آثار تأخّر الطفل عن الدراسة نتيجة الحروب
آثار تأخّر الطفل عن الدراسة نتيجة الحروب

بالنسبة إلى الأطفال، التعليم أكثر من مجرّد طريقٍ للنجاح الأكاديميّ، إنّه شريان حياةٍ للاستقرار والفرص المستقبليّة والنموّ الشخصيّ. ومع ذلك، يُحرم ملايين الأطفال في مناطق النزاع التي مزّقتها الحرب من هذا الحقّ الأساسيّ، إذ تعطّل النزاعات المدارس، وتهدم البُنى التحتيّة، وتشرّد الأسر، وتخلق بيئاتٍ غير آمنة. ينتج عن التأخّر في بدء الدراسة، أو انقطاعها لفترةٍ طويلةٍ بسبب الحروب، عواقب بعيدة المدى على التطوّر المعرفيّ والاجتماعيّ والعاطفيّ للطفل، وعلى آفاقه المستقبليّة أيضًا.  

يستكشف هذا المقال الآثار طويلة الأجل، المترتّبة عن تأخير تعليم الطفل بسبب الحروب، ويسلّط الضوء على الأفكار المستمدّة من الأبحاث حول هذه القضيّة الحرجة. 

 

انقطاع التعليم في مناطق النزاع 

وفقًا لليونسكو، يتأثّر أكثر من 222 مليون طفلٍ ومراهقٍ سنويًّا في جميع أنحاء العالم بانقطاعات التعليم، بسبب الحروب والكوارث الطبيعيّة والأزمات الأخرى. من بين هؤلاء الأطفال، يقدّر أنّ 78 مليونًا تركوا المدرسة، أو أنّهم لم يلتحقوا بها على الإطلاق. تجبر الحروب والنزاعات الأطفال على ترك الفصول الدراسيّة بسبب تعرّض المدارس للقصف، أو النزوح القسريّ، أو الحاجة المباشرة للبقاء على قيد الحياة. 

بالنسبة إلى العديد من هؤلاء الأطفال، فالتأخير في التعليم ليس مؤقّتًا، بل قد يستمرّ لسنواتٍ عدّةٍ، إن لم يكن طوال مرحلة الطفولة. عندما يعجز الطفل عن بدء المدرسة في الوقت المحدّد، أو يواجه انقطاعاتٍ مطوّلةً، يمكن أن تنتشر التأثيرات في حياته وفي مجتمعاته، ما يؤدّي إلى إدامة دورات الفقر، وعدم الاستقرار، وعدم المساواة. 

 

آثار تأخّر الطفل عن الدراسة في مناطق النزاع 

التطوّر المعرفيّ وفقدان التعلّم 

للتعليم المبكّر دورٌ محوريٌّ في التطوّر المعرفيّ للطفل. تعتبر السنوات بين 6 و12 سنةً بالغة الأهمّيّة في تطوير المهارات الأساسيّة، في القراءة والكتابة والحساب وحلّ المشكلات. فعندما لا يتمكّن الطفل من الذهاب إلى المدرسة خلال هذه السنوات جرّاء الحرب، يزداد خطر التخلّف الأكاديميّ، وكلّما طال التأخير، أصبح من الصعب على الطفل اللحاق بالركب، واستكمال تعليمه من المرحلة التي توقّف عندها. 

فحصت دراسةٌ أجريت سنة 2018، ونشرت في مجلّة لانسيت جلوبال هيلث، التأثيرات المعرفيّة لتأخير التعليم الطويل لدى أطفال اللاجئين السوريّين. ووجدت أنّ الأطفال الذين فاتتهم سنواتٌ عديدةٌ من الدراسة، سجّلوا درجاتٍ أقلّ بكثيرٍ في تقييمات القراءة والكتابة والرياضيّات الأساسيّة، مقارنةً بأقرانهم الذين التحقوا بالمدرسة بانتظامٍ، حتّى بعد الجهود المبذولة لإعادة تسجيلهم. تبرز هذا التحدّيات الكبيرة في معالجة الأضرار الناجمة عن الفجوات التعليميّة وتأثيراتها طويلة الأمد.  

عندما يكون الأطفال خارج المدرسة، فإنّهم يحرمون أيضًا من بيئة التعلّم المنظّمة التي تحفّز نموّهم الفكريّ. لا يحصل الأطفال الذين يعيشون في مناطق الحرب على التعليم المناسب، كما لا يحصلون على الكتب أو الدروس أو المحادثات المحفّزة، وبالتالي يفقدون التعزيز المستمرّ اللازم لبناء المعرفة والاحتفاظ بها. 

