ندوة: الإبادة التعليميّة
ندوة: الإبادة التعليميّة

عقدت منهجيّات ندوتها لشهر تمّوز/ يوليو 2024، بعنوان "الإبادة التعليميّة". وركّزت على محاور مختلفة، هي:

1. الإبادة التعليميّة في فلسطين.

2. غزّة والتعليم في مواجهة الإبادة.

3. هل سنعودُ بعد الحرب إلى ما قبلها؟

استضافت الندوة مجموعة من المتحدّثين، هُمّ: أ. ميسون أبو موسى، معلّمة العلوم الحياتيّة من غزّة؛ أ. أحمد عاشور، مدير مكتب مؤسّسة تامر في قطاع غزّة؛ د. ريام كفري- أبو لبن، مستشارة تربويّة في مؤسّسة النيزك وواحة الإبداع المقدسيّة؛ أ. رفعت صبّاح، رئيس الحملة العالميّة للتعليم، ومؤسّس ومدير عامّ مركز إبداع المعلّم؛ أ. مالك الريماوي، باحث ومُستشار تربويّ في مؤسّسة القطّان ومركز التعليم المُستمرّ- جامعة بيرزيت.

أدارت الندوة د. جمانة الوائلي، باحثة ما بعد الدكتوراه، وعضو الهيئة الاستشاريّة لمجلّة منهجيّات، والتي عرّفت بمنهجيّات مجلّة تربويّة إلكترونيّة دوريّة، موجّهة لكلّ العاملين في القطاع التربويّ في السياق المجتمعيّ. تعمل المجلة على نشر المساهمات العربيّة والعالميّة المثرية والملهمة دوريًّا، وبأشكال تعبير مختلفة ووسائط متعددة، وتتابع المستجدات في الحقل، وتشجع الحوار الذي يثري التجربة التربويّة في العالم العربي، ويجعل منها مصدرًا إنسانيًّا ومعرفيًّا قيّمًا للأفراد والمؤسّسات. ودعت جمهور الندوة إلى متابعتها والمُشاركة في أقسامها.

كما قدّمت للندوة بقولها "إنّنا الآن أمام سؤال جوهريّ عن جدوى مناقشة التعليم في ظلّ إبادة وحشيّة لم يعرف لها التاريخ الحديث مثيلًا، لكنّنا في منهجيّات نؤمنُ بأنّ التعليم فعل حياة ومقاومة وصمود، وأنّ الإبادة التعليميّة والمعرفيّة ما هي إلّا جزء لا يتجزّأ من مُمارسات الاستعمار الاستيطانيّ الوحشيّة، والتي يستميت فيها للقضاء على كلّ ما هو فلسطينيّ، بل ولمحو فلسطين من الذاكرة والحاضر والمُستقبل. ومن هُنا، أصبحَ لزامًا أن نناقش أوجه الإبادة التعليميّة التي عايشها المعلّمون والمتعلّمون في فلسطين منذ بداية الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين، وتتجسّد الآن ومنذ 10 أشهر في أكثر أشكال الوحشيّة في قطاع غزّة.

 

ما المقصود بمصطلح الإبادة التعليميّة؟ وكيف حاولت سلطات الاحتلال تنفيذ هذا التوجّه في عموم فلسطين، وفي غزّة تحديدًا؟

استهلّ أ. صبّاح الإجابة بأنّ مصطلح الإبادة موجود تاريخيًّا في فلسطين، وهو يمثّل كلّ الإجراءات والمُمارسات المُمنهجة التي سعى الاحتلال من خلالها لتدمير النظام التعليميّ وتقويضه مادّيًّا ومعنويًّا، وجعل قابليّة التعليم مستحيلة. وأشار إلى أنّ التاريخ الفلسطينيّ مليء بمحاولات للقضاء حتّى على قابليّته للتعافي من هذه المُمارسات. وأشار إلى أنّ مصطلح الإبادة التعليميّة (Educide)، هو الاستهداف المقصود والمباشر لتقويض النظام التعليميّ بكلّ جوانبه وعناصره، سواء كان الاستهداف للمعلّم أم للمناهج أم للبُنية التحتيّة، وركّز على ضرورة الانتباه إلى التفكير والمنهجة المقصودة لتقويض النظام التعليميّ.

وهُنا أشارت الوائلي إلى مداخلة سريعة من الجمهور، تذكر أنّ ما حصل في غزّة أيضًا هو تشويه للتعليم. وعلّقت الوائلي أنّ هذا التشويه هو بحدّ ذاته جزء من تعريف الإبادة التعليميّة.

