا للمنطق، كيف للمدارس أن تختفي فجأة؟! وبدا يومذاك وكأنّه تمرين ذهنيّ يدفع بالمعلّمين إلى التفكير خارج الصندوق. لكن، بعد أحداث السابع من أكتوبر سنة 2023، وما يواجهه عديد من المعلّمين والمربّين والطلّاب في ظلّ أوضاع فرضها العدوان الغاشم على غزّة، اتّضح أنّنا أصبنا واقعًا مفروضًا يتحدّى العقل والمنطق والحدود البشريّة للقبول، إذ يستهدف العدوان الإسرائيليّ المدارس، جزءًا من استراتيجيّة عسكريّة لإبادة التعليم، أو تدميرها عن بكرة أبيها، فيؤدّي غيابها إلى فقدان سبل التعليم. إذًا، كيف سيصبح شكل التعليم حينها؟ وهل سينتج المعلّمون الفلسطينيّون في خضمّ تعليمهم اليوميّ وسط مأساتهم، سبلًا ومناهج تعليميّة بديلة، تفرضها ظروف طارئة؟ وهل سنرى تعليمًا تحرّريًّا أو شعبيًّا أو متّسقًا مع محيطه مستهدفًا قيم الصمود والمواجهة والتحرير والتحرّر؟ 

يفتح السؤال عن مصير المجتمع في غياب المدارس أمامنا آفاقًا واسعة من التفكير النقديّ والتأمّل، ومن هذا المنطلق، طرحنا سؤالًا افتراضيًّا: "كيف تتخيّل شكل التعليم لو لم تكن هناك مدارس؟" في إحدى دردشاتنا لسنة 2022، على عدد من المعلّمين والمربّين من مختلف الدول العربيّة. وفي هذا المقال، نحلّل بعضًا ممّا ورد عنهم من آراء وأفكار حول شكل التعليم في حال غياب المدارس.

 

لا بديل عن التعليم في المدارس 

يرى بعض المعلّمين في إجاباتهم عن السؤال المطروح أنّ فكرة عدم وجود مدارس غير معقولة. يقول مجد خضر: "لا يمكنُ بسهولةٍ تخيّل شكلٍ آخر للتعليم في غياب المدارس"، ويقول أنس شموط "لولا وجود المدرسة لم يوجد التعليم". وقد تُعزى تلك الآراء إلى خلفيّاتهم الثقافيّة والاجتماعيّة، ونشأتهم في مجتمعات تُعِدّ المدارس جزءًا لا يتجزّأ من نظام التعليم والتنشئة، فتقول سارة حسينو "المدرسة بمثابة حجر الأساس للمعرفة التي يكتسبها الطفل، وذلك لأنّها مكان آمن لنشر الأفكار والوصول اِلى المعلومات وصولًا منظّمًا وبأبسط الوسائل والإمكانات". كما أنّ المدارس ليست أماكن لتلقّي العلم فحسب، بل هي مؤسّسات اجتماعيّة تسهم في بناء القيم والانتماء المجتمعيّ أيضًا، فتقول زهور عقل: "المدرسة هي البيت الثاني للطالب، فهي تعلّمه وتربّيه وتسهم مع الأهل في تشكيل ذاته".  

بينما هناك من ينظر إلى المدرسة باعتبارها بنية مادّيّة تعليميّة، فتقول إيناس الجلّاد: "ارتبط التعليم بالمكان الذي يجمع عدّة طلّاب وسبّورة وطباشير، فلا يُمكنني تخيّل التعليم بلا مكانٍ للدراسة". ويقول محمد لعمري: "سيكون التعليم مبتورًا من دون مدارس". ويقول  عالي حمنا : "عرف شكل التعليم تطوّرًا كبيرًا في الحاضر، بفضل المدرسة بمرافقها وتجهيزاتها. فلولا المدرسة، بنيةً، لاستمرَّ التعليم تقليديًّا لا يخرج عن إطار التلقين". قد تُعزى هذه الإجابات إلى كونهم ينتمون إلى دول تتمتّع ببنية تحتيّة تعليميّة مستقرّة، لم تشهد نزاعات أو أزمات أثّرت تأثيرًا جوهريًّا في وجود المدارس، أو في قدرتها على تقديم التعليم.

