- - معلّمة لغة إنجليزيّة في مديريّة التربية والتعليم في شمال غزّة منذ 16 سنة.
- - حاصلة على جائزة المعلّم المثاليّ 2019.
- - حاصلة على لقب المعلّم العالميّ سنة 2020.
- - حاصلة على لقب معلّمة فلسطين المبدعة سنة 2022.
- - حاصلة على جائزة التميّز الإعلاميّ الرقميّ الأولى على فلسطين سنة 2023، كأفضل صانعة محتوى على منصّة فيسبوك.
- - معلّمة وخبيرة معتمدة في مايكروسوفت منذ سنة 2020، وحتّى اليوم.
- - معلّمة ناشونال جيوغرافيك معتمدة لسنة 2020، وعضو فريق العقول المستكشِفة في التعليم لدى ناشيونال جيوغرافيك منذ سنة 2021 وحتّى اليوم.
- - عضو فريق التمكين الرقميّ في التعليم لدى وزارة التربية والتعليم في غزّة منذ 2020.
- - سفيرة منصّة "واكلت" للتعليم في فلسطين.
- - ألّفت كتاب "القواعد الذهبيّة لإدارة الفصول الافتراضيّة" وهو حول أسس التعليم داخل الفصول الافتراضيّة.
- - مديرة مجموعة مشروع "Gaza English Coffee eTwinning:"، لتعليم اللغة الإنجليزيّة مجّانًا عن بعد، للفتيات في المناطق المهمّشة في قطاع غزّة.
- - كسرت الحصار المفروض على طالباتنا في قطاع غزّة بأسلوب eTwinning الذي أقوم به برفقة طالباتي بجولات تعليميّة عبر فضاء zoom أو Skype أو Google Meet.
- - باحثة تربويّة، نشرت عدّة أبحاث في مجلّة دوليّة، كما نشرت العديد من المقالات والتدوينات في مجلّة منهجيّات وموقعها، حول ما حصل ويحصل في التعليم خلال الحرب التي بدأت بتاريخ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر، وتقوم بالعديد من المبادرات التعليميّة الخلّاقة مع الطلبة في مخيّمات النزوح.
فلنبدأ بأسماء: أخبرينا عنك، المعلّمة المميّزة من غزة؟
أسماء رمضان حسن مصطفى، معلّمة لغة إنجليزيّة في مديريّة التربية والتعليم في شمال غزّة منذ ستّ عشرة سنة. حاصلة على لقب المعلّم العالميّ سنة 2020، من أفضل معلّمي العالم. معلّمة فلسطين المبدعة لسنة 2022، ومعلّمة فلسطين الأولى على المحافظات الجنوبيّة سنة 2022. حاصلة على جائزة التميّز الإعلاميّ الرقميّ الأولى على فلسطين سنة 2023، كأفضل صانعة محتوى على منصّة فيسبوك. حاصلة على جائزة الأمانة العامّة لمجلس الوزراء في غزّة، نجوم التعليم سنة 2020، وجائزة المعلّم المثاليّ سنة 2019.
وأنا معلّمة وخبيرة معتمَدة في مايكروسوفت منذ سنة 2020، حتّى السنة الحاليّة. معلّمة ناشيونال جيوغرافيك معتمَدة لسنة 2020، وعضو فريق العقول المستكشِفة في التعليم لدى ناشيونال جيوغرافيك منذ سنة 2021 حتّى الآن. معلّمة غوغل معتمَدة سنة 2020، ومعلّمة آبل معتمَدة سنة 2020. عضو فريق التمكين الرقميّ في التعليم لدى وزارة التربية والتعليم في غزّة منذ 2020، وسفيرة منصّة "واكلت" للتعليم في فلسطين.
تحدّثت في 48 مؤتمرًا دوليًّا ومحلّيًّا في العديد من الجامعات في العالم، وشاركت في العديد من الأيّام الدراسيّة في جامعات الوطن. كما شاركت متحدِّثةً في العديد من الندوات التعليميّة، وحللت ضيفة في العديد من جلسات المعلّمين الملهَمين لزملاء المهنة في قطاع غزّة، وحللت ضيفة في برامج تلفازيّة في الداخل والخارج، لنقل التجربة إلى زملاء المهنة.
وضعت خبرتي في تعليم اللغة الإنجليزيّة بأسلوب التعلّم الممتع والنشط في كتاب واحد، يعدّ دليلًا للمعلّمين والوالدين لتدريس اللغة الإنجليزيّة بالألعاب لغير الناطقين بها. ووضعت أسس التعليم داخل الفصول الافتراضيّة في كتاب من تأليفي، بعنوان "القواعد الذهبيّة لإدارة الفصول الافتراضيّة" زمن كورونا. وأشرع حاليًّا بتأليف كتابي الثالث، بعنوان "رحلات حول العالم لتعليم اللغة الإنجليزيّة: أسلوب فريد لتعلّم اللغة الإنجليزيّة بالتطبيق والممارسة".
مديرة مجموعة مشروع "Gaza English Coffee eTwinning:"، لتعليم اللغة الإنجليزيّة مجّانًا عن بعد، للفتيات في المناطق المهمّشة في قطاع غزّة.
كسرت الحصار المفروض على طالباتنا في قطاع غزّة بأسلوب eTwinning الذي أقوم به برفقة طالباتي بجولات تعليميّة عبر فضاء zoom أو Skype أو Google Meet، بحيث نربط بين صفّين بالكاميرا، أحدهما في غزّة، والآخر في بلد آخر، ليتحدّث كلٌّ منّا للآخر باللغة الإنجليزيّة عن هويّتنا وثقافتنا وتاريخنا المشرّف وجغرافية فلسطين الكنعانيّة منذ بدء الخليقة، ونصحِّح مفاهيم العالم الخارجيّ عن فلسطين في الخريطة، ونعرِّف العالم بنازيّة الاحتلال، ونرفع علمنا وغصن الزيتون أمام طلّاب العالم الخارجيّ ونستمع إليهم، فنستمع إلى ثقافتهم وحضارتهم، ونزور كلّ أسبوع بلدًا مختلفًا حتّى أصبح عدد الدول التي زرناها، حتّى الآن، 68 دولة بواقع 400 لقاء افتراضي عالميّ. يجمعنا الحبّ والسلام في كلّ مرّة نلتقي.
مشارِكة في مشروع Pen Palestine ومشروع Hands Up، ومشروع"BBC Live Classes لتعليم اللغة الإنجليزيّة لغير الناطقين بها، ومشروع أنشودة السلام العالميّ World Peace Song لتعليم اللغة الإنجليزيّة بالإنشاد لغير الناطقين بها.
وأنا باحثة تربويّة، نشرت عدّة أبحاث في مجلّة دوليّة، بالإضافة إلى أنّني كاتبة في مجلّة منهجيّات، وشريكة معكم نحو تعليم عربيّ معاصر.