 

أمّا أ. عاشور، فتطرّق إلى أهمّيّة اللقاء نظرًا إلى تقاطعه مع اللحظة التاريخيّة التي تمرّ فيها القضيّة الفلسطينيّة، والتي ستؤسّس لتفكير ومنطق وواقع جديد على مستويات مختلفة، وستترك صراعًا بما يتعلّق بالمستقبل الذي لا نملكه كما نريد كفلسطينيّين. وتحدّث أنّ ما يحدث في غزّة اليوم إبادة شاملة كاملة، والتعليم جزء من هذه الإبادة. والحقيقة أنّنا كنّا ندعو دائمًا لأن يكون التعليم جزءًا من كلّ، وجزءًا من الواقع ومن الحياة، وأن يكون مرتبطًا بالتاريخ وجغرافيّة المنطقة، ومن هُنا، علينا أن ننظر إلى الأمر بشكلٍ أشمل. وبرأيي، إنّ ما يحدث في غزّة إبادة للتاريخ، حيث دُمّرت الأماكن التاريخيّة الأثريّة كافّة في قطاع غزّة، 3000 سنة على الأقل من التاريخ دُمّر، إلى جانب تاريخنا الشخصيّ، وكلّ ما نملك من ذكريات مرتبطة بالمكان. فجأة اليوم، أصبحنا بلا بيوت وبلا شوارع وبلا حارات، ولا نستطيع الانتقال من مكان إلى مكان عبر الطريق نفسه، وكلّ من عاد من الأصدقاء من أهل خانيونس بعد انسحاب جيش الاحتلال منها، كلّهم من دون استثناء، بكوا ذكرياتهم، وبكوا حياتهم، وبكوا هذه المدينة التي وُجدوا فيها، وفيها كلّ ذكرياتهم وحياتهم.

وأضاف أ. عاشور أنّه من الصعب الحديث عن التعليم، من دون الحديث عن سياقه، فالسياق أيضًا يُباد في غزّة، ككلّ شيء، ونعلم أنّ هذا ليسَ نهجًا جديدًا، إنّما الطريقة جديدة، ومن الضرورة الانتباه إلى أنّ ما يحدث في غزّة كارثة إنسانيّة، وله دلالات تاريخيّة ومقاربات قامت بها مؤسّسات عالميّة كبيرة، وقارنته بالحرب العالميّة الثانية، إذ أطلقت الأمم المتّحدة في حينه ميثاق حقوق إنسان جديدًا، فماذا سيكون شكل هذا الميثاق بعد الإبادة في غزّة؟

 

وأطّر أ. الريماوي الإبادة التعليميّة بكونها جزءًا من الإبادة التي تحدث بوجه عامّ، وهي إفراز وتعبير عن طبيعة الاستعمار الصهيونيّ الكولونياليّ. وهذه العمليّة جزء من طبيعته لنفي الشعب الآخر، وهو لا يستهدف التعليم كتعليم، إنّما جزءًا من المكان والتاريخ والجغرافيا والطبيعة، والنقطة الثانية أنّ هذا ليسَ جديدًا على الاحتلال الإسرائيليّ؛ الجديد هو ارتفاع الدرجة وظهورها بهذا الشكل. وتحدّث عن أهمّيّة النظر إلى التعليم ضمن هذا السياق، جزءًا من مشروع الوجود الفلسطينيّ، حيث فكّر في مرحلة ما، أنّ التعليم عليه أن يكون ردًّا على الإبادة، ومع التأمّل في المفهوم، نجد أنّنا نعطي الإبادة هُنا نصًّا أساسيًّا في الحكاية، بينما النصّ الأساسيّ هو وجود الشعب الفلسطينيّ، وكشعب يدافع عن هذا الوجود، وبالتالي، تأتي الإبادة كنفي للوجود، وضرب للتعليم كجزء أساسيّ من هذا المشروع، وأشار إلى أنّ مشروع الإبادة في ذروة وضوحه، ومشروع المواجهة في ذروة وضوحه، إذ تمّ، منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، إعلان الحرب على غزّة، وبشكلٍ خاصّ على التعليم حرفيًّا، وكان الاستهداف واضحًا مع توضيح الأسباب، والتي عندما نقرؤها نعرف جيّدًا أين تقع معركة التعليم الآن.

