مقدّمة
لا يَخفى أنّ التعليم، كان ولا يزال، حجر أساس في تغيير المجتمعات ونهضتها، إلّا أنّ مهمّة المعلّمين تزداد صعوبة نظرًا لتغيّر الأنظمة التعليميّة والمتطلّبات العالميّة، خاصّة بعد جائحة "كوفيد 19"، ما دفع صنّاع القرار إلى المطالبة بإعادة تصميم برامج إعداد المعلّمين وتدريبهم وتطويرهم لتواكب التغيّرات، وتراعي حاجات المعلّمين، خاصّة في القيادة المدرسيّة والقيادة التربويّة (Chaaban et al., 2021).
كما يبدو أنّ ثمّة لبسًا بين تعريف القيادة المدرسيّة والتربويّة، وبين ممارستها، بحجّة أنّ المدارس هي المؤسّسات التي تهتمّ بالتعليم. وإن كنتُ أتّفق أنّ للمدارس دورًا رئيسًا في تعليم الأطفال، إلّا أنّ هناك مؤسّسات تربويّة تعليميّة عدّة توفّر فرصًا تعليميّة غير المدارس، بل إنّ الجائحة شجّعت مؤسّسات المجتمع كلّها على التعاون لتوفير فرص تعليميّة.
يهدف هذا المقال في محوره الأوّل إلى التعرّف إلى مفهوم المعلّم القياديّ، وتبيان مَن هم المعلّمون ذوو الممارسات القياديّة، ويعرض المحور الثاني مجالات المعلّمين القياديّين وأدوارهم، أمّا الثالث فيبيّن نموذجًا طوّرتُه يوضّح أهمّيّة تأثير المعلّمين القياديّين ومجالاته.
القيادة التربويّة
مع تزايد نظريّات القيادة التربويّة وأنماطها، بدأت تعلو أصوات تطالب بتعزيز دور المعلّمين القياديّ في المدارس والمؤسّسات في الدول الغربيّة، مع العلم أنّ هذا المفهوم ظهر في الأدبيّات البحثيّة منذ ثمانينيّات القرن الماضي. ومن خلال بحث أجريته حول الموضوع (Sawalhi, 2019)، أعرّف القيادة التربويّة على أنّها عمليّة توظيف المعارف والمهارات والمواهب والطاقات لكلّ الأطراف المعنيّة بتطوير الإنسان وبنائه، والتأثير الإيجابيّ لتحقيق الأهداف التعليميّة التربويّة المشترَكة، سواء أكانوا عاملين في نظام مدرسيّ أم أيّ مؤسّسات تعليميّة تربويّة أم من خلال التعليم الافتراضيّ.
معلّم قائد أو معلّم قياديّ
عند الحديث عن المعلّم القياديّ Teacher Leadership ذكر الباحثون تعريفات عدّة، من أشهرها تعريف York-Barr & Duke (2004): "العمليّة التي من خلالها يؤثّر المعلّمون، فرديًّا أو جماعيًّا، في زملائهم ومديري المدارس وغيرهم من أعضاء مجتمعات المدارس، لتحسين ممارسات التعليم والتعلّم، بهدف زيادة مستوى تعليم الطلّاب ومنجزاتهم (p. 287-288)".
مع الإشارة إلى أن لا إجماع حول تعريف المعلّم القياديّ أو ترجمة موحّدة متّفق عليها، جاء اختيار التعريف أعلاه مبنيًّا على قراءاتي وتجربتي، وقد لا يوافق عليه كثيرون، إلّا أنّه من المهمّ توضيح أنّ هذا المصطلح يطلق عليه "المصطلح الجامع أو الفضفاض"، أي إنّ وروده في الدراسات والبحوث هو حمّالُ أوجهٍ ومعانٍ.
وفي المقابل، من المهمّ الإشارة إلى أنّ مصطلح المعلّم القائد يرتبط غالبًا بالأفراد الذين يتّسمون بسمات قياديّة ويمارسون القيادة بصورة واضحة، ومن هنا فإنّ التعريف المختار للمعلّمين القادة هو: المعلّمون الذين يحتفظون بمسؤوليّات التدريس مع تولّيهم أيضًا مسؤوليات القيادة الرسميّة وغير الرسميّة والتأثير على الآخرين بصورة مباشرة وغير مباشرة.
كيف نحدّد المعلّمين القياديّين؟
وضّح Katzenmeyer & Moller (2009) أنّ بعض المعلّمين يرفضون لقب "القائد" لأنّه قد يشير إلى الصلاحيّة والسلطة، ما يوحي بالسلبيّة وفق وجهة نظرهم. كما لوحظ أنّ المعلّمين نادرًا ما يحصلون على تأهيل قياديّ ويتعلّمون الممارسات القياديّة من خلال القيام بها.
