في إطار الحاجة الماسّة للنقاش على مستوى الدول العربيّة خلال الجائحة، لمشاركة التجارب المختلفة في ظلّ إغلاق المدارس والانتقال إلى التعليم والتعلّم عن بعد، يهدف هذا المقال إلى تقديم أفكار واستراتيجيّات تدعم الأهل في تعاملهم مع قلق أطفالهم في أثناء أزمة كورونا وما بعدها.
إنّ أهمّ ما يجب أن نعرفه عن القلق أنّه شعور طبيعيّ يجعلنا نحسّ أنّه ثمة شيء ينبغي أن ننتبه إليه، كأنّه جرس إنذار يدقّ داخلنا، ويشعرنا بانزعاج. ويُفتَرض بنا أن نعرف أنّه مع كون القلق واحدًا من المشاعر المزعجة، فهو طبيعيّ، وكذلك علينا أن نعلم أن الفرصة متاحة دومًا للتطوير والتعلّم، وخلال الجائحة لدينا فرصة ذهبيّة لمساعدة الأطفال على تطوير مهارات التكيّف مع القلق.
القلق والطفولة المتوسّطة
لعلّ نقطة الانطلاق الفضلى في فهم القلق في مرحلة الطفولة المتوسّطة، القلق المتعلق بالحوادث والكوارث الطبيعيّة تحديدًا، هي تحديد خصائص أوليّة لهذا القلق بين الأطفال عمومًا. ومنها:
- أنّ القلق يظهر لدى الأطفال الإناث أكثر منه لدى الأطفال الذكور.
- أنّ أعراض القلق تظهر لدى الأطفال الصغار في المرحلة المتوسطة تحديدًا، بصورة أكبر من الأطفال الأصغر سنًّا.
- أنّ الأطفال القلقين يفسّرون المواقف الغامضة بطرق سلبيّة، ويقلّلون من قدراتهم على التكيّف والتعامل مع هذه المواقف.
أمّا اضطرابات القلق الأكثر شيوعًا في هذه المرحلة فهي: قلق الانفصال، واضطراب القلق العامّ، والرهاب المحدّد. ومن أهم الأعراض المرافقة لهذه الاضطرابات:
- شكاوى وآلام جسدية: تحديدًا وجع البطن والمعدة وجهازي الهضم والإخراج بصورة عامة.
- اضطرابات النوم: صعوبته وكثرة الكوابيس.
- تغيّر في عادات الأكل.
- الابتعاد وتجنّب الضغوطات أو المحفّزات التي تثير قلقهم.
- الخوف والحاجة المفرطة للطمأنة.
- قلّة التركيز وتدنّي التحصيل/ المستوى الأكاديميّ.
- المزاجيّة والتوتّر.
- الغضب والانفجارات الانفعاليّة والبكاء.
- عدم الشعور بالراحة في المواقف الاجتماعيّة أو ما يعرف بالقلق الاجتماعيّ.
ومن بين هذه الأعراض كلّها يبرز القلق من الإصابة بكورونا، ويظهر هذا عن طريق الأسئلة المتكرّرة عن إمكانيّة إصابته أو إصابة الوالدين أو الأعزّاء بالمرض، ويظهر بصورة جليّة الخوف من المرض أو من الإصابة به.
القلق الطبيعيّ والمَرَضيّ
يمكن للأهل أن يميّزوا بين نوعين من القلق، الأوّل طبيعيّ، والثاني يحمل سمةً مرضيّةً ويحتاج تدخّلًا متخصّصًا. ويمكن اعتماد أربع قواعد أساسيّة للتعرف عليهما وهي:
- الهدف: هل من الطبيعيّ أن يقلق الطفل ضمن هذه الفئة العمريّة من هذا الموضوع؟ مثال: طفل عمره ثمانية أعوام يقلق من إصابته بمرض السرطان.