 

 ما الضغوط التي يواجهها التربويّ الفلسطينيّ في ظلّ هذه الإبادة؟

أشارت د. كفري أنّه من الصعب تسميتها بضغوط، فهي أكثر من ذلك: هي نهج حياة يواجهه التربويّ الفلسطينيّ بشكلٍ دائم ومزمن ومتكرّر لفترة طويلة. بالدرجة الأولى، وعلى المستوى الواسع، نحنُ شعب يواجه الاحتلال والهجمة على المنهاج والمعلّم، وهو الذي، فجأة، بعيون الغرب أصبح من يُنتج جيلًا "إرهابيًّا"، وبات الغرب يُنتج مفاهيمه الاستعماريّة ويصدّرها في حقّ المعلّم الفلسطينيّ. التربويّ الفلسطينيّ جزء لا يتجزّأ من المجتمع الفلسطينيّ، وهو أخ وأب ومناضل وأسير وجريح، وهو يحمل هذا الجزء من إنسانيّته إلى الجانب التربويّ. ونستطيع القول إنّ آخر عشرين سنة كانت بمثابة مشكلة كبيرة أمام المعلّم الفلسطينيّ: ما شكل التعليم في فلسطين؟ خصوصًا في ظلّ عدم توافر الحدّ الأدنى من أساسيّات اليوم في التعليم، كراتب جيّد، وعدد الطلبة في الصفّ، وفُرص التطوير المهنيّ، وهي هموم أيّ تربويّ يعيش ظروفًا طبيعيّة، وتُشكّل عبئًا مضاعفًا على الفلسطينيّ بجانب ظروف الحياة ونهجها العصيب الذي يواجهه بشكلٍ يوميّ، منها وصوله إلى مكان عمله بسبب الحواجز، وتقييد حرّيّة الحركة. وأضافت د. كفري أنّ هذا السياق يؤدّي إلى إحساس أنّنا، كتربويّين، دائمًا تحت المجهر، فهناك مسؤوليّة تنشئة الجيل القادم، ومسؤوليّة في هذا المفصل التاريخيّ، متوازية مع إحساس أنّنا فِعلًا وحدنا من دون سند أو مساعدة.

 

وأضاف أ. صبّاح أنّ كلّ هذا التشويه للعمليّة التعليميّة جزء من الإبادة. فعلى سبيل المثال، بدأت الإبادة التعليميّة في القدس عندما أُغلق مكتب التربية هُناك، ومع تغيير النصوص في المناهج الفلسطينيّة المُقرّرة، وهو كان بمثابة إطار ممنهج لتدمير النظام التعليميّ في فلسطين. أمّا بالنسبة إلى الضغوطات أمام التربويّ، فتبدأ من الأمان الشخصيّ، ومن الانتقال من مدينة إلى مدينة، والاعتقالات المستمرّة على الحواجز، وفي غزّة النزوح المستمرّ من مكان إلى مكان، وهو عكس الاستقرار، لذا فإنّ الأزمات النفسيّة الاجتماعيّة المتلاحقة تجعل الحياة أصعب وأكثر تعقيدًا، وشدّة الأحداث المتلاحقة تجعل التربويّ خاضعًا لضغوطات لنفسيّة لا تترك جانبًا من حياته إلّا وتؤثّر فيه تأثيرًا سلبيًّا، وهُنا، من الضروري الانتباه إلى صحّة التربويّين النفسيّة، في خضمّ رعب وتحدّيات كبيرة جدًّا، قد لا يملكون معرفةً وأدوات للتعامل معها، إلى جانب الفوضى التي ترافق حالة الحرب.

 

ما الهدف من مناقشة الإبادة التعليميّة في ظلّ إبادة جمعيّة؟

تحدّثت أ. أبو موسى حول أن التعليم في فلسطين بشكلٍ عامّ، يواجه ضربات متلاحقة، وفي غزّة تحديدًا، إذ لم يُترك شيء إلّا وأُبيد، وخصوصًا التعليم؛ فغير قصف المدارس، استهدفوا المعلّمين والمعلّمات، واغتالوهم، واعتقلوهم، ونكّلوا بهم. وتُشير الإحصاءات إلى أنّ 80% من مدارس غزّة نُسفت، وبقي 20% منها تُستخدم مراكز إيواء، وحُطّمت مصادر التعلّم في المدارس بطريقةٍ مُمنهجة ووحشيّة. وأشارت إلى أنّ التعليم في فلسطين مركّبًا أساسًا للهويّة الفلسطينيّة والوجود الفلسطينيّ، وبالتالي فإنّ استهداف الاحتلال لبُنى التعليم يُقرأ ضمن هذا المؤدّى. وشاركتنا أ. أبو موسى هذا السؤال الذي يتكرّر منذ فترة، هل تموت المدارس في غزّة كما يموت الناس؟ وطبعًا من الضروريّ نقاش الإبادة التعليميّة، لرصد المبادرات التي تمثّل صمود الشعب الفلسطينيّ، وأيضًا فهم التغيّرات الصعبة فِعلًا التي تجري مع طلبتنا، ومساعدتهم على حلّها، وشاركت أنّها خلال مبادرة تعليميّة تقوم بها، تلاحظ زيادة نسبة الإعاقة عند الطلبة، فالتعليم فِعل حياة، وفِعل صمود كذلك، وعلينا أن نستمرّ، والتاريخ الفلسطينيّ مليء بتجارب صعبة، إلّا أنّها جميعها شهدت عدم توقّف التعليم.