ونحن نتشرّف بك. هل تشرحين لنا أين أنت الآن، والرحلة التي أوصلتك إلى هنا؟
صباح السابع من أكتوبر سنة 2023، استيقظت على أصوات طبول الحرب، كنت على وشك الخروج من المنزل للتوجّه إلى العمل، أحمل في حقيبتي الإضافيّة علم فلسطين وغصن زيتون كنت قد قطفته من حديقة المنزل، وثوبًا مطرّزًا فلسطينيًّا لتقدِّم طالباتي الإذاعة الصباحيّة، وهنّ يرتدين الزيّ الفلسطينيّ التراثيّ. كلّ ذلك انتهى فور إعلان وزارة التربية والتعليم في غزّة تعليق الدراسة حتّى إشعار آخر. بدأت بمتابعة الأخبار المحلّيّة والدوليّة، ولكنّ الأمور لم تكن على ما يرام. توقّعت أن يكون ثمن الحرب على غزّة هذه المرّة باهظًا، لكنّني لم أتوقّع أن تطول كربتنا وتشتدّ الغمّة علينا لخمسة أشهر ونصف حتّى اللحظة، ولم ينتهِ الكابوس بعد. هي المرّة الأولى التي لم أُحسِن التقدير فيها حقًّا، فطال انتظاري لصباح يوم الأحد لاستئناف الدراسة واستئناف الحياة، ولمّا يأتِ بعد.
بعد انقضاء ثلاثة أيّام مريرة، وفي صباح اليوم الرابع، كنت قد أعددت كوبًا من مشروبي المفضّل وحملته بيدي، سمعنا أصوات جيراننا في الحيّ يصرخون بأعلى صوتهم: "يا دار مصطفى اطلعوا، اخلوا العمارة، ستُقصَف الأبراج بجوارنا". عمارتنا السكنيّة فيها اثنتا عشرة شقّة يسكنها أكثر من ثمانين شخصًا، بالإضافة إلى استضافة أقارب لنا كانوا قد نزحوا من أقصى شمالي قطاع غزّة في مناطق حدوديّة. وتجاورنا أبراج سكنيّة حديثة البناء.
وضعتُ كلّ ما في يدي وارتديت حجابي وخرجت مع أمّي تتكئ على كتفي. خرجنا سريعًا من دون وعي. استقبلتني وأمّي جارتنا في البيت المجاور، وبعد دقائق معدودة خرجت للبحث عن طفلتَي، فوجدت أخي الأكبر يبحث عنّي ليأخذني حيث ابنتَيّ، وما لبث أن أخذنا إلى منزل جارنا الآخر الذي يبعد قليلًا. علت أصوات صراخ الأمّهات يبحثن عن أبنائهنّ الذين كانوا يعبرون الشارع، وفقدوا حياتهم تحت ركام منزل جيراننا الذي استُهدِف لحظتها، ولم يُستهدَف المكان المهدَّد. ذهب ضحيّة هذه الجريمة أكثر من ثلاثين شهيدًا مدنيًّا، كانوا آمنين مطمئنين في منازلهم أو عابري طريق. كدتُ لا أصدّق ما حدث، حدّثني قلبي مرتجفًا أنّ الموت هذه المرّة سيلاحق الجميع، ولن ينجو من الأماكن المقصوفة أحد.
منذ تلك اللحظة، قرّرنا الانتقال إلى منزل صديق لنا يبعد أكثر عن منطقة الأبراج التي ينوي العدوّ تدميرها، حسب ما أبلغنا. قضينا أربعة أيّام بلياليها هناك، ومع الليلة الأخيرة، في تمام الواحدة في منتصف الليل، سمعنا أصوات أهالي الحيّ يخرجون من بيوتهم ويصرخون: "اطلعوا بسرعة، المربّع السكنيّ مستهدف بالكامل، رَوحوا على مدارس الوكالة". أيقنت أنّ الكرب يشتدّ أكثر وأكثر، وأنّ الموت يلاحقني في كلّ مكان. احتضنت طفلتَي سريعًا وحملتهما وأسرعنا إلى أقرب مدرسة أونروا، نبحث عن الأمان. لا أعرف من أين أتتني قوّة أن أحمل البنتين في اللحظة نفسها وأجري سريعًا نحو المكان المقصود، حيث كان كلّ من حولي يجري وسط صراخ وخوف شديدين، ربّما هي ما كانت تخبرنا عنه جدّتي: "حلاوة الروح". وصلنا جريًا الساعة الثالثة صباحًا، وهناك افترشت الأرض حرفيًّا في ساحة المدرسة وتلحّفت السماء مع عائلتي. أخذتني الذاكرة إلى حين كنتُ أزور هذه المدرسة في الماضي لأصطحب ابنتَيّ وقت انتهاء دوامهما المدرسيّ، وتشكر معلماتهما أداءهما وأدبهما. قبل الحرب بعدّة أيّام قليلة، كنتُ هناك صباح الثلاثاء، أوصل الابنتين إلى مدرستهما، وأحمل الذرة التي كنت قد أعددتها لهما. التقطت صورة بهاتفي وتوجّهت إلى مدرستي. بكيت بحرقة طوال الليل، كنت أشعر أنّ الحرب ستطول أكثر من كلّ مرّة، وقد نخسر الأماكن التي تقبع فيها الذكريات الجميلة. كانت الليلة الأصعب حتّى شروق الشمس، حيث خرجت أبحث عن منزل مجاور علّني أجد ماءً نتوضّأ به لنصلّي ما فاتنا فجر ذلك اليوم. ومن هناك، خرجنا إلى منزل صديق وجار آخر قرب منزلنا، نشعر بالدفء النسبيّ، حيث قضينا خمسة أيّام في ضيافتهم. اشتدّ الكرب مرّة أخرى؛ كنّا نستيقظ كلّ يوم لنرى أجزاءً كبيرة من حيّنا تُدَمَّرُ يومًا بعد يوم. شعرنا بخطر كبير، وعزمنا على الرحيل.
في صباح اليوم الثاني عشر من الحرب، ذهبت مع أخي الأصغر إلى منزلنا الجميل، وشعرتُ لحظة دخولي براحة نفسيّة لا توصف، دخلت غرفتي الصغيرة وحملتُ كلّ ما خفّ وزنه وارتفع ثمنه، بالإضافة إلى حقيبة صغيرة وضعت فيها ملابس قليلة، وقلت لنفسي: " كم يوم ونرجع إن شاء الله". ألقيت النظرة الأخيرة على تفاصيل المكان، وسمعت أخي يناديني "يلّا يا أسما بدناش نطوِّل". أخبرته أنّني أنهيت، بينما أرمق بحسرة كوبًا قد أعددته لنفسي قبل الهروب ولم أذق طعمه، بكيت بصمت وخرجت.
