تناولت الكتابات التي تحدّثت عن مسلسل مدرسة الروابي للبنات عدّة محاور، الأوّل تناول مشكلة التنمّر في المدرسة وآثارها على الطلبة، وأنّ التنمّر الذي ظهر في المسلسل مبالغ فيه، ولا يرتقي في الواقع إلى هذا المستوى، والثاني كان أوسع عندما اتّهم المسلسل بالانتقاص من قيم المجتمع، وإبراز الطلبة بصورة بعيدة عن واقعهم الاجتماعيّ في أغلب المدارس، وأنّهم بعيدون عن قيم المجتمع الملتزم وعاداته الأصيلة، أمّا الثالث فأبدى إعجابًا بتنفيذ الإخراج، وبراعة المُخرج، ودقّة التصوير، وحداثة الكاميرات المستخدمة، وإبرازه جماليّات مدينة عمان.
في هذا المقال سأنظر إلى المدرسة التي أبرزها المسلسل من زاوية مختلفة، زاوية تجعلنا نرى سمات المدرسة التي نريدها لأبنائنا وبناتنا
لكن ما يَجمع هذا الآراء أنّها جاءت من مشاهدين غير مختصّين غالبًا، فكانت انطباعات ذاتيّة نشرها كاتبوها في مواقع التواصل الاجتماعيّ، وأخذت منحى الردّ والتراشق اللفظيّ بعيدًا عن التخصّصيّة، ومُطلِقة كثيرًا من الأوصاف بحقّ المخرجة والممثّلات.
في هذا المقال سأنظر إلى المدرسة التي أبرزها المسلسل من زاوية مختلفة، زاوية تجعلنا نرى سمات المدرسة التي نريدها لأبنائنا وبناتنا من جهة، ومن جهة ثانية لفت نظر المعلّمين والمعلّمات إلى ممارسات يوميّة لها تأثير في مسيرة تعلّم الطلبة قد لا يلتفتون إليها بالقدر الكافي، ممارسات إيجابيّة وممارسات تحدّ من تحقيق أهداف التعلم.
العلاقة مع المجتمع المدرسيّ
برزت قضية التفاعل مع المجتمع المدرسيّ وأولياء الأمور بصورة واضحة في المسلسل، ذلك أنّ بناء شخصيّة الطالب يتطلّب دوام التواصل مع الأهل، وأن يكون وجودهم مكمّلًا لدور المدرسة، إذ لا يمكن الاستغناء عن أي منهما في حياة الطالب، وهذا التواصل عماده معرفة كل طرف حدود مسؤوليّاته وواجباته واحترامه الطرف الآخر، وإبقاء مساحات الحوار واسعة وقابلة للتعاون لما فيه مصلحة الطالب.
متابعة القوانين المدرسيّة
واحد من المبادئ التربوية التي تحافظ على وقت المعلّم هو عدم انجراره إلى نقاش الطالب فيما يتعلّق بأنظمة المدرسة وقوانينها، ذلك أن الطالب عندما يخالف أنظمة المدرسة ويقف أمام المعلّم أو الإدارة فإنه يحاول جرهم إلى مواضيع جانبيّة، لكن المعلّمتين في المسلسل لم تنجرّا إلى هذه النقاشات، وركّزتا على تنفيذ الطلبة أنظمة المدرسة بهدوء وثقة بالنفس، فلم تصرخا أو تغضبا أو تتكلّما بكلمات بعيدة عن المخالفة التي ارتكبتها الطالبة، وهذه المتابعة امتدّت لتشمل أي مكان يكون فيه الطلبة، ففي الرحلة شاهدنا حرص المعلّمتين على متابعة الطالبات، وتنفيذ تعليمات الرحلات المدرسيّة ومراقبة ذلك.
في المسلسل برز تأثير الأقران واضحًا، وأنّ الطلبة يقومون ببعض التصرّفات لإرضاء أصدقائهم ليس إلّا.
دور الدراما
عندما أرادت المدرسة لفت نظر الطالبات إلى أثر مشكلة التنمّر في نفوس الطلبة، أقامت محاضرة بدأت مقدّمتها بتمثيل الطالبات مشهدًا دراميًّا قصيرًا لبيان أثر التنمّر في نفس المتنمَّر عليه، وهذه إشارة إلى أهمّيّة الدراما في التعليم، وإمكانيّاتها في تكشف عن مهارات شخصيّة يتميّز بها الطلبة يمكن توظيفها في أنشطة مدرسيّة، ومن جهةٍ أخرى تُعزّز المفاهيم عبر توضيحها بطريق جديدة جاذبة للطلبة.