 

داخل أ. عاشور أنّ السؤال يقع في إطار أنّ الإنسان أغلى ما نملك، وهو ما يجب أن نُعلّمه لأطفالنا ونعزّزه عندهم. وفي الوقت نفسه، بعد وجود الإنسان، تأتي أهمّيّة وجوده بكرامة. ومن المهم أنّ أيّ فكرة نتحدّث عنها اليوم، عليها أن توظّف بفعل نقوم به لوقف الإبادة الشاملة. ومن المهم فهم أن ما يُقام بهِ جزء من كلّ وعليه أن يستمرّ، لا دور ينتهي، خصوصًا في ظلّ عشرة أشهر من إبادة شاملة بعدنا فيها عن حياتنا بكلّ تفاصيلها. وتحدّث أ. عاشور أنّ من نتائج الإبادة ضرورة إعادة صياغة مفاهيم كثيرة وإعادة التفكير فيها، كمفهوم الصمود مثلًا، وهو جميل كـ"كليشيه"، وقد وظّف المجتمع الفلسطينيّ هذا المصطلح لحماية نفسه. أمّا عن نزوحات كثيرة من مكان إلى آخر، أسبوعًا بعد أسبوع، هل لم تؤثّر في رغبتنا في الحياة؟ ولم تخلق لدينا أفكارًا تُعيد النظر في كلّ شيء؟ وأشار أ. عاشور إلى اقتباس من كارل ماركس هو: "الفقر لا يصنع ثورة، وإنّما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة"، ومن المهمّ أن يكون لدينا وعي في هذه اللحظة التي نعيشها، من دون قوالب جاهزة. بل من المهم التفكير بمفاهيم جديدة، فأنا أعيش اليوم في خيمة، وأرى كيف تظهر القيم التي كنّا ننظر ونعمل جاهدين لتعزيزها في المجتمع الفلسطينيّ، كمفهوم اللُّحمة المُجتمعيّة والنسيج المجتمعيّ الفلسطينيّ القويّ، فأهل غزّة فتحوا بيوتهم وخيمهم لبعضهم، وأنا عشتُ هذا الترابط، واكتشفتُ بأنّ شعبنا يسبقنا بأميال، ولولا قدرة الشعب الفلسطينيّ على التماسك لفنى.

وشارك أ. عاشور أنّ المبادرات التعلّميّة التي تحدث في غزّة تعزّز التعلّم لا التعليم، وهي مبادرات تُعزّز التعلّم عبر الحياة، والتعلّم خارج المدرسة، بُنيت أفكارنا ومعتقداتنا سابقًا على التعلّم المُجتمعيّ وكنّا نتخيّله، بينما نحنُ اليوم نعايشه بكلّ تفاصيله، ونرى كيف يحدث. وعلى الرغم من الإبادة، سأستخدم جُملة من زميلي أ. الريماوي وهي "المستقبل يُبنى على الفُرص"، ونحنُ من المهم أن نلحظ أن الفرص الموجودة، منها إعادة بناء شكل المدرسة في ظلّ تهدّم كلّ شيء، خصوصًا في ظلّ محاولات مُختلفة لإعادة تشكيل كلّ شيء. أعتقد أنّ علينا التفكير جيّدًا بالتعليم الذي نريده، لا الذي يحدث منذ سنوات.

 

ما الأنساق التربويّة التي تغيّرت في توجّهات المعلّمين في ظلّ مُمارسة التعليم في ظروف كارثيّة؟