إلى أين كان النزوح الجديد؟
ودّعنا شمال غزّة بدموعنا، والقلب يبكي، يُخبِّئ كلٌّ منّا تنهيداته التي تحرق القلب، محاولين التماسك طوال الطريق، ويسود الصمت ما خلا التنهيدات. الشوارع مكسَّرة والمباني سقط الكثير منها. حجم الدمار واسع، علمًا أنّه كان اليوم الثاني عشر من الحرب فقط! توجّهنا إلى وسط قطاع غزّة، جنوب وادي غزّة، حيث أصدقاء لنا هناك في انتظارنا. مررت في الطريق بالمدرسة التي أعمل فيها، أوقفت سيّارة الأجرة وأحضرت جهاز اللابتوب من هناك وأكملنا طريقنا. مررنا بشوارع غزّة المدمّرة، ورأينا ما لا يُرى وما لا يُطاق. غزّة تموت أكثر يومًا بعد يوم.
قضينا في مخيّم النصيرات، وسط قطاع غزّة، ثمانية عشر يومًا، لم يهدأ القصف الجوّيّ، ولا القصف المدفعيّ للحظة واحدة، من دون مبالغة. في ليلة هناك، تمام التاسعة والنصف، كنت الوحيدة التي لم تنم بعد، أستمع إلى نشرة الأخبار على هاتفي المحمول علّني أسمع خبرًا يبشّر بانتهاء المأساة التي نعيش. وفجأة، كومة من الحجارة المكسّرة المحروقة تتساقط فوق رؤوسنا، وضباب البارود يغطّي الغرفة بالكامل، وشظايا البرميل المتفجِّر تتساقط هنا وهناك، وزجاج النوافذ المحطّم مطر فوق رؤوسنا. نتنفّس البارود ونصرخ على بعضنا بالهروب فورًا. لم يرَ أحدٌ منّا الآخر، فالجميع كان لا يزال حيًّا، الحمد لله، لكنّنا لم نكن بخير. كان في غرفتنا خمسة أطفال ظننّا أنّ أحدهم قد فارق الحياة، إذ لم يكن يستجيب لنداءاتنا، ولكنّه، من فضل الله سبحانه وتعالى، شهق شهيقًا عاليًا ومفاجئًا، بعد محاولات إنعاشه، واستيقظ باكيًا. نظرت من نافذة المنزل المدمّرة فوجدت أشلاء الشهداء بالجوار، والناس تهرول لإسعاف من يمكن إسعافه وإنقاذه. وكأنّني فقدت الوعي للحظة، إذ كنت أخشى أننّي أعيش أهوال يوم القيامة. وحين استعدت وعيي تدريجيًّا، بدأت بمساعدة المصابين من أهل المنزل. استشهد في تلك الليلة أكثر من خمسة عشر شهيدًا، كان أغلبهم أطفالًا ونساءً، رحمة الله عليهم جميعًا. وما إن أشرقت الشمس، حتّى نزحنا مرّة أخرى إلى مدرسة الفخاري، شمال شرق رفح، بالقرب من المستشفى الأوروبيّ. استقبلنا أخي الأكبر هناك، وأقمنا في المكتبة المدرسيّة شهرين كاملين. اشتدّ القصف الجوّيّ والمدفعيّ هناك، بالإضافة إلى ازدحام النازحين الشديد، والتلوّث الضوضائيّ الناتج عنه، ومشكلات متشعّبة عن ذلك، عايشها وتأثّر بها أغلب النازحين إلى مدارس الأونروا في جنوب القطاع، ناهيك عن انعدام الخصوصيّة والحاجة إلى الاستقلاليّة في أشياء كثيرة، ولكن هيهات.
كانت المكتبة المدرسيّة مأوى لأكثر من سبع عائلات، فضلًا عن انتشار الأوبئة الفتّاكة واستحالة الحفاظ على المكان نظيفًا لوقت طويل. لم نشعر بالراحة ولم نحظَ بالأمان يومًا هناك، واضطررنا إلى النزوح مرّة أخرى إلى أقصى جنوب غرب رفح، حيث محور فيلادلفيا الفاصل بين قطاع غزّة والشقيقة مصر. أعددنا خيمة صغيرة يقيم فيها ثلاثة عشر من أفراد عائلتي، نترقّب عودة قريبة إلى منزلٍ تركناه هناك في شمال غزّة، لا نزال نمسك مفتاحه بأيدينا، يملؤنا الأمل مختلطًا بالحسرة على ما حلّ بنا.
قبل هذه الحرب مررتم بحروب كثيرة، كيف تعاملتم، معلّمين ومعلّمات، مع تلك الحروب؟
في كلّ تصعيد حربيّ يعيشه قطاع غزّة يجتهد المعلّمون كثيرًا لتقديم ما يمكن تقديمه إلى الطلّاب، حيث كان من الممكن فعل شيء حقيقيّ في مجال التعليم آنذاك. كنت، كما كان حال المعلّمين، أوظّف الفصل الافتراضيّ سريعًا فور الانقطاع، بغرض الاطمئنان على الطالبات وطمأنتهنّ، ثمّ أتابع ما تمكن متابعته من إثراء دروس سابقة، أو تمكين الطالبات من مهارات معيّنة، أو الاهتمام بمواهب كنت لا أجد لها وقتًا داخل الغرفة الصفّيّة. اعتدت ألّا أترك طالباتي للاستسلام لليأس والاحباط والخوف والحزن طيلة الوقت، بالالتقاء بهنّ مباشرةً عبر تطبيق Google Meet، والذي نتمكّن به من فتح كاميرا الفيديو، لنتحدّث مباشرةً عن "تعليم إلكترونيّ متزامن"، ونستمع إلى بعضنا على فترات متقطّعة من أيّام الأسبوع، تحدّدها الطالبات حسب ظروفهنّ والأوقات الملائمة لهنّ. ولكن، في المجمل، لم تستمرّ حرب لأكثر من خمسين يومًا كالحرب النازيّة التي نعيشها الآن. كان من الممكن تفعيل الفصول الافتراضيّة والتواصل مع الطلبة، غير أنّ ذلك مستحيل التنفيذ في الظروف التي نعيشها الآن، حيث بتنا نشهد انقطاعًا كاملًا للاتّصالات كافّة في قطاع غزّة، بما في ذلك خدمات الإنترنت.
في الحروب السابقة، اعتدت الخروج من منزلي برفقة فريق عمل من المتطوّعين، للوصول إلى منازل بعض الطالبات لإرسال القرطاسية والمواد التدريبيّة الخاصّة بمبحث اللغة الإنجليزيّة لنسلّمها لهنّ، في حالة عدم تمكّن طالبة من الحصول على هاتف خلويّ، تستطيع به استكمال عمليّات التعليم والتعلّم آنذاك. أمّا الآن، فلا أحد يستطيع فعل ذلك، وإن استطاع فالأولويّة للماء والغذاء والحطب الذي نحتاج إليه لطهو ما يجده النازحون من طعامٍ وسط الخيام، علّهم يقدّمون شيئًا لأطفالهم.