 

التكيّف والابداع في التعليم خلال الأزمات 

لا تمنع الظروف القاسية التي يعيش فيها المعلّمون في بعض الدول المتعرّضة للأزمات والحروب وتدمير البنى المدرسيّة من استمرار عمليّة التعليم، تقول فداء فاتوني: "حصر التعليم بمكانٍ مُحدّد، وكأنّه مكان مقدّس لا تستطيع ممارسة طقوسك التعليميّة خارج أسواره، شيء مقيت". وتقول رولا عزّام: "لم يقتصر تعلّم الإنسان على وجود مكان مخصّص للدراسة المنهجيّة، فكان الكُتَّاب هو المكان الذي يذهب إليه الأطفال ". وتقول أمل أبو زيد: "نحن نتمسّكُ عاطفيًّا بأنماط التعلُّم داخل المدرسة، والتفكير المنطقيّ بتلك الأحداث يوجب علينا الكفاح والبحث لإيجاد بدائل مختلفة للتعليم خارج أسوار المدرسة كمكان". ويقول عبد الرحمن الشولي: "لا أعتقد أنّ وجود المدرسة أو عدمها رهين تحصيل الإنسان للعلم، فإنّي أرفض إقران وجود مبنى المدرسة بحصول عمليّة التعلّم، فالتعلّم يتمّ في المدرسة وخارجها". 

يعدّ التعليم عمليّة ديناميكيّة تتجاوز الجدران لتشمل جوانب الحياة كلّها. ومن هنا، تظهر الحاجة إلى تبنّي وسائل بديلة للتعليم. تقول روزان علّو: "كانت للحروب القدرة على إيقاف التقدّم الحضاريّ. فإن لم تكن هناك مدارس ستكون هناك طرق أخرى للتعليم". في هذه السياقات، يظهر دور المعلّمين قوًى دافعة نحو إيجاد حلول مبتكرة لضمان استمرار العمليّة التعليميّة. ومن هذه البدائل التعلّم عن بُعد الذي يمتاز بمرونته وقدرته على التكيّف مع مختلف الظروف، إذ يمكن للطلّاب اختيار أوقات الدراسة التي تناسبهم، واستغلال الموارد التعليميّة المتاحة عبر الإنترنت، والتفاعل معها بطرائق مبتكرة. وهذا ما أشارت إليه لبنى صقر في دردشتها، وتؤكّد نجوى صبح على أهمّيّة التطبيقات للتواصل مع الطلّاب، إذ عملت على تقريب المسافة من المعلّم.

 

الحاجة إلى أساليب تعليم بديلة ومتنوّعة

أظهرت الآراء عدم قدرة بعض المعلّمين على تخيّل التعليم من دون المدارس، بنيةً مادّيّة، بينما أكّدت تجارب بعض المعلّمين من دول تعاني النزاعات والحروب، على أنّ التعليم يمكن أن يستمرّ شريطة إيجاد طرائق بديلة، وتبنّي وسائل تعليميّة مبتكرة. وأشار بعضهم إلى ضرورة الاستفادة من التكنولوجيا باستخدام التطبيقات والمنصّات الرقميّة في عمليتَي التعليم والتعلّم. 

لا يعني نجاح التعليم عن بُعد خلال أزمة جائحة كورونا في بعض الدول، نجاحه في الدول التي تتعرّض للأزمات والحروب؛ فالقصف المستمرّ على غزّة وانقطاع الكهرباء المتكرّر يجعل من الصعب على الطلّاب الوصول إلى الإنترنت ومتابعة دروسهم متابعة منتظمة. بالإضافة إلى ذلك، فالبنية التحتيّة الاتّصاليّة في عديدٍ من المناطق المتضرّرة بالحروب تكون ضعيفة أو معدومة، ممّا يزيد من التحديّات التي تواجه العمليّة التعليميّة. 

