في الظروف الطبيعيّة، ليس تعليم الطلّاب ذوي الإعاقتين البصريّة والسمعيّة نشاطًا تربويًّا سهلًا سريع التحقّق والإنجاز. وهو في حالات الطوارئ يزداد تعقيدًا وصعوبةً. إلّا أنّ جائحة كورونا تشكّل حالة طوارئ استثنائيّةً للغاية، طالت كوكب الأرض بأكمله، وغيّرت طرائق العمل في مختلف المجالات. صحيح أنّ التصدّي لها تفاوت قوّةً وكفايةً من دولة إلى أخرى، إلّا أنّ تأثيرها شمل مختلف نواحي الحياة، وترك أثره الأكبر على قطاع التربية، وعمليّات التعليم من رياض الأطفال، وحتّى مراحل الدراسات العليا. فكيف أثّرت الجائحة في الطلّاب ذوي الإعاقتين السمعيّة والبصريّة وتعليمهم في البلدان العربيّة؟
يهدف المقال إلى عرض نظام تعليم الطلّاب ذوي الإعاقتين البصريّة والسمعيّة في الدول العربيّة، وتأثّره بجائحة كورونا، مقدّمًا تجارب دول عديدة في تعليم هذه الفئة من الطلبة عن بعد من وجهة نظر ناشطين من ذوي العلاقة في تلك البلاد جرى رصد آرائهم، ويستنتج ما يجب اعتماده لاختبار ما تعلّمه الطلّاب، وتثبيته.
تدريس الطلّاب المكفوفين والصمّ عربيًّا
سيفتقر الحديث إلى الدقّة ما لم نمرّ على نظام التعليم الذي يؤمّن الدروس للطلّاب ذوي الإعاقتين في مختلف البلدان العربيّة، ولو أنّه متشابه بصورة عامّة. على أنّ القليل من الدول العربيّة، كالأردنّ، يعتمد سياسة الدمج العامّ الشامل منذ السنوات الأولى للدراسة.
بدءًا من مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، شهدت الدول العربيّة إنشاء مدارس متخصّصة لتعليم الطلّاب المكفوفين، ثمّ الطلّاب الصمّ. وفي بعض الحالات، تضمّ هذه المدارس المتخصّصة قسمين، واحدًا للمكفوفين، وآخر للصمّ. مع تأسيس المدارس المتخصّصة الأولى للمكفوفين والصمّ، توقّفت المدارس العاديّة النظاميّة عن استقبال الطلّاب ذوي الإعاقتين. تعرف هذه المدارس في بعض الدول العربيّة بمدارس التربية الخاصّة، ونسمّيها هنا المدارس المتخصّصة. هكذا تجد نسبة معيّنة من الطلّاب المكفوفين والصمّ تعليمًا موازيًا في مدارسهم يوصف بالمتخصّص، لكنّ نسبة التخصّص فيه ليست كبيرة؛ ففيها يتعلّم الطلّاب المكفوفون القراءة والكتابة بطريقة برايل، وأصول التنقّل باستعمال العصا، وتمارين الحواسّ لتنمية ملكات السمع واللمس، كما يتلقّى الطلّاب الصمّ دروسًا في لغة الإشارة ومبادئ قراءة الشفاه. هذا هو كلّ التعليم الإضافيّ المتخصّص، الذي يتمّ تعويضه في برامج الدمج الشامل بوساطة مدرّسي الظلّ والمعلّمين المتجوّلين.
من هنا باشر عدد من الأقطار العربيّة عمليّات دمج الطلّاب ذوي الإعاقات في المدارس العاديّة، ولكن دون الاستغناء عن المدارس المتخصّصة، كما هي الحال في مصر والسودان وغيرهما. في المقابل، تشهد دول أخرى كالجزائر وموريتانيا إقامة مدارس متخصّصة جديدة للطلّاب ذوي الإعاقات البصريّة والسمعيّة، يلتحقون بها حتّى نهاية المرحلة المتوسّطة، إذ ينتقل الطلّاب إلى المدارس العاديّة لدراسة المرحلة الثانويّة إلى جانب الطلّاب غير ذوي الإعاقة. وما زالت المدارس المتخصّصة في الدول العربيّة عاملةً وتستوعب أعدادًا غير صغيرة من الأطفال. لذلك عندما نتحدّث عن تأثير الجائحة على الطلّاب ذوي الإعاقتين السمعيّة والبصريّة، ينبغي أن نتنبّه إلى طلّاب المدارس المتخصّصة، وطلّاب المدارس غير المتخصّصة، علمًا بأنّ مجموع الفئة الأخيرة ليس معروفًا بدقّة. في المقابل، تنشر وزارات التربية والشؤون الاجتماعيّة في الدول العربيّة، إحصاءات تشمل مجموع الطلّاب ذوي الإعاقة المستفيدين من خدمات المدارس المتخصّصة.