أخبرينا عن طالباتك قبل الحرب: ما كانت طموحاتهن وأحلامهن؟ وكيف أثّر حصار غزّة في تلك الأحلام؟
أستخدم دائمًا كلمة "بناتي" للإشارة إلى طالباتي. هنّ حقًّا كذلك، على مدار ستّ عشرة سنة عملت فيها معلّمة اللغة الإنجليزيّة، لم أتخيّل للحظة أن تتناثر أحلامنا بهذا الشكل. إنّه أصعب وقت نعيشه تمامًا. كان لبناتي الكثير من الأحلام والطموح، ولكلّ واحدة طريقٌ تسير عليه لتحقيق حلمها. هذه تطمح أن تصبح طبيبة فتقول: "بدّي أصير دكتورة يا مِس وأجي أزورك وأحكي للناس هي معلّمتي وأنا بنتها، بدي أعالج جرح فلسطين النازف". وهذه تطمح أن تدرس الهندسة المعماريّة حيث تجد نفسها، فهي موهوبة بالفنون والرسم، قالت لي ذات يوم: "بدّي أعمل بيوت لأهل غزّة بتجنّن، بدّي أصمّم لهم بيوت تخلّي كلّ الدنيا تيجي تشوفها". إحداهنّ تطمح للدراسة في الخارج، فتقول: "بدّي أكون سفيرة لفلسطين وأدعوكِ لزيارة البلد لي حكون فيها". وأخرى تخطِّط لدراسة المحاماة، فتقول لي: "بدّي أدافع عن المرأة يا مِس وأجيب لها حقها".
تحلم إحداهنّ بفتح مشروع صغير، فتقول لي ممازحة: "بدّي أعمل صالون تجميل يا مِس وأعمل لك ببلاش". وأخرى تعلّمت فنون الطهي من والدتها، فتقول: "لقدّام شوي بس يصير معي مصاري بدّي أعمل مشروع معجّنات وأبيع على الطلب، إلك ببلاش يا مِس". وأخرى تعشق الأطفال، فتقول: "حصير معلمة روضة وألاعب الأطفال وألعب معهم طول اليوم". وأخرى من عشّاق تصميم الأزياء، تشرح لي ماذا ستصمّم: "بدّي أشتغل تصاميم رح تعجبك وتصيري تلبسي من عندي يا مِس". وتلك تطمح لدراسة التصميم الغرافيك حيث تهوى فنّ التصميم وتعديل الصور، فتقول: "بدّي أفتح استديو تصوير، بتجيبي بناتك أصورهم لك يا مِس". وتطمح إحدى بناتي للعمل في العقارات، فلديها عائلة ذات تاريخ طويل في هذا المجال. وبالمجمل؛ تحلم الكثيرات منهنّ ببناء أسرة سعيدة يعملن في تربية أبنائهنّ وإعدادهم لمستقبل فلسطين الأفضل: "ومش حنجيب كتير أولاد عشان نقدر نربيهم زي ما بتحكي لنا يا مِس". تلك تحلم أن تصبح معلّمة لغة إنكليزيّة كمعلّمتها، وهذه أصابت قلبي في مقتل، أحبّت المبحث من حبّها الشديد لمعلّمتها، حسب قولها.
أحلام بسيطة تكاد لا تتعدّى كونها حقوقًا تبعثرت وتناثرت، فهبّت الرياح بما لا نشتهي، وأصبحنا لا نفكِّر إلّا بالأمان، وكيف نحتمي من الطائرات الحربيّة الصهيونيّة وقذائف الدبّابات الغادرة؟ وكيف سنحمي أطفالنا من خطر الموت؟ وكيف نطعمهم وندفئهم من برد الشتاء القارس والدمار والقتل والتعذيب والقصف والإبادة والإعدام والتجويع؟ تفكِّر "بناتي" بعمل العجين، وباتّجاه تيّار الهواء ليوقدن النار في الاتّجاه الصحيح ليستطعن طهو ما قد يحصل عليه ذووهنّ بعد عناء يوم كامل، وقد لا يوقدن نارًا لأيّام طويلة. تبدّلت أحلامنا إلى حياة في خيمة، نفكِّر كيف سنُجنّبها حرارة الشمس "نار الله الموقدة" نهارًا، والبرودة القارسة "الصقيع القاتل" ليلًا. أصبحنا نجتهد في علاج أبنائنا من التهاب الكبد الوبائيّ المنتشر والإنفلونزا، وكيف نجنّبهم خطر الأوبئة الفتّاكة سريعة الانتشار، وكيف نداوي جرحنا الغائر وقلوبًا أنهكها الألم والقهر والموت؟ وكيف نستطيع حمل هذا الثقل؟ وإلى متى؟
هناك على حافّة الطريق بين خيامنا المكلومة، أقبلت سيّدة تحدّق بي من بعيد. وعندما اقتربت ألقت بنفسها على كتفي وبكت بكاءً حارقًا، ظننتها ستسقط أرضًا، وقالت لي بعد أن أدركت أنّني تذكّرتها: "راحوا التلاتة يا مِس، راحوا أولادي كلهم، يا ريتني رحت معهم وارتحت"، كانت واحدة من بناتي، تخرّجت من الجامعة وافتتحت مكتبًا هندسيًّا يرتاده الكثيرون لشدّة ثقتهم بعملها، فقدت أبناءها ومنزلها ومشروعها ومستقبلها في لمح البصر، وصار حلمها أن تلحق بأبنائها. رجوت الله أن يربط على قلبها ويلهمها الصبر، وقلت لها كما كنت سابقًا أقول لها: "خليكِ قويّة يا بطلة". ابتسمْتُ ابتسامة خجولة يعتصرها ألمٌ يفوق الوصف. ودّعتها وأنا أشدّ على يدها بقوّة، ومسحتُ دموعها واستودعتها لله، ما لنا منجٍّ سواه.
بعضنا بقي شامخًا مرابطًا في شمال غزّة، وبات يحلم بكسرة خبز يسدّ بها رمق أطفاله، وبعضنا توقّفت أحلامه عند الهجرة من غزّة، وبعضنا ما زالت أحلامه تنزح معه من مكان إلى آخر، يحملها في قلبه كما يحمل حقيبة أوراقه المهمّة على كتفه، ومعه إلى أيّ مكان يفكِّر بالانتقال إليه، لمجرّد أنّه من المحتمل أن يكون أكثر أمانًا.
أسمى أمانينا باتت أن تتوقّف آلة القتل والموت عن غزّة، مقبرة الغزاة، وأن تعود الحياة كما كانت على رغم قناعتنا التامّة أنّ حجم الدمار هائل جدًّا، ولن يعود شيءٌ على ما كان إطلاقًا.
أمنياتنا ودعواتنا تصعد إلى السماء كلّ يوم بأن يرحمنا الله برحمته الواسعة ويتولّانا في الدنيا والآخرة، فهو سبحانه وتعالى أرحم بنا من أنفسنا على أنفسنا، هو مولانا وما لنا مولى سواه.