 

التأثير العاطفيّ والنفسيّ 

بالنسبة إلى الأطفال الذين يعيشون في مناطق الحرب، تكون المدرسة أكثر من مجرّد مكانٍ للتعلّم؛ إنّها ملاذٌ من الأذى النفسيّ الذي تسبّبه الحروب والنزاعات. يمكن أن يؤدّي فقدان هذه المساحة الآمنة بسبب التأخير في التعليم، إلى تفاقم الصدمة التي يعانيها الأطفال أثناء الحرب. 

غالبًا ما يترك التأخير في التعليم الأطفال في بيئاتٍ محفوفةٍ بالمخاطر، حيث يتعرّضون إلى العنف والاستغلال والإهمال. يمكن أن تكون لعدم الاستقرار المطوّل آثارٌ شديدةٌ على الصحّة العقليّة للطفل. أبرز تقريرٌ صادرٌ عن اليونيسف سنة 2017، أنّ الأطفال في مناطق الحرب معرّضون أكثر لخطر الإصابة بالقلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. من دون أنظمة الدعم المصمّمة لأطفال الحروب التي توفّرها المدارس، قد يكافح الأطفال للتعامل مع الضريبة النفسيّة للحرب. 

بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما توفّر المدارس الوصول إلى شبكات الدعم الاجتماعيّ، بما في ذلك الأقران والمعلّمين الذين يمكنهم تقديم الراحة والشعور بالحياة الطبيعيّة. يحرم تأخير التعليم الأطفال من هذه العلاقات، وهذا بالطبع يؤدّي إلى العزلة والشعور باليأس. 

 

التنمية الاجتماعيّة والتفاعل بين الأقران 

التعليم ضروريٌّ لتنمية المهارات الاجتماعيّة، إذ تعدّ المدارس البيئة الأساسيّة التي يتعلّم فيها الطفل التعاون والتواصل وحلّ المشكلات. عندما يتأخّر التعليم، يفقد الطفل الفرصة لبناء علاقاتٍ مع الأقران، والتي تعدّ ضروريّةً لتنميته العاطفيّة والاجتماعيّة الصحّيّة. 

أضف إلى ذلك أنّه غالبًا ما يجد الأطفال الذين تأخّروا عن دخول المدرسة أنفسهم مع زملاء أصغر سنًّا، عندما يعودون أخيرًا إلى مقاعد الدراسة، ما قد يؤدّي إلى شعورهم بالإحراج أو الاغتراب الاجتماعيّ. يمكن أن يعوق هذا التفاوت في العمر ومستويات النضج قدرتهم على تكوين علاقاتٍ صادقةٍ، وقد يدفع بعضهم إلى ترك الدراسة تمامًا. 

 

زيادة خطر الاستغلال وعمالة الأطفال 

غالبًا ما يُدفع الأطفال مع غياب المدرسة في المناطق المتضرّرة من الحرب، إلى مسؤوليّات الكبار في وقتٍ مبكّرٍ جدًّا، فقد يضطرّون إلى العمل لدعم أسرهم. الأسوأ من ذلك أنّه قد يتمّ تجنيدهم في الجماعات المسلّحة. وفقًا لتقريرٍ صادرٍ عن هيئة "إنقاذ الطفولة"، فالأطفال غير الملتحقين بالمدارس هم أكثر عرضةً للاستغلال، بما في ذلك عمالة الأطفال والزواج القسريّ والاتّجار. 

يؤدّي تأخّر التعليم إلى حرمان الأطفال من قدرتهم على تصوّر مستقبلٍ أكثر إشراقًا، ما يجعلهم محاصرين في دوراتٍ من الفقر والحاجة. فبدلًا من تطوير المهارات والمعرفة اللازمة لرفع أنفسهم من المشقّة، غالبًا ما يتمّ تهميشهم إلى وظائف منخفضة الأجر وغير مستقرّةٍ، ما يؤدّي إلى استمرار التفاوت الاقتصاديّ عبر الأجيال. 

 

التأثيرات الاقتصاديّة والمجتمعيّة طويلة الأمد 

تمتدّ آثار تأخّر التعليم إلى ما هو أبعد من الطفل الفرد، إذ له آثارٌ عميقةٌ على المجتمعات والدول. فالأطفال الذين يفوّتون الدراسة فرصهم أقلّ في اكتساب المهارات اللازمة للعمل المربح، ما يؤدّي إلى انخفاض إمكانات الكسب، والحدّ من الحراك الاقتصاديّ. 

