هل أعطيَ الذكاء البشريّ فرصتَهُ كاملةً؟
هل أعطيَ الذكاء البشريّ فرصتَهُ كاملةً؟

يتناول ملفّ العدد التاسع عشر من منهجيّات موضوع "الذكاء الاصطناعيّ في التعليم: استراتيجيّات ومقاربات". وهو موضوع الساعة، إذ تمتلئ صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ الخاصّة بالمؤسّسات العربيّة، بإعلانات عن ورش وتدريبات ومؤتمرات عن استعمال هذا النوع من الذكاء في التعليم. 

كان تصوّرنا عند طرح الموضوع، أنّ مقالات الملفّ ستكتظّ بالتجارب التنفيذيّة اليوميّة حول استعمال الذكاء الاصطناعيّ في التعليم، انعكاسًا لاكتظاظ الدورات والورش والمؤتمرات حول الموضوع. لكن، في المحصّلة، انصبّت معظم المقالات حول أسئلة - شديدة المشروعيّة – عن استعمال هذه التكنولوجيا في التعليم، ولا سيّما في العالم العربيّ، والقدرة البنيويّة على ذلك. 

ربّما تنطلق هذه الأسئلة المشروعة من كوننا مستهلكين لمنتج هطل علينا كمثل معظم المنجزات والتحقّقات العلميّة، والنظريّات التربويّة. لذا بادرنا إلى البحث عن إجابات أسئلة الـ"كيف" وأهملنا أسئلة الـ"لماذا". وهذا طبعُ المستهلكين الذين تخلّوا عن حصانة الانتقاء، وانجرّوا نحو ما يُقدّم إليهم بوصفه وصفة النبوغ وترياق النجاح.  

 

لكنّ بعض الأسئلة تتجاوز ثنائيّة الإنتاج والاستهلاك، ليخوض في لبّ الموضوع: هل الذكاء الاصطناعيّ إرهاص تطوّرنا الفكريّ، أم انزياح عن الذكاء البشريّ؟ السؤال يخوض في أساس فهمنا الذكاء البشريّ، وتعقيد تكوينه، ودمجه "الذكاء النفعيّ" بالقيم والمفاهيم والعواطف، في مقابل ذكاء اصطناعيّ لا يرى في 1 + 1 إلّا اثنين. هل فعلًا استنفدنا ذكاءنا البشريّ لنحتاج إلى ذكاء اصطناعيّ، أم أنّ الموضوع مرتبط بشركات تبغي الربح على حساب قيم وحسابات أخرى؟ 

بالطبع ليست هذه التساؤلات لتقلّل من أهميّة هذا التطوّر في سياق الحضارة البشريّة. لكنّ الأمر مرتبط بمفاهيمنا البشريّة عن الذكاء، وارتباط الذكاء بالحكمة؛ فالذكاء وحده أوجد نظامًا عالميًّا بات يعرّف الإنسان بالـ"سوق"، وحرّيّة الإنسان بحرّيّة هذه السوق، وبالقوّة المهيمنة عليها، وبتشييء القدرات البشريّة وقيمها، وتسييلها في منجزات مادّيّة. من هنا وجب على التربويّين العرب وغيرهم، أن يراعوا عدم التخلّف عن مسار التطوّر التكنولوجيّ هذا، من غير أن ينسوا أين تثبت أقدامهم في مجتمعاتهم. في هذا الموضع، وبالتعريف الحقيقيّ للذكاء البشريّ خارج حدود القوى المسيطرة، يمكن لنا أن نسأل عن فرص الذكاء البشريّ الحقيقيّ، عن الرسم والموسيقى وقرض الشعر، وعن قيمة الخير... مقابل اصطناع يخفي تفاوت قدرات البلدان في السيطرة على هذه الأداة، وتفاوت قدرات المؤسّسات على تأمينها لمتعلّميها.

 

نقرأ في الملفّ تعريفات وملاحظات عن الذكاء الاصطناعيّ في التعليم خطَّتها نورا مرعي؛ وخارطة طرق لاستخدامه في التعليم مع ربيع زعيميّة؛ ووجهة نظر حول استعمال هذا الذكاء في التقويم التربويّ مع محمّد الخالدي؛ وإعادة تصوّر دور المربّي في عصر التدفّق المعلوماتيّ مع هيا بيطار؛ ومقالة عن أهمّيّة استعمال الواقع المعزّز في التعليم مع محمد الزعبي؛ فيما تناقش رانيا حمّودة إن كان هذا الذكاء تحدّيًا أم فرصة؛ ويعرض مروان حسن ضرورة ارتباط استعمال الذكاء الاصطناعيّ بتطوير بنًى أساسيّة في التعليم؛ ويناقش محمّد حمّور دور المؤسّسات التربويّة في تيسير استخدام الذكاء الاصطناعيّ داخل صفوفها. ذلك إضافة إلى أبواب المجلّة الثابتة التي تناولت الموضوع من زوايا مختلفة. 

وفي مقالات العدد التاسع عشر العامّة، نقرأ: "التعليم عبر المبادرات في غزّة، نهجٌ مبتكرٌ في سياقات الطوارئ"، لمحمّد شبير؛ "الاحتراق الوظيفيّ بين المعلّمين في العالم العربيّ"، ليوسف حرّاش؛ "نحو وعي أعمق لمفهوم التفكير النقديّ، أولويّةً تعليميّةً ضمن التعليم التحرّريّ"، لريان قاطرجي؛ "الأنشطة اللاصفّيّة، منعطف إيجابيّ في حياة المتعلّمين"، لنسرين كزبور؛ "دقائق الصباح الذهبيّة"، لرزان علّو؛ "كيف نتعامل مع الروايات التاريخيّة المثيرة للجدل داخل قاعة الصفّ؟" لمرسال حطيط؛ "السيَر الشعبيّة وتدريس التاريخ"، لعلاء مرواد؛ ومحاورة قيّمة مع د. أسماء الفضالة.

 

عدد جديد ضخم من مجلّة التربويّ العربيّ، منهجيّات. نفرح بخروجه إلى النور حاملًا نورًا، مع الغصّة التي لن تتوقّف إلّا بعد توقّف مقتلة أطفالنا ومعلّميهم وأهليهم في غزّة. لنأمل ألّا نضطر إلى كتابة هذه الجملة في عددنا العشرين.