تجارب ودروس
خلال الموجة الأولى من الجائحة، توقّفت المدارس في السودان بصورة شبه تامّة طيلة العام 2020. وبسبب ضعف تغطية البلاد بشبكة الإنترنت، وضعف حضور التطبيقات المختلفة الممكن استعمالها على أجهزة الحاسوب أو الهاتف الذكيّ، لم تعمد السلطات إلى التعليم الإلكترونيّ عن بعد. لجأت التربية إلى تقديم الدروس عبر الإذاعة، لكنّ الصمّ اعترضوا لأنّ الإذاعة وسيلة سمعيّة صوتيّة لا يمكن استعمال لغة الإشارة فيها، فتوقّفت الدروس بعد شهر، وأفرزت السلطات قناة تلفزيونيّة لتقديم الدروس، لكنّ بثّها لم يفلح في تغطية معظم مقاطعات البلاد، فتوقّف تقديم الدروس عبر التلفزيون أيضًا. وقرّرت السلطات بداية العام الدراسيّ في الأوّل من تشرين الأوّل، الشهر الذي كانت الدراسة تنتهي فيه.
سارت الجزائر أيضًا على الخطّ الزمنيّ نفسه تقريبًا، فقد توقّفت الدروس في الموجة الأولى، ولم يعتمد التعليم عن بعد لأسباب تتعلّق بعدم تغطية الإنترنت للبلاد المترامية الأطراف، ثمّ عادت المدراس في تشرين الثاني 2020 في ظلّ تدابير احترازيّة. في البلدين طال الطلّاب المكفوفين والصمّ في مدارسهم المتخصّصة أو في المدارس الدامجة ما طال الآخرين. وبرأي عدد من الناشطين والعاملين في الجمعيّات المعنيّة، لم يختلف وضع الطلّاب من هاتين الفئتين في موريتانيا وتونس والمغرب عن ذلك. وتجدر الإشارة إلى أنّ قسمًا مهمًّا من الطلّاب ذوي الإعاقتين في الدول المغاربيّة يلتحقون بالمدارس المتخصّصة حتّى نهاية المرحلة المتوسّطة، ثمّ ينتقلون إلى المدارس العاديّة في المرحلة الثانويّة، أو هم يدمجون أحيانًا في المدارس العاديّة المحلّيّة منذ الصغر بدعم من أهاليهم، ويبيّن لنا أحد الناشطين في شؤون ذوي الإعاقة من تونس أنّ بعض الدروس في بلاده قدّمت عن بعد، لكن الدروس المقدّمة عبر الإنترنت بوساطة التطبيقات والبرمجيّات المتنوّعة لم تشمل القسم الأكبر من الموادّ.
في مصر، اعتمدت وزارة التربية قناة "مدرستنا" على شبكة الإنترنت لتوفير الخدمات التربويّة للطلّاب الذين اضطرّوا للتعلّم عن بعد. ولم تلجأ السلطات إلى التعليم عبر الراديو أو التلفزيون. في المقابل، لدى سؤال ناشطي حركة الإعاقة من المكفوفين عن اعتماد مدارس التربية الخاصّة على منظومات التواصل مثل Zoom وما شابهها، أو قناة "مدرستنا" لتعليم طلّابها الموادّ المختلفة، وضّحوا أنّ الطلّاب المدمجين من المكفوفين حصلوا على المعاملة التي نالها الطلّاب غير المكفوفين في مدارسهم العاديّة، إذ جرى شرح الدروس لهم بالطريقة نفسها التي اعتمدت للطلّاب غير المكفوفين، أي دون إيضاح الموادّ البصريّة كالرسوم البيانيّة المهمّة في توضيح الأفكار. أمّا الصمّ، فيتبيّن من آراء الناشطين أنّهم لم يستفيدوا بالقدر المطلوب من التعليم عن بعد، وبخاصّة أنّهم يرون التعليم في مدارسهم المتخصّصة ضعيف المستوى في الأوضاع العاديّة.