وفي هذا الصدد، نرى أنّه من الضروريّ اعتماد أساليب تعليميّة بديلة ومتنوّعة يمكن للمعلّمين تطبيقها خلال الظروف الصعبة، فعندما نتجاوز حدود المدرسة التقليديّة، يصبح التعليم أكثر انفتاحًا على محيطه. الأمر الذي يخلق فرصًا جديدة للتعليم في ظلّ ظروف السلم والحرب على حدٍّ سواء. نعرض مجموعة من هذه الأساليب في ما يأتي: 

 

التعليم في الأماكن العامّة والمفتوحة 

يُعدّ التعليم في الأماكن العامّة والمفتوحة أحد البدائل الفعّالة التي تضمن استمرار العمليّة التعليميّة. يمكن تحويل الحدائق، والساحات، ودور العبادة إلى مواقع مؤقّتة للتعليم؛ ممّا يُتيح بيئة آمنة يمكن وصول الطلّاب والمعلّمين إليها بسهولة. تسمح هذه الأماكن بتنظيم الفصول الدراسيّة وفق جدول زمنيّ يناسب الظروف الحاليّة.

يتيح ذلك قدرة المعلّمين والطلّاب على التكيّف مع الأوضاع المتغيّرة، والاستفادة القصوى من الموارد المتاحة، والحفاظ على استمراريّة التعليم. كما يتّسم هذا الأسلوب بتعزيز التواصل الاجتماعيّ بين الطلّاب، حيث يتيح التفاعل المباشر مع الأقران، ويعزِّز شعورهم بالانتماء والتماسك المجتمعيّ. بالإضافة إلى إتاحة فرصة للتعليم العمليّ باستغلال الطبيعة المحيطة لتقديم دروس في موادّ، مثل العلوم والجغرافيا. 

التعليم عبر المجموعات الصغيرة والتعليم الشخصيّ 

يعتمد هذا الأسلوب على تقسيم الطلّاب إلى مجموعات صغيرة، حيث يُمكن للمعلّمين تقديم دروس متخصّصة تتناسب مع احتياجات كلّ مجموعة، أو تقديم التعليم تقديمًا فرديًّا إذا لزم الأمر. يتيح هذا البديل للمعلّمين فرصة التركيز على احتياجات كلّ طالب الفرديّة، وضمان تقديم الدعم التعليميّ المناسب، بناءً على مستواهم وقدراتهم الخاصّة. يعزِّز التعليم في مجموعات صغيرة من التفاعل الاجتماعيّ والتعلّم التعاونيّ بين الطلّاب، إذ يمكنهم تبادل المعرفة والخبرات، وتقديم الدعم النفسيّ إلى بعضهم. ويُعدّ هذا التفاعل جوهريًّا في بناء مجتمعات تعلّم مرنة وقادرة على التكيّف مع التحدّيات. 

التعليم بالأنشطة العمليّة والفنّيّة 

يركّز هذا الأسلوب على التعلّم بالمشاركة الفعّالة في الأنشطة اليوميّة والإبداعيّة، حيث يُتيح استخدام الفنون والحِرف اليدويّة كوسائل تعليميّة، وتعزيز قدرة الطلّاب على التّعبير عن أنفسهم، وتطوير مهاراتهم اليدويّة والفنّيّة، باستخدام مواد بسيطة ومتاحة محلّيًّا لتنفيذ هذه الأنشطة. يتعلّم الطلّاب مهارات جديدة، مثل الرسم، والنحت والتلوين. كما يعدّ المسرح والتمثيل أحد أنواع هذا التعليم، حيث تقدّم المفهومات الدراسيّة تقديمًا تفاعليًّا وممتعًا، وتُتاح للطلّاب فرصة أداء أدوار مختلفة تساعدهم على تطوير مهارات التواصل والعمل الجماعيّ. وتُعدّ الألعاب التعليميّة أيضًا جزءًا مهمًّا من هذا الأسلوب، إذ تُصمَّم لتحاكي المفهومات الدراسيّة وتُقدَّم بطرائق ترفيهيّة وتفاعليّة تُضفي المتعة على التعليم، وتعزّز الفهم في موادّ، مثل الرياضيّات والعلوم واللغات، بالأنشطة التي تتطّلب التفكير النقديّ وحلّ المشكلات. 