وداخل أ. الريماوي أنّ مشروع الإبادة بحاجة إلى قراءة عميقة: دُمّرت البيوت ودُفع الناس إلى المدرسة كمكان، بالتالي المدرسة لم تحو الناس فقط، إنّما أيضًا مشاعر الخوف والقلق والفقدان. وهُنا الإبادة أبعدت الطلبة عن التعلّم والتعليم بشكله في المدرسة، ووضعتهم في المدرسة، وخلقت بينهم وبين هذه المدرسة فجوةً هائلةً. والحقيقة أنّ هذه الفجوة موجودة في الضفّة الغربيّة كذلك، وتُعزّز من قِبل الاحتلال عبر مُحاصرة المعلّم، وتهديده بلقمة عيشه وحركته. وأشار إلى أنّ التعليم كفعل يُصبح هُنا ضمن إطار المقاومة، إذ انطلق المعلّمون بمبادرات لحفظ الوجود الفلسطينيّ، وتُمكن قراءة بعض المحاولات التي تستعيد شكل المدرسة في الخيمة، مثلًا، على أنّها مقاومة ورفض للواقع المُعاش. واليوم تقوم مؤسّسات وأفراد بوعي كامل، بالعمل مع الأطفال لتقديم الدعم النفسيّ والاجتماعيّ، ولكنّها في الوقت نفسه، تعمل من أجل الحِفاظ على الوجود والنسيج بأبعاده الاجتماعيّة والمعرفيّة والثقافيّة.

بدأت أ. أبو موسى حديثها بالإشارة إلى أنّ عُمر الطالب في غزّة يُقاس بعدد الحروب التي عايشها، إلّا أنّ هذه الحرب كثّفت الألم، والمعلّم الفلسطينيّ وجد نفسه أمام دور كبير عليه أن يقوم به. وشاركتنا مبادرتها الإلكترونيّة مع طالباتها في المدرسة، مع أنّ الإنترنت كان ضعيفًا جدًّا، ولكن كان الهدف البقاء على تواصل على الأقلّ معهنّ. ومن ثمّ سنحت الفُرصة للقائهنّ، ولكنّني انتبهت إلى دوري الذي تغيّر في خضمّ الحرب؛ فدوري صار أن أهوّن عليهنّ، وأهتمّ بصحّتهنّ النفسيّة والجسديّة. ووجدتُ أنّ الطلّاب يفتقدون التعليم، ووجدتُ عندهم حماسًا أعلى من حماس العودة إلى المدارس، وصدق هذا الافتقاد يجعلهم يقبلون على المبادرات التعليميّة، والإنصات جيّدًا، خصوصًا في ظلّ مجموعة متنوّعة من الطلبة، فلا أستخدم المنهاج مثلًا، بل أُعرّج على معارف مختلفة هُم مهتمّون بها.

 

وتحدّث أ. عاشور على اختلاف الأنساق التربويّة، لأنّ التعليم بات تعليمًا مرتبطًا بالحياة. مثلًا، يستخدم الأطفال الرياضيّات كثيرًا، لديهم مسؤوليّة كبيرة وعليهم القيام بحسابات دقيقة أحيانًا، وأيضًا الأشكال الهندسيّة وكيف علينا التفكير فيها من أجل أن تتّسع. فمن مكانٍ مؤلم، والألم يولّد الإبداع، أصبحت معارف أطفالنا أكثر ارتباطًا بالحياة، ونأمل أنّ هذا الطفل هو من سيحمل التغيير الحقيقيّ. وأعتقد أنّنا يجب ألّا نفكّر بالشكل التقليديّ للمدرسة كفعل مقاومة وبالتالي نُعزّزه. ومع احترامي لكلّ شيء موجود، لكنّنا أمام فُرصة حقيقيّة للتغيير من أجل تعلّم حقيقيّ؛ فمثلًا، ليسَ من داعٍ للطابور الصباحيّ، فقد كان الطالب في طابور ماء لأيّام، بينما علينا، ومن البداية، أن نتحدّث مع أطفالنا حول أنّ الخيمة ليست هي الظرف الطبيعيّ للحياة والتعليم، وبالتالي علينا رفض هذا الواقع. وشارك أ. عاشور سؤالًا يحملُه "كيف بقيت الخيمة رمزًا واقعيًّا مُرافقًا للشعب الفلسطينيّ؟" وأشار إلى أنّنا تساهلنا مع وجود هذه الخيمة في المنطقة العربيّة، وكانت خطًأ كبيرًا المُهادنة مع هذا الواقع، بينما كان الأجدى أن يكون درسًا عربيًّا أنّ هذا مؤقّت وعليه ألّا يستمرّ، وأنّ الصورة التي تُنقل يجب ألّا تتحوّل مصدرًا للتمويل. ومن هُنا، إنّ الأنساق يُعاد تشكيلها وتركيبها، ولكنّنا علينا التفكير بالمضمون والمحتوى أكثر من الشّكل، خصوصًا أنّها فُرصة لإعادة التفكير بكلّ الأشياء.

 

ما المطلوب لدعم هذا "الصمود" من الفلسطينيّ؟ ومن غير الفلسطينيّ؟ لنرفض سرديّة الخيمة، ولئلّا نعتاد المشهد.