- التركيز: هل درجة القلق غير عاديّة بالنسبة إلى الهدف والفئة العمريّة للطفل؟ مثال: طفلة في عمر عشرة أعوام لا تستطيع النوم خوفًا من العودة إلى المدرسة.
- الخطورة: هل يتدخّل/ يؤثّر القلق على الروتين اليوميّ للطفل؟ مثال: طفل في عمر سبعة أعوام يمنعه القلق من ممارسة أنشطة اجتماعيّة أسريّة معيّنة مثل زيارة الأجداد.
- القدرة على التأقلم والشفاء: هل يستطيع الطفل التأقلم مع القلق، وهل لديه القدرة على التعافي حين تزول المحنة؟ مثال: طفلة في عمر ستّة أعوام ما زالت تعاني من كوابيس لموقف مقلق تتذكّره بعد مضيّ ثلاثة أشهر على انقضاء الموقف.
الإجابة عن هذه الأسئلة تحدّد قرار الأهل باللجوء لشخص متخصّص أو طلب المساعدة. وفي الوقت نفسه يمكن للأهل التعرّف على استراتيجيّات محدّدة تساهم في الحدّ من قلق أطفالهم.
استراتيجيّات عامّة
القلق بطبيعته موروث ومكتسب، بنسب متساوية، هذا يعني أنّ قلق الأمّ أو الأب يتسرّب للأطفال. وفي هذه الجائحة فإنّ احتمال انتقال القلق من الوالدين إلى الأطفال مؤكّد، ولذلك على الأهل الانتباه إلى الآتي:
- إنّ تعرّض الوالدين لمعلومات تسبّب الإرهاق النفسيّ والقلق، من التلفاز أو الإنترنت، ينتقل للطفل.
- التركيز على الحاضر وتحديد مكامن الخطورة وحجمها، والتعامل بهدوء مع القلق.
- الانتباه إلى الأساسيّات: الأكل، والنوم، وممارسة الرياضة. هذه قد تتشوّش في ظلّ الإغلاق.
- تقبّل حالة القلق، والوعي بالفرق ما بين القلق المجدي المحفّز على التأقلم والتكيّف، والقلق غير المجدي المفرط الذي يتسبّب بفقدان السيطرة على الانفعالات ما يجعل الفرد غير فعّال، وغير مساند لطفله.
- التحدّث الإيجابيّ مع الذات والنمذجة: إنّ طريقة تعاملك مع الانفعالات والمواقف المزعجة مثال حيّ يشاهده ويتعلّم منه الطفل.
هنا، من المهم شرح كيفيّة الحديث عن كورونا مع الأطفال، كون هذه الجائحة هي موضوع القلق الرئيس، مع إدراكنا أنّ المرض في مخيّلة الأطفال وأفكارهم قد يكون أكبر حجمًا من الحقيقة والواقع. فمن جهة المبدأ، الحديث مطلوب وصحيّ، شرط أن تكون المعلومات مبسّطةً موجزةً على صورة حوار وملائمةً لفئتهم العمريّة. أمّا نقطة الانطلاق، فيجب أن ترتكز دومًا على اقتناع الطفل أنّ أهله لا يُخفون عنه شيئًا، وهذا بحد ذاته مصدر للطمأنينة والراحة.
يمكن تقسيم الاستراتيجيّات التي نشجّع الأهل على تبنّيها للتعامل مع قلق أطفالهم إلى ثلاثة مستويات مع بيان أهمّ التوصيات إزاء كلّ مستوى:
- البيئة المنزليّة
- الروتين والنظام (يخلقان استقرارًا عاطفيًّا للطفل).
- تحديد الأدوار (ليس من مسؤوليّات الطفل أن يقلق على وضع العائلة الصحيّ، هذه مسؤولية الأمّ والأب).
- التخطيط للمستقبل (التفكير في المستقبل بطريقة إيجابيّة).
- تنظيم وقت محدّد مخصّص للعب (دور للأب ودور للأمّ).