إعادة تصوّر البدائل التعليميّة التحرّريّة، والشعبيّة، وبالمجاورة 

بناءً على ما تقدّم، تتّسم الأساليب التعليميّة البديلة المعروضة آنفًا بالمرونة والقدرة على التكيّف مع الظروف المحلّيّة؛ ممّا يجعلها خيارًا ملائمًا لتلبية احتياجات الطلّاب في المجتمعات المتنوّعة. وفي هذا السياق، تتحقّق فكرة التعليم التحرّريّ – كما نادى بها باولو فريري – التي تُركّز على تحرير الأفراد من الأنظمة التعليميّة التقليديّة والرتيبة، وتوجّههم نحو فهم المفهومات المعرفيّة فهمًا ذاتيًّا. ومن هنا، يعكس التعليم في الأماكن العامّة والمفتوحة مبادئ التعليم التحرّريّ، حيث يتفاعل الطلّاب في الأماكن العامّة مع بيئتهم، ويستخدمون موارد المجتمع المحلّيّة لتعزيز فهمهم العالم من حولهم. يشجِّع هذا النوع من التعليم على التفكير النقديّ والاستقلاليّة، حيث يتعلّم الطلّاب كيفيّة التعلّم بأنفسهم، واستكشاف الموضوعات ذات الصلة بحياتهم اليوميّة وظروفهم الخاصّة. 

من جهة أخرى، يرتبط التعليم الشعبيّ بإتاحة معرفة الأفراد ومهاراتهم في سياقاتهم المحلّيّة، وينظر إلى التعليم على أنّه عمليّة تعاونيّة تُبنى على أساس الخبرات الحياتيّة والمعرفة الشعبيّة. وفي هذا الإطار، يتجسّد هذا النوع من التعليم في أسلوب التعليم عبر المجموعات الصغيرة والتعليم الشخصيّ، إذ يمكن للطلّاب والمعلّمين تبادل الخبرات والمعرفة مباشرةً، ويتيح هذا الأسلوب للمعلّمين الاستجابة إلى احتياجات الطلّاب الفوريّة، واستخدام قصص المجتمع المحلّيّ وتجاربهم موادًا تعليميّة، بالإضافة إلى تعزيز شعور الطلّاب بالانتماء والمشاركة الفعّالة في بناء معرفتهم. 

بموازاة ذلك، يعدّ الجوار بيئة غنيّة تعزّز فاعليّة الأساليب التعليميّة البديلة. وقد أشار المفكّر التربويّ الفلسطينيّ منير فاشه إلى التعليم بالمجاورة بديلًا عن التعليم الرسميّ، يركّز على التعلّم بالتفاعل مع البيئة المحيطة والأشخاص والمجتمعات. وانطلاقًا من ذلك، يرتبط التعليم بالأنشطة العمليّة والفنيّة بفلسفة التعليم بالمجاورة التي تركِّز على التعلّم بالتجربة المباشرة والتفاعل مع المحيط. فالأنشطة الفنّيّة والعمليّة ليست وسائل لتعلّم الموادّ الأكاديميّة فحسب، بل هي أدوات للتعبير الذاتيّ، وبناء المهارات الاجتماعيّة والعاطفيّة. وبالمشاركة في هذه الأنشطة، يتعلّم الطلّاب كيفيّة حلّ المشكلات، والتعاون مع الآخرين؛ ممّا يعزِّز قدرتهم على التكيّف والابتكار في مواجهة التحدّيات الحاليّة والمستقبليّة. 

 

* * *

بالنظر إلى هذه العلاقات، يُمكننا القول إنّ التعليم خارج جدران المدرسة ممكن باستعمال الأساليب التعليميّة البديلة، والتي هي ليست مجرّد بدائل عن الأساليب التقليديّة؛ بل هي تجسيد حقيقيّ لمفهومات التعليم التحرّريّ، والشعبيّ، وبالمجاورة، حيث تتيح للأفراد القدرة على التعلّم والابتكار في بيئاتهم في وقت السلم والحرب. وفي النهاية، تبقى هذه الوسائل التعليميّة منارة أمل وأدوات فاعلة لبناء المجتمعات، وتعزيز الصمود في ظروف استثنائيّة. 

 

منهجيّات