قدّرت دراسةٌ أجراها البنك الدوليّ سنة 2021، أنّ كلّ عامٍ دراسيٍّ ضائعٍ بسبب الصراع، يقلّل من إمكانات الطفل في دخول عملٍ مربحٍ في المستقبل بنسبة 9٪. على المستوى الوطنيّ، قد يؤدّي هذا الفقدان لرأس المال البشريّ إلى إعاقة النموّ الاقتصاديّ، وتفاقم التفاوت، والمساهمة في عدم الاستقرار المستمرّ. 

فضلًا عن ذلك، يعدّ التعليم أداةً قويّةً لتعزيز السلام والتماسك الاجتماعيّ. بتعزيز التفكير النقديّ، والتعاطف والتفاهم المتبادل، يصبح للمدارس دورٌ رئيس في الحدّ من احتمالات نشوب صراعاتٍ في المستقبل. لذا، عندما يتأخّر الطفل في التعليم، أو يُحرم منه تمامًا، تفقد المجتمعات هذه القوّة المستقرّة، ما يؤدّي إلى ديمومة دورات العنف والاضطرابات. 

 

دور المنظّمات الإنسانيّة والحكومات في إعادة التعليم في مناطق النزاع 

في حين أنّ آثار تأخّر التعليم بسبب الحروب عميقةٌ وقد تمتدّ لسنواتٍ، إلّا أنّها قابلةٌ للإصلاح، أو للتخفيف من حدّتها على الأطفال. يجب على المنظّمات الإنسانيّة والحكومات إعطاء الأولويّة لتمكين وصول الأطفال إلى تعليمٍ جيّدٍ في مناطق النزاع. في الآتي بعض الاستراتيجيّات المقترحة لمعالجة هذه القضيّة: 

- مساحات التعلّم المؤقّتة: يضمن إنشاء فصولٍ دراسيّةٍ آمنةٍ ومؤقّتةٍ في مخيّمات اللاجئين، أو في المناطق المتضرّرة من النزاع، أن يتمكّن الأطفال من مواصلة التعلّم حتّى في البيئات غير المستقرّة. 

- برامج التعلّم المرنة والمكثّفة: صُمّمت هذه البرامج لمساعدة الأطفال على اللحاق بالمدرسة، وتعويض المراحل الصفّيّة المفقودة، بتكثيف سنواتٍ متعدّدةٍ من التعليم في فتراتٍ أقصر. 

- التعليم المراعي للصدمات: يجب على المنظّمات الدوليّة الاهتمام بدمج خدمات الدعم والإرشاد للصحّة العقليّة في المدارس، لمعالجة الاحتياجات العاطفيّة لدى الأطفال المتضرّرين من الحرب. 

- التكنولوجيا في التعليم: يمكن لمنصّات التعلّم الرقميّة، ومبادرات التعليم عبر الهاتف المحمول، أن تساعد الأطفال في المناطق النائية أو الخطرة، ما يضمن استمرار وصولهم إلى التعليم. إذ يمكن تصميم برامج تدريسٍ عبر الإنترنت لمعلّمين من مختلف أنحاء العالم، لتعليم الأطفال في المناطق التي لا تتوافر فيها أماكن مناسبةٌ للدراسة الوجاهيّة. 

- التمويل والدعم العالميّين: يجب على المنظّمات الدوليّة والحكومات تخصيص الموارد، لإعادة بناء المدارس، وتدريب المعلّمين، وتوفير الموادّ التعليميّة في مناطق النزاع.

 

*** 

لتأخير تعليم الأطفال بسبب الحروب عواقب مدمّرةٌ على الفرد أو المجتمع، وتأثيراتٌ طويلة المدى، مثل التأخّر المعرفيّ، والصدمات العاطفيّة، وحتّى الركود الاقتصاديّ. ومع ذلك، يمكن التخفيف من هذه التأثيرات، وإعادة الأمل إلى الأطفال الذين تعطّلت حياتهم بسبب الصراع، بالتدخّلات المستهدفة والالتزام العالميّ.  

فالتعليم ليس مجرّد حقٍّ تنادي به منظّمات حقوق الإنسان، بل أداةٌ للمرونة والتعافي وإعادة البناء. فمع إعطاء الأولويّة للوصول إلى التعليم حتّى في أكثر الظروف تحدّيًا، يمكننا مساعدة الأطفال المتضرّرين من الحرب، ليس فقط في البقاء على قيد الحياة، ولكن أيضًا في النجاح في مواجهة الشدائد.

 

المراجع

https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000190710 

https://arabeducational.com/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85/ 

https://concernusa.org/news/how-does-war-affect-education/