- التعرّف على المشاعر والتعامل معها
- التحدّث عن المشاعر بصورة مستمرّة خلال الأسبوع.
- الإقرار بكون المشاعر طبيعيّةً، حتّى وإن كانت مزعجةً، مثل: الخوف والقلق والحزن.
- اتّباع رغبات الأطفال في التحدّث عن الموضوع.
- الكشف عن المشاعر والحديث حولها دون التطرّق إلى الحلول.
- الاستماع العقلانيّ، والعاطفيّ.
- العصف الذهنيّ حولَ الاستراتيجيّات المختلفة المتوفّرة.
- التواصل
- إعطاء أجوبة صادقة بما يتناسب والمرحلةَ العمريّة (مثال: القصص والمواقف المشابهة).
- وضع الأمور في نصابها: لا تبالغ في تقدير المخاطر، ولا تقلّل من القدرات على التأقلم والتكيّف.
- الحرص دومًا على إنهاء المناقشات بصورة إيجابيّة.
- تحدّث عن "الوضع الطبيعيّ الجديد" في الوقت الحاليّ والأشهر القادمة.
- لا تخجل من استخدام عبارة "لا أعلم" عند الردّ على استفسارات الأطفال.
- لا تفرط في الطمأنة.
القلق من العودة
في ظلّ محاولة الكثير من المجتمعات والدول العودة إلى نمط الحياة السابق، لا بدّ من وجود قلق مصاحب لهذه العودة، فالوضع غير الطبيعيّ من الإغلاق والحجر أصبح أمرًا طبيعيًّا لدى الأطفال، ولو بصورة مؤقّتة. لذلك، من الممكن أن تكون فترة الانتقال من الحجر إلى الحياة "الطبيعيّة الجديدة" أصعبَ من الحجر ذاته عند كثير من الأطفال. ويمكن من خلال ممارسات محددة دعم الأطفال أثناء انتقالهم للمرحلة الجديدة، ومن الممارسات:
- كتابة قائمة بالأمور التي تغيّرت، والأمور التي بقيت كما هي.
- النقاش مع الأطفال وسؤالهم عن توقّعاتهم لنمط الحياة الجديد: كيف سيكون شعورك عندما ترى أصدقاءك من جديد؟
- عمل أنشطة ورسومات تعكس تصوّر الطفل للوضع الاجتماعيّ والصحيّ في العالم الخارجيّ.
- تهيئة الأطفال للمشاهد والممارسات الجديدة، والتغيّر الذي حصل: لبس الكمامة والقفّازات، والتباعد الجسديّ... إلخ.
- الصدق، والإجابة عن الاستفسارات.
- ابتكار طرق معيّنة للتعامل مع الضغط أو التوتّر اللذين يشعر بهما بعض الأطفال (مثال: صرخة أو رقصة كورونا).
- نذكّرهم بمواقف معيّنة كانوا قلقين خلالها، وكيف تجاوزوها.
أهمّيّة المرونة
تنبع أهمّيّة التركيز على الأمور الإيجابيّة في وقت الأزمة، من كونها تعزيزًا للمرونة وقدرة التكيّف عند الأطفال والأهل. لقد كان لافتًا وجود آثار إيجابيّة للحجر الذي فرضه انتشار كورونا، ومن أكثر ما يشير إليه الأهل: قضاء وقت أطول مع الأطفال، والتعرّف عن كثب على تطوّرهم وخصائصهم النفسيّة. هنا تظهر ميّزة الأزمة بكونها حدثًا مميّزًا شجّع الأطفال والأهل على التعامل مع أمور مزعجة أو غير مألوفة، ما أدّى إلى فتح المجال لتطوير مهارات التعامل مع التحدّيات الجديدة عند الأطفال، وتطوير قدرتهم على التكيّف.