تأثير الأقران
يلجأ كثير من المعلّمين إلى تعليم الأقران بوصفه أحد أساليب التعلّم، ومنهم من يقدّم امتيازات لطالب يحظى بمكانة لدى زملائه، ويؤثّر بهم. روى لي أحد الزملاء ذات مرّة أنّ مدير المدرسة قدّم لأحد الطلبة المؤثّرين عرضًا بأن يكون مقعده في الرحلة المدرسيّة مجانيًا إذا وافق على إقناع بقيّة الطلبة بالاشتراك في الرحلة.
في المسلسل برز تأثير الأقران واضحًا، وأن الطلبة يقومون ببعض التصرّفات لإرضاء أصدقائهم ليس إلّا، ومن هُنا، فإنّ على المعلّمين والإداريّين أن يراقبوا هذا الأمر جيّدًا كي يكون التأثير محمودًا، وعلى الأهل أن يعرفوا إلى حدٍّ كبير طبيعة البيئة التي ينتمي إليها أصدقاء أبنائهم، ويحرصوا أن تكون بيئة إيجابيّة تنمّي قيم المحبّة والتسامح والخير.
غرس عادة القراءة
في الحافلة المدرسيّة، أو حديقة المدرسة، أو قبل النوم كان الكتاب حاضرًا، وكان انهماك الطالبات في القراءة موجودًا، وأهمّيّة هذه المشاهد تكمن في أنها تقدّم صورة حيّة لطالب يمتلك هاتفًا حديثًا لكنّه يقرأ، وأن الوقت المتاح للاستراحات يقسّم بين الهاتف والكتاب، والحثّ على القراءة لم يأت بنصائح وأوامر، بل بصورةٍ حيّة لطالب في أمكنة مختلفة وأزمنة متنوعة.
ولا يخفى علينا أهمّيّة التحدّث في دفع الطالب إلى بناء حوارات مع من يتعامل معهم في البيت أو الحيّ أو المدرسة أو الأقارب وغيرهم.
التحدّث
كثيرًا ما تحدّث الطلبة مع بعضهم، ففي رحلة الذهاب إلى المدرسة انقسم الوقت بين التحدّث والاستماع للأجهزة الحديثة والقراءة، والتأمّل من نوافذ الحافلة، وهذا التنوّع يثري شخصيّة الطالب ويوسّع خياله، وفي مرافق المدرسة استمرّ التحدّث بين الطالبات، وكانت لغة الجسم واضحة تُعبّر عن انفعالاتهم ومشاعرهم، ولا يخفى علينا أهمّيّة التحدّث في دفع الطالب إلى بناء حوارات مع من يتعامل معهم في البيت أو الحيّ أو المدرسة أو الأقارب وغيرهم.
العقوبات المجتمعيّة
مدرسة الروابي مدرسة خاصّة، وطلبتها يرتكبون مخالفات ويعاقبون عليها، وهذا يخالف النظرة السائدة بأن طلبة المدارس الخاصّة فوق الأنظمة، أو لا تكون محاسبتهم صارمة، لكن إدارة المدرسة تتبع عقابًا مجتمعًا يتضمّن أن يقوم الطلبة بأداء مهمّات نافعة، للمجتمع عمومًا وللمدرسة خصوصًا، وهذه العقوبات المجتمعيّة تتم بالاتفاق بين الإدارة والمعلّمين والأهل بحيث تؤدي وظيفتها، وتكون ناجعة بالحدّ من سلوك الطلبة السلبيّ، وضمان عدم تكراره.
مبادرات مجتمعيّة
أبرز المسلسل أهمّيّة انفتاح المدرسة على المؤسّسات المحيطة، فعقد نشاط لدعم مرضى السرطان يعزز الهويّة الوطنيّة، وينمّي الإحساس بالمواطنة، ويقوي الروابط بين أفراد المجتمع، وما أكسب ذلك النشاط أهمّيّة أن الطلبة أشرفوا على تنظيمه وبذلوا جهدًا كبيرًا كي يخرج بأجمل صورة، وهذا جانب فارق يجب أن تهتم إدارات المدارس به، بحيث يكون الطالب على اطلاع بالمؤسّسات المجتمعيّة وأدوارها في خدمة المواطنين.
التعلّم بالمحسوسات يمنح الطلبة فرصة لرسم صورة ذهنيّة لما يتعلّمه، وهو يتعلّم بالمحسوسات بصورة أسرع مهما اختلفت المرحلة التي يدرس بها.