هذه الحرب مختلفة بوحشيّتها، كيف تعاملتِ معها بوصفك معلّمة؟
لم تشهد منطقة الشرق الأوسط حربًا كهذه في وحشيّتها منذ عقود طويلة. حرب ضروس أخذت منّا كلّ شيء إلّا الأمل بالله وحده. دُمِّر قطاع التعليم تدميرًا شبه كامل، حيث بدأ الانقطاع عن التعليم من اليوم الأوّل من الحرب على غزّة. كنتُ قد أنشأتُ صفًّا افتراضيًّا عبر Google Classroom، كما أفعل كلّ سنة. كنتُ أقوم بعملٍ يوميّ معتاد، وهو تصوير السبّورة الخضراء بمختلف محتوياتها، ونقلها للطالبات وذويهن عبر الفصل الافتراضيّ. كما كنتُ أثري الدروس ببعض الفيديوهات والقصص المصوّرة أو أيّ محتوى يُغني الدروس بأيّ صيغة.
في صباح يوم السبت، في السابع من أكتوبر الماضي، تلقّيت داخل الغرف الصفّيّة الافتراضيّة الكثير من التساؤلات حول الدوام المدرسيّ، إذ كان ذلك قضيّة الساعة ومركز حديثنا في اليوم الأوّل. ومنذ اليوم الثاني بدأنا نتراسل في الصفّ الافتراضيّ للاطمئنان على سلامة بعضنا، ولم أتوقّع أن أفقد شهيدات من طالباتي في الأسبوع الأوّل، وشهيدات أكثر في مطلع الأسبوع الثاني من الحرب. وقتها، بدأت الاتّصالات تنقطع انقطاعًا تامًّا في شمال غزّة، وكان نزوحي إلى وسط القطاع في اليوم الثاني عشر. خرجتُ من الشمال وخلفي شهيدات وجريحات كثيرات من بناتي، قضين مع عائلاتهنّ بالكامل. لم أستطع تفقّد بناتي حتّى على الصعيد الافتراضيّ لفترة طويلة. تمكّنتُ من الاتّصال بشبكة الإنترنت في النصيرات في اليوم الرابع والثلاثين، وليتني لم أتّصل. قرأت خبر استشهاد أكثر من عشرين طالبة. استشهدت نور وفداء ومريم وجميلة من صفّ واحد، كنّ يجلسن دائمًا معًا، ولم تستطع كلّ المعلّمات تفرقتهنّ. قضين إلى الله في يوم واحد. ما أصعب الخبر! وما أقسى اللحظات الأولى لتلقّي مثل هذه الأخبار المروّعة! أمّا طروب فأرسلت رسالة بعد شهر من فقدان الاتّصال معها، وعادت للحياة تقول: "أنا بخير يا بنات، الحمد لله طلعت من البيت قبل ما يقصفوه في اللحظة الأخيرة". وبعد مرور وقت أطول على الحرب، انقطعت الاتّصالات رويدًا رويدًا، وقد لا تستطيع بناتي إرسال رسالة للاطمئنان عليهنّ. أمّا أنا فأتعلّق بالله وأتوسّل إليه أكثر من أيّ وقت مضى ألّا أفقد أكثر، دعائي كلّ يوم: "اللهمّ لا تريني بأسًا في من أحبّ يا الله، احفظهنّ أينما حللن". هذا باختصار حال صفّي الافتراضيّ في الحرب.
هل أوقفتك الحرب عن أن تكوني "المعلّمة"؟
إطلاقًا، يستحيل على أيّ قوّة في العالم أن توقفني عن أداء واجبي تجاه بناتي، تحت أيّ ظرف من الظروف. سأظلّ معلّمة لأطفال غزّة أبدًا ما حييت. ولكنّ الأمر في الحرب أصبح أصعب، فلا وجه في غزّة المكلومة يمكنك النظر إليه من دون أن تحزن. أبذل جهدًا كبيرًا في التماسك أمام الطلّاب والطالبات خلال تأدية واجب التعليم في زمن الحرب على غزّة.
بداية نزوحي إلى إحدى مدارس الجنوب، كانت إقامتي في المكتبة المدرسيّة المليئة بالقصص والكتب الجميلة، قرأت كلّ القصص هناك وعملت على تصنيفها بحسب ملاءمتها المراحل العمريّة المختلفة. وألّفتُ مجموعة من الأطفال، بلغ عددهم خمسة عشر، اتّفقت معهم على أن نلتقي على مدخل المكتبة التي يسكنها أكثر من سبعين فردًا ونجلس جلوسًا دائريًّا، أتوسّطهم ومعي قصّة جديدة كلّ يوم. انتشر الموضوع ووصل عدد الطلّاب والطالبات الذين يحضرون يوميًّا الساعة الثالثة بعد الظهر، إلى أكثر من خمسين. قرّرت أن أقسّم العدد إلى مجموعات، وأصبح الأمر أكثر تنظيمًا، ممّا سمح بانضمام أعداد أخرى من الأطفال. وبدل أن يحضر الطالب أصبحت أنا التي أذهب إليهم، كلّ في جناح المبنى الذي يسكن فيه، حتّى شملت زياراتي كافّة الغرف الصفّيّة التي تحوّلت إلى مساكن للنازحين. كنت أروي لهم قصّة كلّ يوم ونناقش الدروس المستفادة بغرض تعليمهم قيمة حياتيّة أو درسًا مهمًّا يسهم في تعديل سلوكيّات الأطفال وطمأنتهم أحيانًا، وأخذهم بعيدًا، ولو لوقت قصير، عن ظروف الحرب القاتلة بهدف تحسين نفسيّاتهم وإخراجهم من حالة الشعور بالذنب إلى حالة أفضل نسبيًّا. كنتُ أعمل على تحفيز الأطفال بهديّة بسيطة أخصّصها لعشرة أطفال يوميًّا، تحفيزًا لهم على الحضور والتفاعل. وكثيرًا ما كنّا ننفّذ معًا نشاطًا ترفيهيًّا هادفًا، مثل رمي الكرة، أو إنشاد أنشودة، أو لعبة صيّاد السمك، وغيرها.
استمرّ الحال هكذا أكثر من شهرين في مدرسة الإيواء، حتّى اضطررت إلى النزوح مرّة أخرى إلى الـ"خيمة" في أقصى جنوب غرب مدينة رفح، بعيدًا عن مخلّفات آلة الحرب الصهيونيّة ومدفعيّة العدو التي باتت تقترب من مكان نزوحنا يومًا بعد يوم. خرجت وتركت خلفي أناسًا أحبّهم ويحبّونني، وقد اعتدت لقاءهم وضحكاتهم، وأصبحت قريبة منهم كأمّهاتهم. تمنّيت أن تكون عودتنا إلى شمال غزّة من مركز الإيواء هناك. لكن هبّت الحياة بما لا نشتهي. عزائي أنّني تركت الأمّهات هناك مُتقنات لهذا الأسلوب مع أبنائهنّ جميعًا.