تحدّثت د. كفري أنّ المطلوب من الفلسطينيّين دائمًا أن يضعوا إنسانيّتهم أمام هذا العالم، ذلك أنّ مفهوم الصمود عند الفلسطينيّ هو فِعل، ولكن عندما ينتقل إلى العالم الخارجيّ، يصبح الفلسطينيّ بطلًا خارقًا فيُجرّد من مشاعره. ومن هُنا، على أطفالنا، وأتّفق مع أحمد بهذه النقطة، أن يرفضوا الخيمة، وليسَ العاديّ أن يخاف التربويّ من نشر أفكاره، لأنّ هذا هو دور التربويّ. لذا، وبالدرجة الأولى، على الفلسطينيّ أن يُعزّز صموده بإنسانيّته، وبتذكير نفسه أنّ ما يمرّ فيه أكبر من قدرة الإنسان الطبيعيّ، وهو ليسَ طبيعيًّا. ومطلوب من الفلسطينيّ مزيد من الشجاعة لرفض ما يُمليه الغرب، وإعادة التفكير بهويّة المعلّم، وما الذي يحتاج إليه أطفالنا، في ظلّ السياق المُحدّد. أمّا المطلوب من غير الفلسطينيّين، فمن الواضح أنّ الأمر بات أكبر من مناهج لا تعجب الرجل الأبيض في الغرب، إنّما موضوع وجود، وهي نقطة تحوّل لا رجعة عنها في التاريخ، ولا يمكن من العالم أن يُعيدنا إليها بنقاشات سطحيّة حول المناهج، وتمويل مشاريع، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه سابقًا.

 

استخدم أ. صبّاح جُملة استخدمها الاحتلال الإسرائيليّ هي أنّ "المشكلة مع الفلسطينيّين أنّهم ينتصرون في كلّ مرّة". ونعرف اليوم أنّ الحالة في غزّة لا يُمكن للعقل استيعابها، ولكنّ التعاطف والتضامن في هذه الظروف مهمّ، لكلّ وفقًا لإمكانيّاته وقدراته، وهناك كمّ هائل من الناس الحاضرين للتقديم، وكان لا بدّ من فعل في سياق ما جرى ويجري. ولذا، من الضروريّ الانتباه إلى أنّ المؤسّسات التربويّة بدأت العمل في 20 تشرين الأوّل/ أكتوبر في مراكز الإيواء، والتدخّلات التي حدثت كانت مهمّة في الظروف العصيبة جدًّا التي كانت تحدث وما زالت، وفهمت هذه المبادرات احتياجات الناس، خصوصًا في ظلّ آخر دراسات لها علاقة بالقلق والتوتّر والخوف والضغط النفسيّ، وعلاقتها المُباشرة مع التعليم. وأودّ الإشارة إلى أنّ غزّة كشفت الهياكل الاستعماريّة بشكلٍ واضح، ومن كافّة النواحي، وبالتالي نحنُ نواجه استعمارًا قويًّا، لذا، فإنّ الصمود مهمّ جدًّا، والرسائل الإيجابيّة التي تخرج من غزّة مهمّة جدًّا، نقوى بها، ولا يوجد أمامنا غير خيار واحد أمامنا هو المواجهة. وتحدّث أ. صبّاح عن الإبادة الثقافيّة التي تحدث أيضًا في الضفّة الغربيّة، فيصبح التعليم أداةً لمقاومة الاستعمار، وأداةً للتحرّر وللوعي ولعدم كيّ الوعي، ولمقاومة الإحباط والاكتئاب أيضًا.

 

الحرب ستتوقّف، فماذا نتوقّع على مستويّين: كيف نُعيد عجلة التعليم في قطاع غزّة؟ وماذا يجب أن نُعلّم؟