المحسوسات في التدريس
ظهرت المحسوسات في حصّة العلوم لطلبة الصفوف العليا، ذلك أن التعليم بالمحسوسات مرتبط عادة في أذهاننا بطلبة المراحل الأساسيّة، لكن المعلّمة أحضرت معها مُجسّمًا للعين إلى غرفة الصفّ، ورسمت بعض الرسومات على السبّورة أثناء الشرح، وهذا الأمر يعزّز الفهم ويمنح الطلبة فرصة لرسم صورة ذهنيّة لما يتعلّمونه، وأن الطالب يتعلّم بالمحسوسات بصورة أسرع مهما اختلفت المرحلة التي يدرس بها.
تغوّل رأس المال
لا يمكن تقبّل فكرة أن يقوم متنفّذ بإغلاق مدرسة، أو حتى مجرد التهديد بذلك، إذ أظهر المسلسل في أحد مشاهدة تصرّفًا من أحد أولياء الأمور هدَّد فيه بطريقة فجّة وأمام الطلبة بإغلاق المدرسة لمجرّد طلبه للحديث عن مخالفات ترتكبها ابنته، أطلق تهديده دون أن يناقش تصرّف ابنته، ودون أن يراعي أن زملاءها يرونه، وفي هذا التصرّف رسالة سلبيّة للمشاهد وحتى لزميلات ابنته، إضافة إلى أن هذا التصرّف يعزّز الفروق الفرديّة في المجتمع والتي تحاول النظم التعليميّة التغلّب عليها والتخلّص منها، وبناء مجتمع قائم على الاحترام المتبادل تسهم المدرسة في بناء لبناته الأولى.
غياب الرقابة
غابت الرقابة المدرسيّة في مشاهد كثيرة من المسلسل، لا بل إن بعض القضايا كان يمكن البتّ فيها لو كانت المدرسة فعلًا تحت الرقابة كما ادعت مديرتها عند التحقيق في حادثة ضرب ليان، لذلك فإن واحدة من أهم مسؤوليّات الإدارة توزيع مناوبات المعلّمين في ساحات المدرسة ومرافقها بصورة تضمن عدم انزواء الطلبة لارتكاب مخالفات، إضافة إلى أن نشر هذه الثقافة وبصورة إيجابيّة مسؤولة وبأنها لحماية الطلبة وليس لمراقبتهم تغرس في نفوسهم المسؤوليّة إزاء المدرسة وزملائهم، إضافة إلى أن هذه الرقابة ليست سلاحًا بيد المديرة تهدّد به الطلبة عند أوّل مخالفة يقومون بها، بل هي أساسًا تأتي تفعيلًا حقيقيًّا لدور المدرسة في إنشاء الجيل الصالح المتعلّم الواعي لما يقوم به.
العقوبات
تنسيق تنفيذ عقوبة الطالب بسبب مخالفة أنظمة المدرسة بين المديرة والمعلّمة كان أمرًا رائعًا، لكن إيقاف العقوبة يحتاج أيضًا إلى تنسيق، إذ رأينا كيف أنّ الطالبة تكلّمت مع المعلّمة بطريقة غير مهذّبة بسبب القوة التي أخذتها من المديرة، فالمديرة أوقفت العقاب المجتمعيّ دون الاتفاق مع المعلّمة، وهذا الأمر يرسل رسالة للطلبة أن ألجأ دومًا إلى الطرف الذي يقف بجانبي دون الاكتراث لأي طرف آخر الأمر الذي يضعف الإدارة المدرسيّة، ويشجع بقيّة الطلبة على كسب ثقة طرف يحتمون به عند الحاجة، ومن جهة أخرى فإن دور المرشد التربويّ اقتصر على التحقيق في المشكلات دون أن يكون له رأي بسير تصحيح المخالفات.
أن يتحوّل الحصول على الجوائز ونيل التكريم إلى هاجس يشغل بال المدير ويصرفه عن تأدية واجباته المدرسيّة، لهو أمر يعيق تقدّم المدرسة ويؤخّر نهضتها.
حصد الجوائز
نيل المدرسة الجوائز مفيد بلا شك، ويعزّز مكانتها بين المدارس الأخرى، واستقطاب قيادات تربويّة وإداريّين متميّزين أمر مشروع وتسعى له المدارس، لكن أن يتحوّل الحصول على الجوائز ونيل التكريم إلى هاجس يشغل بال المدير ويصرفه عن تأدية واجباته المدرسيّة، لهو أمر يعيق تقدّم المدرسة ويؤخّر نهضتها.