هل شكّلت الخيمة عائقًا أمام إصرار المعلّمة فيك؟
هنا الخيمة التي نزحت إليها منذ مطلع سنة 2024 حتّى الآن، وبين ما يزيد على مئتي ألف خيمة، يقيم فيها مئات الآلاف من الأطفال من فئات عمريّة مختلفة، أغلبهم ما بين خمس وعشر سنوات، يذهب وقتهم هباءً وتضيع أعمارهم سدى. كنتُ إذا نظرت إلى أحدهم أمعنت النظر إليه لأتبسّم في وجهه وأخبِّئ الحسرة في قلبي؛ لطالما اعتقدت أنّ الابتسامة بيننا مفتاح التواصل كي أتمكّن من التحدّث إليهم، لا سيّما وهم يعيشون أصعب أيّام حياتهم، وأغلبهم وصل به الحال إلى عدم رغبته بالكلام مطلقًا. استغرق الأمر أسبوعين حتّى أنشأت علاقة معلّمة بطلّابها، وفي الوقت ذاته علاقة أمّ بأبنائها. كنت قريبة منهم جدًّا إلى الحدّ الذي يمكِّنني من أن أروي لهم كلّ يوم قصّة تمنحهم درسًا في الحياة، ويتعلّمون منها مبدأً وقيمة ذات فائدة، ويستطيعون روايتها لعائلاتهم وذويهم داخل الخيمة. كنت أبادرُ في ردّ التحيّة عليهم وأتعرّف إلى ذويهم، ولا سيّما أمّهاتهم لبناء جسرٍ متين من التواصل الاجتماعيّ بيننا في الخيام؛ أستطيع بها تكوين مجموعة متجانسة من الأطفال متقاربي العمر، لأقدِّم لهم ما حُرِموا منه منذ أربعة أشهر قدر الاستطاعة.
ومع مرور الوقت، أصبحتُ صديقةً لأكثر من مئة وخمسين طفلًا وطفلة، لكلّ واحد منهم قصصه من القهر والألم، يرويها لنا عندما نلتقي على تلّة صغيرة في العراء. كنتُ أشاركهم قصصهم، وأروي لهم قصّة هادئة تأخذهم إلى عالم غير عالمنا المليء بالقتل والموت والدمار. كنتُ أشعر بشغف الأطفال عند الاستماع إلى قصّتي، وألحظُ على وجوههم الشعور بالسعادة والأمل نسبيًّا.
وقبل كلّ لقاء مع أطفالي، أحضِّر مسبقًا وكأنّني أشرح درسًا داخل الغرف الصفّيّة، وأجهِّز الأسئلة التي سأناقشها معهم بعد الانتهاء من رواية القصّة كي نُوزِّع الهدايا على الأطفال المشاركين في المناقشة وتقديم الإجابات الصحيحة.
تعدّى الأمر ذلك بكثير، حيث أصبح لديّ فريق عمل رائع من ذوي الأطفال الذين يستمعون إلى قصصي كلّ يوم. بعض الفتيات أبدين استعدادهنّ للمشاركة في سرد القصص مثلما أفعل، وبعضهنّ ينفّذن أنشطة تفريغ انفعاليّ، وبعض الآباء أحضروا لنا بعض الدمى، وبعضهم تولّى مسؤوليّة عمل مسابقات، وكلّهم كانوا بجانبي طيلة الوقت. أصبحت أروي قصصًا ونلعب ونرسم ونتسابق ونتعرّف إلى بعضنا أكثر فأكثر.
هنا، يجمعنا الحبّ والأمل، بين خيامنا شديدة الحرارة نهارًا، وشديدة البرودة ليلًا، صغيرة الحجم وباهظة الثمن. تجمعنا المعاناة وتُوحّدنا مرارة الفقد والوجع، تتشابه آلامنا ونتّفق دومًا في حبّنا الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلًا.
من بين الركام، خرجنا آلاف المرّات ونجونا، لننجح في إعادة بناء الإنسان وإعادة تأهيله للحياة؛ نجحنا في نفض غبار الألم والقهر عنّا بمواساتنا بعضنا واستماعنا إلى بعضنا، يُطمئنُ أحدنا الآخر بأنّ القادم لنا جميعًا أجمل ممّا مضى، وأنّ الحرب قد تصنعَ منّا أشخاصًا آخرين يحبّون غزّة أكثر، ويحبّون فلسطين أكثر ويذودون عنها.
أعظم فائدة لعمل المعلّم محبّة طلّابه له واقتداؤهم به وسؤالهم عنه إذا غاب. لم أكن أعلم أنّ حالنا في غزّة ستصل إلى ما نعيشه تمامًا من تشريد وفقد ودمار، ممّا يجعلني أفكِّر ألف مرّة كيف يمكنني مدّ يد العون للآخرين بما أستطيع؟ وكيف لي أن أخفّف عنهم آلامهم وأوجاعهم وأستثمر في عقولهم وقلوبهم وأوقاتهم، وأن أمدّ يد العون لذويهم في كيفيّة التعامل مع أطفالهم فترة الحرب على غزّة؟ فالحرب باتت تمزِّق أوصالنا وتدمِّر منازلنا ومدارسنا بالكامل، إذ أصبحنا نبحث عن مكان يأوينا لا عن معلّم يعلّم أبناءنا. حرب ضروس أخذت منّا كلّ شيء إلّا الأمل الذي أراه واضحًا كالشمس في عيون أطفالنا الصغار مع كلّ لقاء في الخيمة التعليميّة.
ماذا عن زميلاتك وزملائك، من مدرستك القديمة أو صفوف النزوح، ماذا يفعلون؟
لو تعلمون كيف تقطّعت أوصالنا، لو تعلمون! تكالبت علينا كلّ الهموم دفعة واحدة، أوّلها انقطاع الاتّصالات لفترات طويلة بالكامل في كافّة مناطق قطاع غزّة. الأمر الذي تسبّب بعدم إمكانيّة الاتّصال بين الأفراد. نعاني كثيرًا تكرار الانقطاعات المفاجئة في بعض المناطق الجغرافيّة داخل قطاع غزّة دون غيرها أيضًا. فلا أنت قادر على إجراء مكالمة، ولا أنت قادر على الاتّصال بالإنترنت. ناهيك عن انقطاع التيّار الكهربائيّ منذ خمسة شهور ونصف انقطاعًا كاملًا عن قطاع غزّة، بحيث يصعب علينا شحن هواتفنا إلّا من بعض منتفعي الطاقة الشمسيّة.
كانت لنا مدرسة تجمعنا الساعة السابعة، صباح كلّ يوم، كان آخرها صباح الخميس في الخامس من أكتوبر. لم نجتمع بعدها أبدًا إلّا في فترات متقطّعة في وسائل التواصل الاجتماعيّ إن توفّرت الخدمة.
