آفاق التعليم التحرّريّ في المنطقة العربيّة بين الطموح والواقع
آفاق التعليم التحرّريّ في المنطقة العربيّة بين الطموح والواقع
مروان أحمد محمود حسن | عضو هيئة تحرير منهجيّات-مصر

في ظلّ التحديّات الاجتماعيّة والسياسيّة التي تعصف بعالمنا العربيّ، يشكّل التعليم التحرّريّ أحد الأدوات الممكنة لتحقيق التغيير الجذريّ، وتحرير العقول من القيود الفكريّة والاجتماعيّة، وتحفيز الأفراد على التفكير النقديّ والإبداعيّ. يتجاوز التعليم التحرّريّ الأطر التقليديّة التي تركّز على الحفظ والتلقين، لتمكين المتعلّمين من المهارات التحليليّة والمساءلة. وفي السياق العربيّ، يُمكن للتعليم التحرّريّ أن يسهم في بناء مجتمعات أكثر وعيًا واستقلاليّة، حيث يتمتّع الأفراد فيها بالقدرة على اتّخاذ قراراتهم بحرّيّة ووعي كاملين. ولكنّ مواجهة الواقع الحاليّ تثير السؤال: هل يُمكن للتعليم التحرّريّ أن يكون الحلّ الأمثل للتحدّيات التي تواجهها أنظمة التعليم التقليديّة في المنطقة؟ 

 

التعليم التحرّريّ وواقعه العربيّ

قبل أن نجيب على هذا السؤال، لا بدّ أن نعرف أنّ التعليم التحرّريّ نهج تحويليّ للتدريس والتعلّم، يهدف إلى تحرير المتعلّمين من الهياكل المجتمعيّة القمعيّة، وتمكينهم من أن يصبحوا وكلاء للتغيير. ويؤكِّد هذا النهج على التفكير النقديّ، والعدالة الاجتماعيّة، والمشاركة النشطة في المجتمع. وبتتبّع الخلفيّة التاريخيّة لهذا المفهوم، تبيّن أن ظهوره كان ردّ فعل علاجيّ على أنواع التسلّط خلال تعليم المقهورين، لتحريرهم باكتسابهم الوعي الثوريّ النقديّ، كما يقول Freire (p.60, 1970) "التّعليم ممارسة للحرّيّة، وليس نقلًا أو إيداعًا للمعرفة أو الثقافة". تتّضح من هذا القول أهمّيّة ربط التعليم بالحرّيّة، ذلك أنّ التعليم ممارسة للحرّيّة التي تنبع من الإرادة المستقلّة، بعيدًا عن أيّ شكل من أشكال السلطويّة. تمنح هذه الحرّيّة الفرد القدرة على ممارسة وجوده والشعور بواقعه وفهمه بوعي. فالتعّليم ليس مجرّد نقل المعرفة، أو حفظ المعلومات، أو التكيّف مع الواقع القائم، بل هو تعبير عن الوجود الإنسانيّ الحرّ والمستقل، والسعي إلى تعزيز وعي نقديّ يتحدّى منطق القوّة والقهر

التعليم سلاح ذو حدّين، فقد يكون أداة قهر وتسلّط أو وسيلة للثورة على الظلم. لكنّه، في كثير من الأحيان، يتحوّل إلى أداة بيد السلطة في مختلف أنحاء العالم. وفي هذا، تعمل المجتمعات العربيّة التقليديّة المحافظة على إعادة إنتاج نفسها بكلّ ما فيها من موروث ثقافيّ عبر مؤسّسات عديدة، مثل الأسرة التي تُخضع الطفل منذ سنواته الأولى خلال عمليّة التلقين، ثمّ تأتي المدارس التي قد تخلق أجيالًا ذات شخصيّة نمطيّة واحدة ومكرَّرة، نسخة عمّا هو سائد في هذه المجتمعات، بالمناهج والبيروقراطيّة والمنظومة التعليميّة المعتمدة على التلقين، أو التعليم البنكيّ الذي يدور حول المعلّم كونه مصدر العلم الوحيد، بخلاف التعلّم التحرّريّ الذي يعمل على عمليّة التفاعل الحيّ بين المعلّم، والمتعلّم، والمحيط المجتمعيّ. 