لذلك كان على المديرة الموازنة بين الواجبات والمسؤوليّات التي يتطلّبها منصبها، وبين سعيها للتكريم، وكم سيكون مفرحًا أكثر عندما تتكلّم إنجازات المدير عنه، مدرسة بلا مشكلات كبيرة، أو نسبة رسوب متدنّية أو تكاد تكون معدومة، مساهمة فاعلة في المجتمع المحلّيّ للمدرسة، ربما هذه الأمور ستكون أفضل من كثير من الجوائز التي لا تعبر عن واقع الحال في كثير من الأحيان.
المعلّم قدوة
لا تنفق كثيرًا من وقت الحصّة في النصح والإرشاد وإصدار التعليمات للطلبة، كن قدوة لهم وستراهم يقومون بما تريده منهم دون أن تطلب منهم ذلك، فمعلّمة الرياضة كانت قدوة للطالبات أثناء تنفيذ الألعاب لا بل إنها مزجت ذلك بقيم إنسانيّة مطلوبة في مجالات الحياة كافة، مثل الصبر والتأنّي وتقبّل الآخر والمنافسة الإيجابيّة، فلم تغضب ولم تصرخ عندما رفضت إحدى الفتيات نتيجة اختيار اللاعبات للمنتخب الوطنيّ، فقابلت المعلّمة صراخ طالبتها واعتراضها بصبر ورويّة وأجّلت الحديث معها لحين آخر تكون فيه الطالبة أكثر استعدادًا، ووجهت كلامها للطالبة التي وقع عليها الاختيار.
النظافة أولًا
ظهرت المدرسة غاية في النظافة، وكان هُناك اعتناءً كبيرًا بأن تظهر مرافقها وساحاتها بصورة جميلة خالية من أي نفايات، وباستخدام معدّات يمكن أن تتوفّر في أي مدرسة، وسهلة الاستخدام. والنظافة لم تقتصر في المرافق فقط، بل رأينا الطالبات بمظهر أنيق نظيف، ومتابعة المعلّمات لمسألة النظافة الشخصيّة فنرى المعلّمة عبير تتأكّد من نظافة أظافر الطالبات أثناء الطابور الصباحيّ، في مشهد ربما يغيب اليوم عن مدارسنا.
إن نظافة الطلبة الشخصيّة، ونظافة مرافق المدرسة قضيّة تتساوى بها المدارس الحكوميّة والخاصّة على حدٍّ سواء، ولا عذر أو مبرّر لأي بيئة مدرسيّة تبرّر غياب النظافة.
وكم سيكون مفيدًا عندما تخضع هذه القيادة تصرّفات المعلّمين وطريقة تعاملهم مع الطلبة في مرافق المدرسة كلّها إلى تأمّل وبحث ومناقشة نتائج تفضي إلى تحسين وتطوير.
تفعيل المرافق
لم يقتصر تعليم الطلبة داخل الغرفة الصفّيّة، بل رأينا المدرسة تُفعّل المرافق من مختبر وساحات وملاعب، وتكون الحصّة في أي مكان من مرافق المدرسة حصّة مكتملة الأركان، تُحقق فيها نتاجات ويكتسب الطلبة فيها مهارات، ويكون تحضير المعلم لتقديم حصّته في أي مرفق من مرافق المدرسة تحضيرًا دقيقًا يجعل الطلبة يقبلون على التعلم والتفاعل مع أنشطة المعلم.
إنّ لكلّ مدرسة مشكلاتها، ولكلّ إدارة درجة وعيها وصرامتها ومهاراتها في القيادة المدرسيّة، لكن تبقى الشراكة أحد أهم وسائل الوصول بالمدرسة إلى برّ الأمان، الشراكة المقترنة بالاهتمام بأن مصلحة الطالب وتنشئته هي مسؤولية أطراف متعدّدة تتكامل أدوارها وتتداخل، وليس مسؤولية المدرسة فقط، وكم سيكون مفيدًا عندما تخضع هذه القيادة تصرّفات المعلّمين وطريقة تعاملهم مع الطلبة في مرافق المدرسة كلّها إلى تأمّل وبحث ومناقشة نتائج تفضي إلى تحسين وتطوير، ويكون التغيير سلسًا سهلًا يلبي توقعات جميع أفراد المجتمع المدرسيّ.
أخيرًا، مسلسل الروابي فرصة ثمينة لإعلاء الإيجابيّات، والاستثمار في حلول تحدّ من السلبيّات.