لم نكن نعلم أنّ مجموعة الواتس أب الخاصّة بطاقم العمل، والتي أنشأتها في ما مضى وأضفت جميع زميلاتي ومديرة المدرسة، للتواصل خارج ساعات العمل، ستبقى خيط الوصل الوحيد بيننا يومًا ما. منذ أن اندلعت الحرب، تحادثنا يوميًّا هناك، نطمئن بعضنا ونستفسر عن أحوال بعضنا. ولكن، سرعان ما قُطعت شبكة الاتّصال بالإنترنت في شمال غزّة. علمتُ لاحقًا أنّ الكثير من زميلاتي نزحن إلى وسط القطاع وجنوبه كما هو حالي تمامًا. علمت، من المجموعة وبعض المكالمات الصوتيّة التي كنت محظوظة بإجرائها، أنّ مديرة مدرستي سابقًا قضت شهيدة مع كلّ أفراد عائلتها، والسكرتيرة الأستاذة نورا مثلها تمامًا، واستشهدت زميلتنا ضياء الشمس واستشهدت آذنة مدرستنا. عرفت لاحقًا أنّ أغلب الزميلات فقدن بيوتهنّ ولم يبقَ لهنّ شيء. عرفت كذلك أنّ بعضهنّ لم ينزح من شمال غزّة، وبقين هناك يقاسين قهر المجاعة. وعلمتُ أنّ كثيرًا منهنّ فقد ابنًا أو اثنين أو أكثر، أو ابنة أو أكثر، ومنهنّ من أصبحت أرملة بعد أن فقدت زوجها شهيدًا، وبعضهنّ سُجّل ابنها بين المفقودين، وبعضهنّ أصبن وبعضهنّ بُتِرت أجزاء منهنّ.
هذه حال المعلّمين المكلومين في غزّة. صعوبة الظروف ومرارة الأحوال التي نعيشها قد تعجِز المعلّم عن تقديم شيء لمن حوله، كيف لا وهو نازح في خيمة أو على طرف غرفة صفّيّة في مدرسة إيواء، أو إذا كان محظوظًا كثيرًا في منزل أقارب له في جنوبي القطاع؟ وكلّما راسلني معلّم أو معلّمة أردّ عليه فورًا: "الحمد لله أنّك بخير". هذه طريقتي في معرفة من نجا من زملائي في الحرب.
هناك في مدارس الإيواء، تابعت أخبار العديد من المحاولات الفرديّة التي يقوم بها عدد قليل جدًّا من المعلّمين لتعليم الأطفال ما ينفعهم في هذه الأيّام العصيبة، على رغم شحّ الإمكانات، بل انعدامها تمامًا، كما هو الحال في خيام النازحين. تهدف هذه المحاولات في المجمل إلى استثمار الوقت وتعبئته بما يمكن أن ينفع الطفل، ولا تخلو جلسات التعليم من الترفيه للأطفال بأنشطة التفريغ الانفعاليّ الضروريّة جدًّا في هذه الظروف. بالإضافة إلى الكثير من الأنشطة الترفيهيّة البسيطة التي يؤدّيها بعض الناشطين الذين ينتمون إلى مؤسّسات منتفعة ماديًّا، حيث يُقدَّم إليهم التمويل لأداء هذه المهمّات داخل مدارس الإيواء أو وسط الخيام.
لو تقدرين على الوصول إلى معلّمات العالم ومعلّميه، ماذا تقولين لهم؟
سأروي لمعلّمي العالم قصص التميّز والبطولة من قلب غزّة؛ سأحدّث العالم عن معلّمي غزّة الصابرين المحتسبين على مصابهم الجلل؛ سأحدّث العالم عن معلّمي قطاع غزّة الذين لا يزالون يعملون ويبادرون حبًّا وتطوّعًا لأطفال الوطن؛ سأحدّث العالم عن عملنا في ظلّ انعدام الإمكانات انعدامًا كاملًا، وفي ظلّ غياب البنية التحتيّة وغياب دور الجسم التعليميّ غيابًا كاملًا؛ سأحدّث العالم عن الأمل لنكون بذلك مدرسة تُعلِّم معلّمي العالم عن أصول التعليم الحقيقيّ بكافّة أشكاله، بما في ذلك التعليم الشعبيّ في مراكز الإيواء، وبين الخيام، وعلى التلال، ووسط رمال الصحراء.
معلّمو الناس الخيرَ في هذا العالم، ينبغي عليكم جميعًا الالتفاف إلى الوضع التعليميّ والتربويّ المتضرِّر والمتفاقم جرّاء الحرب على غزّة، فتأدية واجب تلبية نداء زملاء المهنة في أنظمة التعليم والمؤسّسات التعليميّة كافّة لإصلاح ما يمكن إصلاحه في المرحلة القادمة، هو الدليل على التعاون المستمرّ بيننا، والمبنيّ على أسس النكبة والسلام على مدار الأعوام السابقة.
لو توقّفت اليوم الحرب، ما المطلوب فعله برأيك على المستوى التعليميّ، على رغم فداحة الحاجات الأخرى؟
أتمنّى أن تتوقّف الحرب حقًّا اليوم قبل غدٍ، إذ اكتفى قطاع التعليم تدميرًا وتنكيلًا بالطفل والمعلّم والبيئة التعليميّة. وعلى رغم فداحة الحاجات الإنسانيّة الأخرى بالمجمل، إلّا أنّ التعليم لا يزال يتربّع على عرش أولويّات الحياة في غزّة بعد الحرب وفور انتهائها. يجب على أنظمة التعليم والمؤسّسات التعليميّة الغزّاويّة كافّة النهوض فورًا لإعادة بناء الإنسان وتأهيل الطفل الفلسطينيّ للتعليم، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة المرحلة واحتياجاتها لكلّ من الطالب والمعلّم والمنهاج والبيئة التعليميّة على حدّ سواء.
تجب إعادة النظر في تكوين مجموعات من الأطفال متجانسة عمريًّا، وتوفير مواقع ثابتة ليتمكّنوا من تلقّي التعليم فيها، بديلًا عن المدارس المدمّرة تدميرًا كاملًا، أو حتّى المدارس التي تحوّلت إلى مراكز إيواء للنازحين ممّن ليس لهم مأوى بعد الحرب سواها.
كما تجب إعادة النظر في محتوى التعليم، ليتناسب مع المرحلة وظروفها، لتشكيل محتوى خاصّ بفترة ما بعد الحرب، قد تمتدّ لستّة أشهر على الأقل، بحيث تنبغي دراسة احتياجات الطالب وفقًا لما خلّفته الحرب على نفسيّته وسلوكيّاته وتأثيرها في الجانب العقليّ والعاطفيّ، للخروج بمنهاج جديد لفترة انتقاليّة تعمل على إعادة الطفل إلى الوضع الطبيعيّ، ليُستأنف التعليم بعد هذه المرحلة.