 

التعليم التحرّريّ بين التوجّهات والتخوّفات 

على الرغم من النظر إلى التعليم التحرّريّ وسيلةً لتطوير المجتمعات وتعزيز الديمقراطيّة، إلّا أنّه دائمًا ما يثير المخاوف لدى الأنظمة السياسيّة الحاكمة في كثير من المجتمعات، لأنّه ينطلق من المؤسّسات والمبادرات التي لا يمكن التحكّم بحركتها؛ بما قد يزيد وعي الأفراد وتحرّرهم من القيود التقليديّة، وبالتالي تعزيز المطالبات بالحقوق الأساسيّة والحرّيّات. هذه الديناميّة قد تهدّد استقرار الأنظمة القائمة، وتؤدّي إلى إصلاحات غير مرغوبة في نظر الكثير من الحكومات التي تسعى للحفاظ على سلطتها. وبرأيي، أحد أكبر هذه المخاوف قدرة التعليم التحرّريّ المحتملة على تحدّي الوضع الراهن، وزرع بذور التغيير الاجتماعيّ والسياسيّ. لذا، تجد السلطة الحاكمة – السلطويّة أو التي تدّعي تصبّغها بالديمقراطيّة – نفسها دائمًا في موقفٍ دفاعيّ، إذ تخشى من أن يؤدّي انتشار التعليم التحرريّ إلى زعزعة استقرار الأنظمة القائمة، وتفكيك الهياكل التقليديّة التي بُنيت على مدى عقود. 

في جوهر الأمر، غياب التعليم التحرّريّ في المنطقة ينبُع من عدّة عوامل سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة. تُعزى هذه العوامل إلى السيطرة السياسيّة التي تسعى السلطة للحفاظ عليها بالنظام التعليميّ، حيث يُستخدم التعليم أداةً لنقل الأفكار والمعتقدات التي تدعم الأنظمة الحاكمة. وفي ظلّ غياب حرّيّة المبادرة، واتّخاذ القرار على مستويات غير رسميّة، يُحرم التعليم من إمكانيّة التطوير نحو نهج تحرّريّ يشجّع على التفكير النقديّ والاستقلاليّة؛ ممّا يحافظ على استقرار النظام السياسيّ القائم.  

غالبًا ما يُعزِّز التعليم التقليديّ القيم والمعتقدات الاجتماعيّة والدينيّة التي تُعدّ أساسيّة للحفاظ على استقرار المجتمع. ومع ذلك، يؤدّي أحيانًا إلى ترسيخ الأفكار المتطرّفة وتغذية الانقسامات بين فئات المجتمع المختلفة؛ ممّا يثير خلافات بين الأجيال، ويخلق توتّرات اجتماعيّة. في المقابل، يُمكن للتعليم التحرّريّ الذي يدفع نحو التساؤل حول هذه القيم وإعادة تقييمها، أن يُشكّل وسيلة لمواجهة تلك المخاطر والتطرّف، بتعزيز التفكير النقديّ والانفتاح على الآخر. ومع ذلك، قد يثير بعض المخاوف المتعلّقة بالتغيير السريع في الهياكل الاجتماعيّة والسياسيّة، بما قد يؤدّي إلى اضطراب في النسيج الاجتماعيّ. الأمر الذي قد يُثير مخاوف من التحوّل الجذريّ لدى بعض الفئات في المجتمعات العربيّة. 

 

أتبنّي التعليم التحرّريّ ضروريّ أم كمالِيّ؟

بالنظر إلى الأدبيّات، نجدها غارقة في مميّزات التعليم التحرّريّ، وأهمّيّة تبنّي أساليب تعليميّة تهدف إلى تحرير العقول وتنمية القدرة على التفكير النقديّ. ولكن، لماذا نحن في العالم العربيّ بحاجة ماسّة إلى هذا النوع من التعليم؟ هل ما ورد في الأدبيّات هو فعلًا ما يلبّي احتياجاتنا، أم أنّ هناك أسبابًا إضافيّة تستدعي التفكير في هذا النهج؟ 

