شغلت الأجهزة الذكيّة في السنوات الأخيرة حيّزًا كبيرًا من حياة الأطفال والمراهقين واهتماماتهم، خاصّةً في مرحلة الدراسة المدرسيّة، ومردّ ذلك عائدٌ إلى التطوّر التّكنولوجيّ المهول، الأمر الذي سرّع في حدوث اتّساع الفجوة بين جيل الأبناء وجيل الآباء، ولا سيّما على صعيد ترتيب الأولويّات، وهو ما دفع الكُتّاب والباحثين التربويّين إلى تناول هذه الظاهرة باهتمامٍ بالغٍ وصفًا وإحصاءً وتحليلًا من زوايا نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ وصحّيّةٍ؛ منقسمين في بحوثهم ودراساتهم ما بين محذّرين من مغبّات الإدمان التكنولوجيّ والمُكث لساعاتٍ طويلةٍ خلف الشاشات الذكيّة وما تبثّ من محتويات متنوّعة تنتمي لثقافات وخلفيّات عديدة قد تهدّ أركانًا لطالما كانت راسخة في بيئاتها الاجتماعيّة. وآخرون يرونها ظاهرة طبيعيّة كأيّ مخترعٍ علميٍّ استُحدث لخدمة الإنسان وتسهيل حياته وتحقيق رفاهيّته، ولا سيّما إذا تمّ التفاعل معه بإيجابيّة واستثمار ما فيه من منافع كامنةٍ جليلةٍ.
وهذا الافتراق في وجهات النظر أمر طبيعيّ ينشأ عادةً تجاه كلّ ما هو جديد أو طارئ، فآراء الناس غالبًا تتنشأُ وفق التجارب والمواقف والمشاهدات أو الممارسات التي عادة ما يتعرّضون لها، وبمرور الوقت تتغيّر تلك الآراء أو تثبُت حسب تلك المواقف الحياتيّة المتنوّعة. لكنّنا لا نختلف أبدًا في أن هذا الجيل قد تفتّحت عيناه منذ المهد في بيئة تغُصُّ بالهواتف النقّالة المزوّدة بتغطية الإنترنت، وتستعمل الحواسيب المتنوّعة في حجمها ومواصفاتها، وهو ما خلق حالةً من التّعلُّق بها؛ لما فيها من ميزاتٍ عاليةٍ في التّرفيه وسهولة الاستخدام وتنوُّع المحتوى وجودة العرض.
لكن، مع بداية العهد الكورونيّ 2020 اتّسعت تلك الفجوة كثيرًا، حيثُ حتّمت الظّروف، من أوامر الدّفاع وتعليمات وزارة الصحّة العالميّة، إلى التزام البيوت، وصدرت قراراتٌ بإغلاقاتٍ عديدةٍ شملت معها القطاع التعليميّ، وهو ما أدّى إلى ضرورة اتّخاذ وسيلة ما لاستكمال العمليّة التعلُّميّة والتعليميّة بلا انقطاع، وكانت الوسيلة الوحيدة القادرة على حلّ الإشكال هي التكنولوجيا. ولكي يتحقّق ذلك بشكلٍ جادٍّ يُحاكي التعلّم المدرسيّ، كان التعلّم في الغالب مُتزامنًا، بحيثُ يتعذّر على الأبناء التّناوب على جهاز واحد في البيت، الأمر الذي استوجب توفير جهازٍ لكلّ ابنٍ وابنةٍ على مقاعد الدّراسة، وتزويد المنزل بتغطية خدمة الإنترنت اللامحدودة والسريعة.
صحيحٌ أنّ التكنولوجيا قد أسهمت بشكل مباشر وإيجابيّ في حلّ مشكلة التعليم أثناء انتشار الوباء، ومكّنت المؤسّسات التعليميّة والطلبة من مواصلة التّعليم والتعلُّم، متجاوزين حدود المكان أو البيئة المدرسيّة، وهو فضل عظيم يضاف إلى لائحة إيجابيّات التكنولوجيا، لكن من نفس النّافذة التي أطلّت منها تلك الإيجابيّة، برزت إشكالية كبيرة لم تكن بالحُسبان تتمحور حول بروز ظاهرة التّسمُّر خلف الأجهزة الإلكترونيّة لساعاتٍ طويلةٍ خلقتها أيّام الحجر المنزليّ وحظر التّجوُّل مع افتقار الرّقابة أو حُسن التنظيم، الأمر الذي جعل الأطفال والمراهقين يتأبّطون أجهزتهم في كلّ مرافق البيت، ولست أبالغ لو قلت حتّى على موائد الطّعام أو في بيوت الخلاء وفرش النّوم، ويعيشون في عُزلةٍ عن عالمهم الملموس إلى عالمٍ افتراضيّ، فبعد فكّ الحظر وعودة الحياة والمدارس، ولو بشكلٍ جزئيّ، إلى طبيعتها، نجدُ أنّ الأطفال يميلون إلى العُزلة ويعزفون عن ممارسة الأنشطة الجماعيّة أو الانخراط باللّعب والجلسات مع الأقران أو أفراد العائلة كما كانوا في السّابق، وإذا ما توفّر لهم الجلوس مع أصدقائهم نجدهم يمارسون الألعاب الإلكترونيّة، ويتحدّثون مع بعضهم بوساطتها وهم جالسين في نفس المكان. ولو أخذنا جولةً في المدارس أثناء الاستراحة في صفوفهم، حسب التعليمات الاحترازيّة، نجدُهم خلف شاشات حواسيبهم يمارسون الألعاب الإلكترونيّة أو يتابعون مشاهير "يوتيوب" بدلًا من التحدّث مع الأقران والاستمتاع بتناول الطّعام.
لقد أصبح من الضروريّ الآن أن تعود المياهُ إلى مجاريها، وأن يُعمد إلى رتق الفتق، وإحالة الأبناء إلى التّحرّر من نير العبوديّة للتكنولوجيا، وأن يُطيل المربّون الجلوس معهم ويُديروا حواراتٍ هادفةً وشيّقةً، ودمجهم بالأنشطة الرياضيّة والثقافيّة، وتهيئة فُرص التواصل المباشر مع الأقارب والأقران، وتوجيههم التوجيه الصحيح في كيفيّة استخدام التكنولوجيا في العمليّة التعلُّميّة والترفيهيّة على نحو مفيد وممتع. ولكي نتمكّن من تجاوز تلك المحنة، علينا السّيرُ بخطوات وئيدة دؤوبة، وحلّ العُقد عُقدةً عُقدةً بحكمةٍ وصبر بالغين كمن يُعالج مُدمنًا على نحوٍ متدرّجٍ، فالإدمان التكنولوجيّ قد استفحل في العهد الكورونيّ، وآن الأوان أن تتضافر جهود المنظومة التعليميّة وأولياء الأمور لإعادة حالة التوازن لدى الأبناء كما كانوا عليها قبل 2020.