علاوة على ذلك، من الضروريّ تدريب المعلّمين وتهيئتهم للمرحلة القادمة وما بعدها، ليكونوا قادرين على أداء واجابهم على النحو المرضي.
ما أحلام أسماء الإنسانة، والأمّ، والمعلّمة؟
أحلُم... وباتت الأحلام هنا ممنوعة، ولا وقت للحلم ولا مكان له في غزّة بعد السابع من أكتوبر، أحلم بحياة هادئة للجميع يسودها الحبّ والسلام. أحلم بعودة قريبة إلى ديارنا التي تركناها وقلوبنا تعتصر ألمًا على ما تُرِكَ هناك. أحلم بالعودة وبأن نعيش كباقي العالم بسلام وأمان.
أسماء الأمّ تحلم لبنتيها بحياة أفضل من حياتها، تدعو الله كلّ حين، أن يُنجي لها مقلتيها اللتين بهما ترى الجميل من الحياة، سارة وسندس، بعيدًا عن آلة الحرب الصهيونيّة. كما تدعو الله لكلّ أمّ شهيد أن يربط على قلبها، ويعيش كلّ طفل فلسطينيّ بسلام وأمان وحرّيّة.
أمّا أسماء المعلّمة التي أنهك قلبها الوجع وهي تتابع أخبار بناتها اللاتي قابلتهنّ أوّل هذه السنة الدراسيّة، واللاتي تخرّجن من مدرستها خلال الخمس عشرة سنة الماضية، فتتمنّى أن تتحقّق أحلام كلّ طالباتها، وأن تذهب فعلًا إلى الطبيبة والمهندسة والمعلّمة ومصمّمة الغرافيك ومصمّمة الأزياء، وأن تبقى معلمتهنّ عند حسن ظنّ بناتها بها.
ماتت أحلامنا وأحلام أطفالنا وبتنا نحلم بالحصول على أبسط حقّ من حقوقنا كبشر، نحلم أن يأتي صباح الأحد، الثامن من أكتوبر بسلام، نحلم أن تنقشع هذه الغيمة السوداء وأن يعمّ السلام والأمان بلادنا وبلاد المسلمين في كلّ مكان.
غزّة ستنتصر وستعود، لأنّ الحياة وغزّة توأم لا ينفصلان. عندما تعودين إلى طالباتك/ بناتك، ما الذي ستعلّمينهنّ إيّاه؟ هل سترتاحين إلى تعليمهنّ قيمًا مستوردة يقرأنَها من جديد؟
استوقفتني عبارة "عندما تعودين" واحترق قلبي. لا أعرف حقًّا من أين سأبدأ؛ لا أعلم هل سأكون من العائدين إلى الحياة أم سنمضي مبكرًا؟ مشاعر كثيرة راودتني عند قراءتي السؤال. أتخيّل للحظة أنّني أقف أمام طالباتي من جديد، يا إلهي حقّق لي ذلك قريبًا. إنّي أحلم من جديد! ولكنّي، مع ذلك، أكيدةٌ من أنّ غزّة ستعود إلى الحياة، وستعود إليها الحياة، بل وستكون عروسًا أجمل ممّا مضى. يستحضرني بيت شعر للفلسطينيّ الكبير الراحل محمود درويش، يتحدّث عن سرّ من أسرار الشعب الفلسطينيّ ذي نكهة استثنائيّة، لا يعرف المقصد إلّا من عاش في قلب غزّة هاشم، أو أحبّها. يقول: "ونحنُ نحبُّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلًا". نعم، غزّة المكلومة هذه مقبرة الغزاة، عصيّة على الانكسار.
تعلّم العالم كلّه حبّ الحياة من أهل غزّة الصابرين المحتسبين، إذ تعطي غزّة العالم دروسًا في الصبر والمرونة وحبّ الأرض وحبّ الوطن، بالفعل لا بالقول.
مشتاقة جدًّا إلى أن أعود إلى بناتي في الغرفة الصفّيّة ذاتها، يتهافتن على استقبالي من الممرّ، يحملن عنّي وسائلي التعليميّة وعلبة الطباشير، ويستقبلنني بابتسامة تملأ الدنيا جمالًا، وتغمرني سعادة لا أستطيع وصفها بالكلمات. مشتاقة جدًّا إلى ردّ التحيّة لبناتي، وسماع صوت الوحدة في الترحيب. مشتاقة جدًّا إلى أن أتفقّد الحاضرات، وأسأل عن أحوال بناتي الغائبات. مشتاقة جدًّا إلى درس تعليم النطق (Pronunciation)، والذي اعتدت شرحه بالمرآة؛ أحمل أربعين مرآة صغيرة لنتقن نطق الكلمات وأسمع ضحكات بناتي وأرى وجوههنّ تنطق بالفرح. مشتاقة إلى تعليم المحادثة التوأمة التعليميّة العالميّة؛ نتحدّث ونستمع وننشد نشيد السلام We are brothers and sisters, we are one family.
مشتاقة إلى تفاصيل تزيين جدران صفّنا وتزيين الطاولات المدرسيّة. مشتاقة جدًّا إلى يوم مفتوح تعلن عنه مديرة المدرسة لنجتمع على سفرة طعام واحدة، نتذوّق أصناف الأطعمة من صنع أيدينا، وتدعو كلّ طالبة زميلتها إلى أن تشاركها ملح بيتها.
نعم، سنعود بإذن الله تعالى يومًا ما، عسى أن يكون قريبًا. سنعود واثقين بالله العليّ القدير أنّنا قادرون على استكمال المسير، ولكنّنا نعلم أنّ الطريق ازداد وعورة وصعوبة، ونعلم أنّ الحرب أعادت ترتيب الأولويّات في التعليم لدى المعلّمين من جهة، ونظام التعليم من جهة أخرى، وذوي الطلبة من جهة ثالثة.
عزيمتنا ستملأ الكون سلامًا ومحبّة للعالم كلّه. من غزّة أرض السلام، والتي لم ترَ يومًا سلامًا، سنبعث تحيّاتنا إلى الشعوب المحبِّة للسلام، وسنبقى نعلّم المبادئ الصحيحة والقيم التي دعانا إليها ديننا الحنيف. سنبقى إخوة لكلّ من وقف إلى جانبنا وساندنا وقت الضيق.
نعم، سأبقى أعلّم بناتي القيم والمبادئ الإسلاميّة وما لا يتعارض معها من القيم العالميّة، وسنظلّ في غزّة محبيّن السلام، رغم الخذلان الجماعيّ، محليًّا ودوليًّا - إلّا من رحم الله - ورغم مرارة ما نقاسيه وحيدين. نعم، سأبقى انتقائيّة كما كنت طيلة عهدي في التعليم، أعي ما أُعلّم جيّدًا، وسأبقى منبرًا لتوعية بناتي بكلّ ما حدث وما يحدث من حولهن؛ هنّ أمّهات الغد وقائدات المستقبل، وأملنا فيهنّ كبيرٌ جدًّا.