داخل أ. الريماوي أنّ جولة الحرب ستستمرّ، فهي معركة شعب وإنسانيّة، فجزء من هذه الحرب هو لخلق واقع أفضل. وتحدّث عن ضرورة أن نُعلّم الأطفال رفض الحرب وآلية ذلك. إذًا، نحنُ بحاجة إلى عمليّة تعلّم دائمة، منبثقة من حاجة الوجود الفلسطينيّ كمجتمع حرّ، وهُنا ينتقل التعليم من أداة تحرّر إلى مشروع تحرّر، ولا يُمكن تحقيق مشروع وطني من دون عمليّة تعلّم في داخله. وشارك أنّ مبادرات المعلّمات والمعلّمين في غزّة والضفّة تُقدّم نماذج تؤكّد على أنّ الإرادة موجودة لاستكمال المشروع الوطنيّ التحرّريّ، ومن هُنا علينا أن نُعرّف التعليم الذي نريده، وعلى أي أرضيّة نريد بناءه؛ إنسانيّة أم تحرّريّة؟ وعلينا أن نُعيد تعريف الإنسان الذي سيبنيه، مُستفيدين من الإرث الفلسطينيّ والعربيّ التربويّ، وتطوير أفضل النماذج والتجارب والمُمارسات. أوضح أنّ هذا الأمر لا يعفي العالم من مسؤوليّته في إعمار غزّة والتعليم، وحتّى لا تُمسك المؤسّسات زمام الأمور، دعا أ. الريماوي المجتمع الفلسطينيّ إلى تشكيل قوى ومواقع وأدوات تحمي التعليم الفلسطينيّ كجزء من حماية الوجود الفلسطينيّ، للدفاع عن التعليم الفلسطينيّ ونوعيّته، من معلّمين وطلّاب وأهالي، فهو في خطر حقيقيّ لن يتوقّف مع توقّف الحرب. وتحدّث حول أهمّيّة الاستثمار في مبادرات التعليم في غزّة، لاستلهام حالة شعبيّة مُجتمعيّة للدفاع عن التعليم، "محميّات مُجتمعيّة لحماية التعليم الفلسطينيّ"، في كلّ محافظة وكلّ قرية، للانتباه إلى الدور المهمّ في حماية التعليم.

 

شاركت أ. أبو موسى فكرة أنّ المعلّم سيستعيد دوره بعد الحرب، دوره المهمّ في نشر الوعي حول التعليم، والتأكيد على حقوق الطفل في التعليم والعلاج والحياة الكريمة. ولكنّني أودّ الإشارة إلى أنّ المعلّم إنسان أيضًا، فهو بحاجة إلى تدريبات ودعم نفسيّ انفعاليّ، لتزويدهم بأدوات حول كيفيّة مواجهة الضغوط والتحدّيات. ومن المفترض أن نبدأ بالتعليم غير الرسميّ، أن يرتجل المعلّم وفاقًا للبيئة والسياق الذي يتواجد فيه، ولاحقًا نعودُ إلى التعليم الرسميّ، فتكون الصورة قد تمّ التفكير فيها، إضافةً إلى المناهج والتعليم ككلّ، وعلينا أن ننتبه في حينه للفاقد التعليميّ، وذلك باختيار موضوعات تعلّميّة مرتبطة من أجل تعزيز تعلّم الطالب، وهذا لن يتحقّق من دون تكامل المُجتمع التعليميّ، بدءًا بالعائلة.

 

كيف سنسعى كتربويّين للدفع باتّجاه إنهاء هذه الإبادة الوحشيّة والتأكيد على مركزيّة هذا الهدف؟

شارك أ. عاشور فكرة أنّ التربويّين جزء من كلّ، وعلى سبيل المثال، دور منهجيّات دور مهمّ، وهذه الندوة التي يجب استثمارها من أجل أن تكون خطوة لإنهاء الإبادة، وهذه فكرة أودّ التأكيد عليها، أنّ كلّ خطوة عليها أن تُراكم من أجل إنهاء الإبادة وإنهاء الاحتلال. وللوصول إلى هذه الفكرة، من المهمّ أن نُنشئ جيلًا نقديًّا بالتعاون مع معلّمه يُفكّك واقعه ويُعيد فهمه وإنتاجه، وهذا دور محوريّ ارتباطًا بأحد أهداف الحرب المتمثّل بإعادة إنتاج الوعي، باتّجاه أجندات يسعى لها الاحتلال منذ سنوات. وسلّط أ. عاشور الضوء على أنّنا يجب أن نكون جزءًا من نقاش واقعنا ومصيرنا، خصوصًا في ظلّ تنوّع خطابات مُختلفة بعضها غير مرتبط بالواقع. وأشار إلى أنّ المبادرات التي نتغنّى بها اليوم، أصبحت توجّه ويتمّ تبنّيها من قِبل مؤسّسات أجنبيّة، وأرى من المهم أن نُشارك كفلسطينيّين في كلّ تفاصيل التعليم في المجتمع الفلسطينيّ، وهذا قلق أشاركه مع زملائي ومع المبادرين للانتباه إلى أن يكون السؤال وطنيّ فلسطينيّ دائمًا، كأفراد ومؤسّسات وكجهات رسميّة، كما شارك قلق أنّ الفجوة بيننا كفلسطينيّين تزداد، وأن تصبح الخطط غير قابلة للتطبيق في زمن علينا أن نتساءل فيه عن الأدوات والمفاهيم. وتحدّث أ. عاشور عن دراسة أجرتها منظّمة "إنقاذ الأطفال" سنة 2022، نتائجها أنّ كلّ 4 من 5 أطفال في قطاع غزّة يشعرون بالإحباط والحزن وانعدام الأمل، وطفل من كلّ 5 أطفال يفكّر بالانتحار. وإن كانت هذه الحقائق كلّها غير كفيلة بصحوة وصياغة لوعي جديد، ومبني من أسفل، فلن يكون القادم أجمل بكثير من ماضي غزّة المُحاصر منذ 17 سنة.