فالمعلّم القياديّ أو المعلّم ذو الممارسات القياديّة هو المعلّم الذي يستطيع ممارسة بعض الأدوار القياديّة، ولديه مهارات تؤهّله لأداء بعض المهامّ. ولا يعني ذلك أنّه يجب أن يكتسب المهارات القياديّة والمعارف كلّها، فهناك من يبدع بالأنشطة، ولكنّه لا يستطيع تدريب غيره على استراتيجيّات التعليم، أو لا يستطيع قيادة فرق مراجعة الأداء المدرسيّة مثلًا.
كثيرًا ما نلاحظ أنّ بعض المعلّمين لديهم قدرة على القيادة في مجتمع دون آخر، أو في مهمّة دون باقي المهامّ أو مع فريق معيّن وليس مع أيّ فريق، وقد يبرع في مهمّة، وحين يُكلّف بأمر آخر لا يستطيع أداءه. ومع الأسف فقد لا تلتفت الكثير من الإدارات لما برع فيه المعلّم أصلًا، وقد كان بالإمكان العمل على تطوير موهبته (نقاط قوته)، ومع هذا فإنّ الكثير من المعلّمين يكتشفون مهاراتهم وقدراتهم عند تكليفهم بمهمّة للمرّة الأولى، لم يكونوا قد اختبروها بعد أو خطرت لهم ببال.
أدوار المعلّمين القياديّة
في ما يلي أمثلة لممارسات قيادة المعلّمين الرسميّة وغير الرسميّة داخل المدارس وخارجها، مقتبسة من Levin and Schrum (2016, p. 39):
قيادة المعلّمين الرسميّة داخل المدارس |
قيادة المعلّمين غير الرسميّة في المدارس |
قيادة المعلّمين خارج المدارس |
|
|
|
فالنظرة السائدة نحو الممارسات القياديّة غالبًا ما تكون نظرة نحو منجزات عظيمة نراها ناتجًا نهائيًّا وننسى أنّها بدأت بممارسات بسيطة، وأدّت استمراريّتها وتراكمها إلى الأثر الذي نراه عظيمًا. فالرغبة المستمرّة بتحقيق منجزات كبيرة بعصا سحريّة، قد ينسينا ما يمكن تحقيقه بأفعال بسيطة قد يكون مفعولها أعمق ممّا نظنّ. فأدوار المعلّمين القياديّة يمكن أن تكون على مستوى نشاط مع الطلبة في الصفّ، أو مع الزملاء، أو على مستوى أولياء أمور الطلبة، وربما تكون من خلال مشاركات في الحيّ أو في المجتمع المحلّيّ، وقد تكون مساهمات في مسابقات عالميّة.
من هذه الأدوار ما يكون بتكليف رسميّ، ومنها ما يكون تطوّعًا ودون علم الإدارة أو مَن حولها، وهذا ما يقلّل من جهود بعض المعلّمين، فأنظمة تقييم الأداء تركّز على بنود معيّنة بينما المجالات متعدّدة ومتنوّعة يمكن لكلّ معلّم أن يبدع فيها وتُستثمر طاقاته وقدراته من خلالها.
ومن الأهمّيّة بمكان معرفة أنّ اختيار قادة المدرسة للمعلّمين يجب أن ينبني على قناعة قادة المدرسة بضرورة القيادة التشاركيّة، وأنّ الأفراد قادرون على المساعدة وتحسين الأداء، وأنّ ذلك لا يشكّل خطرًا على القائد. وألا يكتفي القائد بمشاورة الأفراد عينهم في كلّ مرة ويظنّ أنّ قيادته تشاركيّة، بل لا بدّ من أن يراعي طريقة طلب الفكرة وتوقيتها وآليّة استلام المقترحات، وتحفيز الأفراد على تقديم المقترحات وتطويرها في بيئة آمنة وإيجابيّة. وفي المقابل، يجب أن يكون لدى المعلّمين استعداد للمشاركة وقبول هذه الفرص وعدم الخوف من ازدياد الأعباء أو المهامّ، أو الخشية من أنّ طرح أيّ فكرة جديدة قد يسبّب انتقادًا للفكرة أو لشخص المعلّم.