بالانتقال إلى العراق، نجد الترتيبات مختلفة بصورة ملحوظة بين إقليم كردستان وباقي محافظات البلاد. ففي كردستان، خصّصت وزارة التعليم الإقليميّة قناة تعليميّة عبر الإنترنت أعطيت فيها كلّ مدرسة رمزًا خاصًّا بها، ومنحت كلّ مدرسة دخولًا خاصًّا لكلّ طالب من طلّابها. هذا ما سمح للطلّاب أن يحضروا الصفوف الافتراضيّة، ويشاركوا خلال الشرح والتمارين الصفّيّة. وقد عومل الطلّاب المكفوفون معاملة الطلّاب غير المكفوفين، فتلقّوا الشروح نفسها مع الإشارة إلى الموادّ البصريّة دون توضيح مفصّل لتركيبتها وتقسيمها، ليسهل على غير المبصرين فهم الإشارات المتعدّدة من قبل المدرّسين. أمّا في بقيّة المحافظات العراقيّة، فاكتفيَ بإيصال الدروس والشروح والتمارين عبر رسائل وفيديوهات بواسطة تطبيق WhatsApp، وعبر تطبيقات أخرى مثل Zoom وGoogle meet. هذا ما سمح للطلّاب المكفوفين بأن يتابعوا الدروس سماعيًّا دون أن يستطيعوا الإفادة ممّا يكتبه المدرّسون على اللوح. أمّا الطلّاب الصمّ، ففي كردستان حصلوا على معاملة خاصّة مختلفة، إذ رفضت السلطات التربويّة فكرة تعليمهم عن بعد، وقد جرى عند رفع الحظر تقديم الدروس حضوريًّا في مدارس الصمّ في شمال العراق، وذلك لقناعة المسؤولين بأنّه من شبه المستحيل على غير السامعين الاستفادة من متابعة الدروس عن بعد. ولم تتوفّر معلومات مفصّلة عن طريقة التعامل مع الطلّاب الصمّ في باقي أنحاء العراق.
أصدرت السلطات التربويّة الفلسطينيّة كتيّبات توجيهيّة حول التعامل مع الطلّاب ذوي الإعاقة في ظلّ جائحة كورونا، وقد ركّزت على تعليم الصمّ. لم تتوفّر معلومات تفصيليّة عن الإجراءات العمليّة الدقيقة لتعليم أفراد هاتين الفئتين في مناطق السلطة الوطنيّة في الضفّة الغربيّة وفي قطاع غزّة، وفي الأردنّ. إلّا أنّه بالإمكان استنتاج أنّ معاملة الطلّاب ذوي الإعاقتين في الأردنّ كانت مثل معاملة الطلّاب الآخرين، لا سيّما أنّ المملكة الأردنيّة تعتمد نظام الدمج الشامل.
في لبنان، لا يعتمد الدمج العامّ للطلّاب ذوي الإعاقتين البصريّة والسمعيّة، وذلك خلافًا للقانون رقم 220 لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقات الذي من المفروض أن يضمن ذلك. من هنا، انصبّ التركيز على ما اعتمدته المدارس المتخصّصة غير الحكوميّة. أجرت مدارس الصمّ تجارب في التعليم عن بعد لطلّابها، وبحسب تعبير مسؤول في الاتّحاد اللبنانيّ للصمّ، فالتجارب "لم تكن مثمرةً ولا مجديةً"، إذ يعزو رأيه إلى عدم التحقّق من دور الأهل في كتابة الواجبات والمساعدة في الاختبارات، وعدم وجود ترجمة دقيقة إلى لغة الإشارة، وتعذّر التحقّق من غنى المادّة البصريّة التي يقدّمها المدرّسون عند الشرح. ولذلك كان من المهمّ رصد آراء بعض المدارس المتخصّصة.