 

وداخلت د. كفري أنّ الفجوة تزداد في ظلّ غياب رؤية واضحة إلى الأطفال في غزّة، وأودّ أن أقدّم مثالًا حول امتحان الثانويّة العامّة، والذي عُقد في الضفّة الغربيّة، وعُقد للفلسطينيّين خارج البلاد، بينما لم يُقدّم ويُطرح كيفيّة علينا مُساعدة طلبتنا في غزّة، خصوصًا في وقت يحتاج فيه الطالب إلى أمل، في حال استطاع أن يخرج من غزّة، بأن يجد جامعة تقبل به. والحقيقة أنا أخاف من المبادرات التي لا تُمفهم الواقع، ولا يُفكّر فيها بشكلٍ كافٍ، وعلينا أن نتذكّر أنّنا شعب واحد، وأنّ هذه الفجوة، بغضّ النظر عن ظروفها، موجودة، وعلينا جسرها اليوم.

 

شارك أ. صبّاح أنّ شمال الضفّة الغربيّة اليوم يعيش ظروفًا صعبة، وكلّ مبادرة وكلّ فِعل مهمّان جدًّا للناس، لأنّهما يكسران حاجز الخوف. المُبادرات التعليميّة في هذا السياق تكسر الخوف، وتيسّر التعامل مع التحدّيات المُختلفة، في ظلّ رغبة الطلّاب الهائلة في استكمال تعليمهم. أمّا ما بعد الحرب، فالوزارات تُجهّز اليوم خيمًا وغُرفًا للتعليم، بينما علينا الانتباه إلى أنّنا بحاجة إلى منهجيّة جديدة في التدريس. وأشارَ إلى أنّ الناس في الضفّة الغربيّة أوضاعها صعبة جدًّا، وبحاجة إلى أمل، وفِعل صمود يُخرج الناس إلى العمل والفعل.

 

كلمة أخيرة

شاركت أ. أبو موسى أنّ مُبادرتي تقوم على الأمل، وأستمدّ قوّتي من طالباتي اللواتي يأتين بأمل التعلّم. وأنا متفائلة، وأتطلّع إلى نهاية الحرب وعودة التعليم.

وأشار أ. عاشور أنّه على الرغم من كلّ شيء، ومن المحاولة اليوميّة للنجاة، إلّا أنّ العمل مع النّاس دائمًا يُعيد شحننا بطاقةٍ إيجابيّة نحتاج إليها للمُضيّ قُدمًا.

وتحدّثت د. كفري عن أهمّيّة أن نملك الجُرأة والشجاعة لنسأل أسئلة صعبة، ولبناء حواريّات شفّافة وصادقة، تقوم على رفض الواقع والماضي، والنظر إلى المستقبل كنقطة تحوّل لكلّ القضايا.

أمّا أ. الريماوي فقال "التعليم ضدّ الإبادة يعني تعليمًا لأجل الحياة من أجل الحفاظ على الوعي الوطنيّ بالطموح والأمل". وأضاف أنّ بعد الحرب ستكون هناك معركة على التعليم، كما على الوجود، وعلينا أن نمنع أن يتحوّل ما حدث إلى هزيمة في الوعي وفي التعليم، وهذا يحتاج إلى وعي جمعيّ ومشاركة مجتمعيّة في إعادة بناء التعليم والحياة والوعي.

وأمّا أ. صبّاح فختم حديثه باقتباس من أحد المُشاركين هو "إن لم نشعر بالمدرسة فهذا مُمكن، ولكن علينا أن نُدركها ولو على جدار خيمة".

واختتمت د. الوائلي ندوة الأمل والوعي ومقاومة الإبادة التعليميّة، ونوّهت إلى أنّ سلسلة ندوات "علّمتنا غزّة" ستتوّج بملفّ حول التعليم التحرّريّ، ودعت المُشاركين والجمهور إلى المُشاركة في عدد منهجيّات القادم.