هنا فلسطين، هنا غزّة، هنا الحرب والموت والدمار والقتل والتعذيب والقصف والإبادة والإعدام، هنا التهجير والنزوح والتشريد والتهديد.
هنا حارتي فارغة تمامًا، لا أحد فيها على الإطلاق. وقفت أمام مدرستنا المدمّرة إلّا غرفة أو غرفتين، وتردّدت كثيرًا في الدخول إليها. قرأت التشهّد ودخلت. دخلت إلى غرفة المعلّمات أو ما تبقّى منها: هناك مكتبي الصغير الذي حمل أحلامي وآمالي. فوقه، تأمّلت ما عليه: هذا القاموس وبجانبه كوبان متشابهان وكأنّهما توأمين. هناك كنت أُشاطر زميلتي كوب القهوة التي كانت تعشقها. كنّا نقسم كلّ شيء بيننا. أعدُّ القهوة في آخر الحصّة الدراسيّة الثالثة، وقت فراغي، وتسارع هي بإعداد القهوة في أوقات فراغها قُبيل وقت الاستراحة. كنت أسمع صوتها، وسط هذا الدمار، تقول كعادتها: "نفسي أحجّ يا أسماء."
المعلّمة ضياء أحمد، معلّمة مبحث التربية الإسلاميّة في مدرستي، لثلاثة أعوام جلسنا معًا، ضحكنا معًا، فرحنا واحتفلنا في كثير من المناسبات السعيدة، كان آخرها إتمام ابنها الوحيد "معتصم" حفظَه لكتاب الله عزّ وجلّ. ضياء رفيقة دروب العلم والتعليم، زوجة الشهيد، وأم المعتصم... رحلَت في الثلاثاء العاشر من أكتوبر 2023 إلى رحمة الله وجنّات الخلود عند مليك مقتدر، نحسبها كذلك ولا نزكّي على الله أحدًا.
أفقت بعد أن أخذتني ذاكرتي إلى الخلف أعوامًا طويلة، خرجت في لحظتها هاربة من الموت ناجية بروحي لحظة تهديد المنطقة بالقصف.
هربت تتدحرج من عيني الدموع. لا أعلم كم بكيت، ولكنّني شعرت أنّني بكيت حتّى عزّت الدموع. مسحتها بسرعة وحملت بعض بقايا الأوراق التي تهمّني، وجهاز اللابتوب. وخرجت، ثمّ تأمّلت المكان مرّة أخرى، وبكيت مرّة أخرى. وخرجت بحقيبة الظهر، أضع فيها أغراضي، بعض الأمل والألم. لم تطُلْ نظراتي الأخيرة إلى بيتي الثاني، مدرستي التي أحبّ: مدرستي التي أقضي فيها وقتًا مع أسرتي الثانية، بناتي طالباتي، وزميلاتي أخواتي. هذا المكان الذي أحبّ، أحبّ فيه حتّى الجدران، والسطح والرفوف. أحبّ الحديقة الجميلة تزيّنها مئات الورود، أحبّ كلّ العاملين في هذا المكان.
لبناتي الطالبات أنتمي، ولمهنتي التي أحبّ بقوة. هذا المكان الجميل لم يكتمل حلمي فيه بعد، ولم أقضِ فيه سوى خمس سنوات مضت.
أفقتُ مرّة أخرى. فتحت هاتفي المحمول ووضعت سمّاعة البلوتوث، تصدح أغنيةٌ: "أنا ابن القدس ومن هون مش متزحزح قاعد فيها، اسمعني يا كلّ الكون دمي وعرضي منها وفيها." فتحت زجاجة ماء، وهرولت مسرعة نحو بوّابة البناية، كانت تنتظرني سيارة "النزوح"، ستقلّني من مدرسة في شمال القطاع إلى مدرسة أخرى في جنوبه، برغم احتلال ألف فكرة للموت رأسي.
نجوت مرّة أخرى والحمد لله.