المدرسة اللبنانيّة للمكفوفين والصمّ تؤكّد حَسَب بياناتها الرسميّة أنّ الطلّاب الصمّ وجدوا سهولةً في متابعة الدروس عبر Zoom أكثر من نظرائهم المكفوفين، وكان تفاعلهم بلغة الإشارة وبالأعمال الكتابيّة جيّدًا. لا يعترض على ذلك مدرّسو مدرسة الهادي للمكفوفين والصمّ. كما تؤكّد مدرستا البيان والهدى على أنّ الطلّاب الصمّ تابعوا بصورة مرضية نسبيًّا الدروس عن بعد. ويتّضح من معلومات المدارس المتخصّصة الأهليّة أنّ التعليم عن بعد اعتُمد منذ بداية إغلاق المدارس، وقد قرّرت المدرسة اللبنانيّة تخصيص ثلاثة أسابيع كاملة للحضور الفعليّ للطلّاب فيها للمراجعة والاختبارات النهائيّة.
من ناحية أخرى، يتبيّن من مدرسة الهادي والمدرسة اللبنانيّة أنّ طلّابهما المكفوفين في صفّ الشهادة المتوسّطة تابعوا دروسهم عن بعد مع طلّاب المدارس المدمجين فيها، وجرت متابعة محدودة لهم من قبل إدارة برنامج الدمج. وهي الصورة المفترضة التي نتوقّع أن تكون حال الطلّاب المكفوفين المدمجين في المدارس الثانويّة بدعم من أهاليهم عليها، فهم لا يحظون بمتابعة جدّيّة من قبل الجهات الرسميّة أو الأهليّة.
في المقابل، اختبر الطلّاب ذوو الإعاقات البصريّة والسمعيّة والحركيّة الملتحقون بمدرستَي البيان والهدى التعليم عن بعد بنتائج يراها المدرّسون والمسؤولون مرضيّةً نسبيًّا. نتيجةً لذلك، ترتسم علامات استفهام حول طرائق قياس أداء الطلّاب الصمّ، وحول فاعليّة استيعابهم للدروس، وقابليّة شحذ مهاراتهم بعيدًا عن صفوفهم ومدارسهم تحت رقابة الأهل؛ إذ إنّ الحضور الشخصيّ بالغ الأهمّيّة في اكتساب المهارات، واستيعاب المفاهيم، والأفكار، والمعلومات.
يتماشى هذا الطرح مع رأي عدد من المربّين وخبراء التربية الخاصّة في الكويت، التي اختبرت _كغيرها من دول مجلس التعاون الخليجيّ_ طرائق مختلفة لتعليم الطلّاب ذوي الإعاقتين عن بعد. وترى باحثة من الكويت أنّ التعليم الحضوريّ أفضل للطلّاب ذوي الإعاقة لعدد من الأسباب والعوامل المؤثّرة في استيعابهم وأدائهم الدراسيّ. وكان المدرّسون قد أعدّوا منصّةً لكامل المنهاج الدراسيّ بلغة الإشارة لتعليم الطلّاب الصمّ عن بعد، وذلك بناء على توجيهات وزارة التربية الكويتيّة، لكنّ الطلّاب الصمّ لم يستفيدوا من هذا الإنجاز، لأنّ أهالي الكثيرين منهم لا يريدون أن يستعملوا لغة الإشارة، بل أن يصبحوا متكلّمين، خاصّةً إذا كانوا قد زرعوا القوقعة، وفق ما توضّحه معالجة النطق المحاضِرة في جامعة الكويت الدكتورة هديل عيّاد.
الخلاصة
لا بدّ من انقضاء بعض الوقت قبل الحكم على حسن إفادة الطلّاب الصمّ والمكفوفين من فرص التعليم عن بعد، وعدم الانقطاع عن الدروس. الواضح أنّ على المعلّمين إجراء مراجعة دقيقة، وربط متكرّر بين الدروس الجديدة والسابقة بعد عودة الطلّاب للتعليم الحضوريّ في المدارس مع بداية العام الدراسيّ الجديد، على أن تدخل هذه المراجعة في الاختبارات الشهريّة الأولى لتثبيت التعليم عن بعد وقياس أثره.