كنْ نورًا: نموذج مجالات تأثير المعلّمين
خلال مقابلة 96 معلّمًا ومعلّمة من دول عربيّة عدّة، ضمن متطلّبات استكمال رسالتي الدكتوراه (Sawalhi, 2019)، كانت الإشارة المستمرّة إلى أنّ المعلّم هو مربٍّ ويتوقّع منه الاضطلاع بدوره ليحقّق رسالة مميّزة في غرس القيم. فالتعليم من وجهة نظر معظمهم لم يكن مجرّد مهنة. كما أنّ نتائج مقابلاتهم بيّنت أنّ ثمّة فرقًا بين التربويّ والمربّي، فالتربويّ قد يدرّس العلوم التربويّة من خلال الجامعات والدورات، مثل علم نفس النموّ وخصائص التعلّم لدى الأطفال والبالغين وغيرها من الموضوعات والمحاور، بينما المربّي له دور مختلف.
على الرغم من التحدّيات الذاتيّة والخارجيّة التي يتعرّض لها المعلّمون والمعلّمات ذوو الممارسات القياديّة، لا بدّ أن نراعي أنّ دورهم يسطع ويؤثّر بصور مختلفة ومتعدّدة. ومن أجل إظهار طبيعة ممارسات المعلّمين القياديّة وغيرها من الفرص التي قد تعزّز خبرات قيادات المعلّمين وممارساتهم، تمّ تشبيه ممارسات المعلّمين القياديّة بالنظام الشمسيّ، كاستعارة لتأثير المعلّمين على مجتمعاتهم وخارجها (الشكل 1). إذ يمكن اعتبار المعلّمين كالشمس، ممارساتها وأداؤها دافئ وتساعد (التأثير) الكواكب الأخرى جميعها، وبالمثل يساهم المعلّمون أيضًا في مساعدة أصحاب المصلحة (الكواكب) جميعهم بصورة مختلفة وفقًا للأوضاع.
ونظرًا لتغيّر الظروف، قد تتعرّض بعض الكواكب لأشعّة الشمس (مساهمات المعلّمين) أكثر من البقيّة، ما يؤدّي إلى تأثّرها بقوّة. وذلك قد يكون من خلال فرص يستثمرها المعلّمون والمعلّمات لتعزيز العمليّة التعليميّة أو تطوير الإنسان عمومًا، أو ربما فرص يصنعونها ويضيفون عليها لمسة خاصّة وفق خبراتهم ومؤهّلاتهم.
النظام الشمسيّ ديناميّ للغاية، وهذا يعكس جانبًا مهمًّا لممارسات المعلّمين القياديّة التي تؤثّر في كلّ منتسبي المدرسة بنسب متفاوتة، وقد تكون بعض الكواكب أكثر عرضة لأشعّة الشمس (أي مدى تواصل المعلّم مع منتسبي المدرسة)، ما يؤدّي إلى تأثّرهم بشدّة.
خلاصة
يقدم هذا المقال نظرة متجدّدة حول المعلم القياديّ لحضّ الباحثين والممارسين على إعادة النظر في هذا المفهوم وتطبيقاته، مع أهمّيّة أن يُصار إلى مراجعة تعريف بعض المصطلحات ودلالتها وأثرها على الممارسات. كما يمكن للنموذج الشمسيّ السابق أن يساعد المعلّمين خصوصًا، والتربويّين عمومًا، على إعادة تصميم برامج تأهيل المعلّمين وتدريبهم، ومراعاة خصوصيّتهم في مجالات عدّة متنوّعة وتقبّل تفرّدهم، والابتعاد قدر المستطاع عن برامج التدريب العامّة من دون تفريد تعليم المعلّمين.
المراجع
Chaaban, Y., Arar, K., Sawalhi, R., Alhouti, I., & Zohri, A. (2021). Exploring teachers’ professional agency within shifting educational contexts: A comparative study of Lebanon, Qatar, Kuwait, and Morocco. Teaching and Teacher Education, 106, 103451.
Katzenmeyer, M., & Moller, G. (2009). Awakening the Sleeping Giant: Helping Teachers Develop as Leaders (3rd ed). Corwin Press.
Levin, B. B., & Schrum, L. (2017). Every Teacher a Leader Developing the Needed Dispositions, Knowledge, and Skills for Teacher Leadership. Crown.
Sawalhi, R. (2019). Teacher Leadership in Government Schools in Qatar: Opportunities and challenges. [University of Warwick]. http://wrap.warwick.ac.uk/138040/1/WRAP_Theses_Sawalhi_2019.pdf
York-Barr, J., & Duke, K. (2004). What Do We Know About Teacher Leadership? Findings From Two Decades of Scholarship. Review of Educational Research, 74(3), 255–316.