أعتقد أنّ التعليم التحرّريّ ليس مجرّد ضرورة لتحسين النظام التعليميّ فحسب، بل ركيزة رئيسة لتطوير واقع المجتمعات العربيّة وبناء مستقبل أكثر إشراقًا. ويمكنني إرجاع أهمّيّته إلى أسباب سياسيّة، واجتماعيّة، وثقافيّة. منها تعزيز الوعي السياسيّ والمشاركة الفعّالة، حيث يعاني كثير من المواطنين في مجتمعاتنا العربيّة – ولا سيّما القمعيّة منها – نقصَ الوعي السياسيّ، وضعف القدرة على المشاركة الفعّالة في اتّخاذ القرارات التي تؤثّر في حياتهم. يُمكن للتعليم التحرّريّ أن يسهم بدوره في تمكين الأفراد من فهم حقوقهم وواجباتهم السياسيّة، وتعزيز قدرتهم على المشاركة الفعّالة في العمليّة الديمقراطيّة، بتشّجيع التفكير النقديّ والنقاش المفتوح حول القضايا السياسيّة؛ ممّا يخلق مواطنين أكثر وعيًا واستعدادًا للمشاركة في بناء مجتمع ديمقراطيّ وحيويّ. 

 

في ظلّ وجود الأفكار التي تقمعها السلطات المهيمنة في بعض المجتمعات العربيّة، وتزايد التوتّرات الطائفيّة في بعضها الآخر، يبرز التعليم التحرّريّ أداةً فعّالةً لمكافحة هذه الظواهر، بتعزيز قيم التسامح، وقبول الآخر، والانفتاح على الثقافات المختلفة، وتحقيق انسجامًا واستقرارًا. فعندما يتعلّم الأفراد كيفيّة التعامل مع المشكلات الحقيقيّة في المجتمع بالتفكير المنفتح والنقديّ، ودراسة هذه المشكلات بعُمق، يصبحون أكثر قدرة على إنتاج، أو تبنّي، حلولًا واقعيّة وفعّالة، وأقلّ عرضة للانجرار وراء الأفكار والدعوات العنيفة. ولأنّ العالم يتغيّر بسرعة غير مسبوقة، تظهر تحدّيات جديدة ظهورًا متزايدًا، مثل التغيّر المناخيّ، والتحوّل الرقميّ، والتطوّرات التكنولوجيّة. لذا، من الضروريّ تحضير الأجيال القادمة لمواجهة هذه التحدّيات، حيث يحتاج العالم العربيّ إلى نظام تعليميّ يعزّز من قدرات التفكير النقديّ وحلّ المشكلات، وتطوير مهارات الشباب اللازمة للتكيّف مع هذه التغييرات، وتسليحهم بالأدوات الفكريّة للتعامل مع عالم يتّسم بعدم اليقين والتعقيد. 

لا يكمن التحدّي الأكبر أمام تطبيق التعليم التحرّريّ في المجتمعات العربيّة في مدى فعّاليّته في تنمية مهارات التفكير النقديّ والإبداعيّ فحسب، بل في قدرة النظام التعليميّ على تبنّيه في ظلّ القيود المفروضة عليه. السؤال الذي يطرح نفسه هو من سيُعلِّم هذا الجيل الجديد؟ هل يمتلك المعلّم القدرة على تنفيذ هذا التغيير من دون الرجوع إلى السلطة التعليميّة، مع الأخذ في الاعتبار أنّ أولياء الأمور قد يرفضون هذا التوجّه بسبب الخوف من الخروج عن المألوف والتقاليد؛ ممّا يزيد التوتّر بين أهداف التعليم التحرّريّ ومخاوف المجتمع التقليديّة؟

بالإضافة إلى ذلك، يتعيّن على النظام التعليميّ أن يوازن بين الحاجة إلى إنهاء المناهج المقرّرة وفق الخطّة الزمنيّة المحدّدة، وإعطاء الطلّاب فرصة التفكير بحرّيّة وتطوير مهاراتهم الفرديّة. هذه التحدّيات تعكس الحاجة إلى استراتيجيّة شاملة تتضمّن تطوير المناهج، بالإضافة إلى تغيير الثقافة التعليميّة بأكملها، لتكون قادرة على دعم التعليم التحرّريّ وإثرائه.

