لأوّل مرّة يكون المعلّم سعيدٌ سعيدًا وهو يلبّي طلب مدير المدرسة الجديد. وفي غرفة المعلّمين، يُمازح مديره بأنّ هذا الطلب الذي نفّذه بتبرم لافت، أحدث تحوّلًا لا بأس به في أدائه داخل الغرفة الصفّيّة، مؤكّدًا أنّه لن يتوقّف عنه.
بهيج مدير جديد تولّى قيادة مدرسة عاديّة، أمورها تسير بالشكل الروتينيّ اليوميّ، ولا يوجد ما يميّزها عن غيرها من البيئات المدرسيّة المشابهة، غير أنّ مديرها الجديد لديه قناعة راسخة بأنّ نهج القيادة بالمشاهدة والمراقبة له تأثير كبير في تحسين الأداء وتطوير الممارسات، لذلك فإنّ أوّل الأفكار التي طلب من المعلّمين الاهتمام بها، كانت وضع جدول لتبادل الزيارات بينهم.
لم يُخفِ المعلّمون تبرّمهم من هذا الطلب، ولم ينجحوا بإخفاء مشاعرهم السلبيّة نحوه. ولأنّ المدير بهيج مرّ بهذا الإحساس سابقًا مع المدارس التي قادها من قبل، فإنّه خفّف توتّر المعلّمين بأن قال لهم: ادخلوا عند بعضكم 10 دقائق فقط من الحصّة، وهذا الأسبوع أريد من خمسة منكم فقط تبادل الزيارات، وبعدها نقيّم التجربة ونرى نتيجتها.
وعلى مضض أيضًا، وافق المعلّمون.
التنمية المهنيّة ينبغي ألّا تتوقّف في المهن كلّها، وليس فقط في التعليم. فهي تساعد على تميّز المعلّم، واكتسابه مهارات جديدة، وتبقيه على اطّلاع مستمرّ بأحدث الأساليب التدريسيّة. ولا يقتصر تحقيق التنمية المهنيّة على حضور الدورات والورش، أو القراءات، او الدرجات العلميّة، بل إنّ أحد أهمّ مجالات تحقيق التنمية المهنيّة هي تبادل الزيارات الصفّيّة بين المعلّمين والمعلّمات، ذلك أنّها واحدة من الاستراتيجيّات الدائمة لاستدامة التطوّر المهنيّ، وإبقاء المعلّم في حال تعلّم مستمرّ.
تتنوّع خبرات المعلّمين والمعلّمات داخل المدرسة الواحدة، وقد يكون بعضهم تجاوز العشرين عامًا في العمل مع الطلبة، ودخل كثيرًا من الغرف الصفّيّة، وتعاقب على إدارة مدرسته كثير من القياديّين. وإلى جانب هؤلاء المعلّمين والمعلّمات من ذوي الخبرة، مَن انضمّ حديثًا إلى مهنة التعليم، بعد أن تخرّج حديثًا في الجامعة، لذلك سيكون التفاعل بين الخبرة العمليّة الطويلة وحديث التخرّج، مسألة مهمّة وذات فاعليّة كبيرة في إحداث التطوّر المهنيّ المستمرّ، خصوصًا إذا تبعها تبادل الآراء في المواقف التربويّة، وتحديد جوانب القوّة ومجالات التحسين في أداء كلّ منهما.
والزيارات الصفّيّة لا تكون فقط بين معلّمي المبحث الواحد، بل يمكن لها أن تحدث الأثر المطلوب والهدف المنشود في أيّ مبحث يدرّسه المعلّم المزار، ذلك أنّ هدف الزيارة قد يدفع المعلّم إلى البحث عن أفضل معلّم يحقّق ذلك الهدف. وهنا قد يكون المعلّم من تخصّص مختلف، فالأهداف المراد تحقيقها من تبادل الزيارات كثيرة ومتنوّعة، منها ما يتعلّق بطرائق إدارة الغرفة الصفّيّة، واكتشاف مزيد من الأنشطة التعليميّة، وتصميم الخطط الدراسيّة اليوميّة والفصليّة، ووضع الاختبارات، وحتّى كيفيّة التعامل مع سلوكات الطلبة المزعجة وغير المنتجة، ودراسة خصائص النموّ، وصفات المراحل النمائيّة للطلبة، والعوامل النفسيّة التي تؤثّر في تعلّم الطلبة وتقدّمهم، وأبرز المشكلات التي تحول دون تميّزهم وتعلّمهم.
تبادل الزيارات بين المعلّمين يكسبهم مهارات جديدة، ويساعدهم في تنويع استراتيجيّاتهم في التدريس، فالمعلّمون يحبّون التغيير والتطوير، وألّا يكرّروا أنفسهم في كثير من الدروس. ومن جهة أخرى، فإنّ تبادل الزيارات يوطّد العلاقات بين المعلّمين، وتقلّل العزلة بينهم، وتعزّز التعاون المشترك بينهم لما فيه خير الطالب ومصلحة المدرسة، وتؤسّس لثقافة إيجابيّة من العمل التعاونيّ وتبادل الأفكار البنّاءة، وتفاعل الخبرات الذي يؤدّي لتجاوز العقبات واستثمار الفرص، وإبقاء المعلّمين على اطّلاع بأحدث الأفكار والمقالات والقراءات، وتجعل المعلّمين يقبلون على بيتهم المدرسة باطمئنان وأمان، فضلًا عن أن تبادل الزيارات يثري التأمّل في الممارسات التدريسيّة، ويثير الأسئلة التي تفضي في النهاية إلى الوصول إلى الممارسات الأكثر تأثيرًا.
تبادل الزيارات يزيد حماس المعلّمين وإقبالهم على التجربة، وعدم الخوف من النتائج، فالمعلّم عندما يعرف أنّ خلفه مجتمعًا فاعلًا من المعلّمين والمعلّمات يتعلّم منه، فإنّه لن يتردّد في التجريب، ثمّ تأمّل التجربة والخروج منها بأفضل النتائج، وتجعل المعلّمين والمعلّمات يركّزون للحصول على أعلى درجات الإنتاجيّة.
ليس بالضرورة أن تكون الزيارة للحصّة كاملة، فالاستمرار في تفعيل هذا النهج بين المعلّمين على مدار العالم، يؤدّي إلى بناء جوّ مريح يجعل المعلّم يستقبل الزائر من دون قلق أو توتّر في أيّ وقت من أوقات الحصّة، مهما كانت مدّة الزيارة قصيرة أو طويلة، وبإمكان المعلّمين تصميم مواقف دراسيّة معيّنة لمواجهة مشكلة ما، ولا سيّما المشكلات السلوكيّة التي يثيرها الطلبة في حصص بعض المعلّمين.
المدير بهيج مسرور جدًّا أنّ المعلّمين في مدرسته اقتنعوا بأثر تبادل الزيارات في التنمية المهنيّة المستمرّة.