 

طريقنا نحو التعليم التحرّريّ غير ممهّد 

يواجه طريقنا نحو التعليم التحرّريّ في الوطن العربيّ تحدّيات جمّة، أهمّها عجز كثير من النظم التعليميّة في الوطن العربيّ عن تحقيق التعليم التقليديّ في صورته المأمولة، فكيف يمكن أن نتوقّع نجاح التعليم التحرّريّ فيها؟ وعلى الرغم من عيوب التعليم التقليديّ الكثيرة، إلّا أنّه لا يزال يُشكّل الإطار الأساسيّ الذي يعتمد عليه ملايين الطلّاب للوصول إلى فرص التعليم. إذا كانت هذه الفرصة التقليديّة مليئة بالثغرات والتحدّيات التي لم نستطع معالجتها بعد، فالتفكير بتحقيق تعليم تحرّريّ يبدو وكأنّه ضرب من الخيال. يتطلّب التعليم التحرّريّ مقوّمات وقدرات أكبر بكثير من تلك التي يوفّرها النظام التقليديّ، بدءًا من البنية التحتيّة، وصولًا إلى القدرة على استيعاب الأفكار الجديدة والممارسات التعليميّة المبتكرة. فعدم القدرة على تحقيق تعليم تقليديّ ناجح يدلّ على أنّنا لسنا مستعدّين بعد للدخول في مغامرة التعليم التحرّريّ. 

أمّا عن قيادة حركة التعليم التحرّريّ في الوطن العربيّ، فمن سيقودها؟ هل يمكن أن تكون الحكومات هي من يقود هذه الحركة؟! الحقيقة الصادمة هي أنّ بعض الحكومات ليست غير مؤهّلة لقيادة هذا التحوّل فحسب، بل من مصلحتها معارضة التعليم التحرّريّ. تستمدّ هذه الأنظمة الحاكمة جزءًا كبيرًا من قوّتها من السيطرة على التعليم وتوجيهه، ليخدم مصالحها السياسيّة والاجتماعيّة. ففتح الباب أمام التعليم التحرّريّ يعني السماح للشعوب بالتفكير النقديّ، والاستقلاليّة، والمطالبة بحقوقها. وهذه أمور قد تهدّد استقرار هذه الحكومات وتحدّ من سيطرتها. 

من هنا، يتبادر السؤال: من سيضع نفسه أمام النيران، ويتحدّى الحكومات لقيادة هذه المجازفة؟ هناك قلّة من المفكّرين والنشطاء الذين قد يتحمّلون هذه المهمّة. ولكن من دون دعم جماهيريّ قويّ ومؤسّسات تعليميّة مستقلّة قادرة على تحمّل تبعات هذا التغيير، يبقى التعليم التحرّريّ في الوطن العربيّ مجرّد حلم بعيد المنال. ما نحتاج إليه هو حركة مجتمعيّة شاملة تؤمن بالتغيير وتعمل على تحقيقه، وهذه الحركة لا يمكن أن تنجح إلّا إذا توفّرت الإرادة الجماعيّة والقدرة على تحدّي الوضع الراهن بكلّ شجاعة. 

 

وأخيرًا، هل من أمل؟ 

التفكير في التحوّل نحو التعليم التحرّريّ في الوطن العربيّ ليس مجرّد خطوة تعليميّة بحتة، بل هو تحدٍّ شامل يواجه النظم التعليميّة السائدة، ويصطدم بعقليّة المجتمع الذي اعتاد على التقليديّة والتبعيّة. فهذه الخطوة تتجاوز مقاومة التغيير من الأفراد، بل تحتاج إلى تضافر الجهود المجتمعيّة المحلّيّة. 

لكن، وفي نهاية المطاف، يبقى التعليم التحرّريّ في المنطقة العربيّة ميدانًا خصبًا للتفكير والتأمّل. فبينما تحمل الرؤى الطموحة وعودًا بمستقبل أكثر عدالة وحرّيّة، تقف أمامها تحدّيات الواقع بكلّ ما يحمله من عقبات هيكليّة، وثقافيّة، وسياسيّة. قد يكون الطريق طويلًا وشاقًّا، ولكنّ الإيمان بقدرة التعليم على بناء جيل قادر على ممارسة النقد، والإبداع، والاستقلاليّة، هو ما يجب أن يظلّ دافعًا لنا إلى السعي نحو هذا الهدف.  

 

المراجع

Freire, P. (1970). Pedagogy of the Oppressed. Bloomsbury Publishing.