إن قناعة الأهل بأن الثبات والمقاومة يتطوّران في الأزمات يمكّنهم من بناء قدرات أطفالهم على التكيّف، وذلك بالمواصلة رغم الصعوبات، وتحمّل الشعور بالإحباط، بل واستثماره في تنمية الذات والجسد في أوقات الضيق. وهذا التطوّر يتحقّق من خلال التعامل مع المواقف المزعجة بالطرق الآتية:
- عدم التدخّل الفوريّ.
- تهدئة الموقف باستخدام نبرة صوت هادئة.
- الإشارة إلى مستوى إحباطك الشخصيّ أنت خلال اللعب حيث تكون أُنموذجًا لهم يكسبهم مهاراتٍ خاصةً بإدارة الانفعالات .
- اعترف لهم أنّك لا تحبّ ذلك الشعور؛ لأنّك لا تملك السيطرة، ولا تمسك بزمام الأمور.
- بادر إلى تسمية الشعور المزعج وأعلن أنّك معترف بكونه موجودًا.
أمّا أبرز ما اتّسمت به حائجة كورونا فهو عدم اليقين. نحن لا نعرف طبيعة هذا الفيروس ولا كيفيّة تطوّره، ولا نعرف هل سنعود لحياتنا بنمطها السابق، وهل ستفتح المدارس، وهل ستستقرّ العمليّة التعليميّة. بدا واضحًا أن البشريّة جمعاء تتعلّم مما يحدث، ينطبق هذا الأمر على الأثر النفسيّ على المدى الطويل على الأطفال. مع أنّنا ما زلنا نتعلّم، ولا ندرك تأثيره النهائيّ، إلّا أنّ التمسّك بما نعرفه والبناء عليه أساسيّ، في حين ندرك عوامل الحماية والصحّة النفسيّة وأهميّتها لدى الأطفال. وهي باختصار:
أولًا: علاقة الطفل بالراعي الأساسيّ. فكلّما كانت هذه العلاقة إيجابيّة مبنيّة على الثقة والاستقرار والحوار المستمرّ حول المشاعر وتقبّلها، تقلّ التأثيرات السلبية على الأطفال.
ثانيًا: الشعور بالمسؤوليّة والمشاركة الفاعلة. حين يشعر الطفل بالمسؤوليّة من خلال لبس الكمامة، وحماية الجدّ والجدّة مثلًا من العدوى، يقلّ شعوره بالضعف ويجد نفسه يلعب دورًا مهمًّا.
أربعة تطبيقات لمواجهة القلق
ثمّة أربعة تطبيقات يمكن للأهل استخدام أيّ منها مع أطفالهم لمواجهة القلق، وإليكم إيّاها، مع الشرح لكل تطبيق:
التطبيق الأول: شخصيّة القلق
- ابتكر شخصيّة مع طفلك وسمّها "شخصيّة القلق". بإمكانكم رسمه وإعطاؤه اسمًا خاصًّا، مثلًا: ديناصور القلق.
- اطلب من الطفل تحديد مكان وجود شخصيّة القلق في الجسم. (أين يشعر بالقلق؟)
- شجّع الطفل على التحدّث مع الشخصية بثقة وهدوء.
- أجرِ عصفًا ذهنيًّا لحوار يمكن أن يجريَه الطفل مع شخصيّة القلق. (مثال: صوتك عالٍ يا ديناصور القلق، أنا طفل شجاع، وقويّ، وبإمكاني التعامل مع هذ الموقف!).
التطبيق الثاني: تنفّس مع النجوم
استخدم النجمة كمثير حسّيّ بصريّ. التنفس بعمق وبطء من أهمّ المهارات للتعامل مع شعور القلق. يحتاج بعض الأطفال إلى تعلّم هذه المهارة، ومن الممكن استخدام الخطوات الآتية:
- سر مع ضلع باتّجاه إحدى زوايا النجمة أثناء الشهيق وصولًا إلى القمّة.
- تابع نزولًا إلى مفصل شعاع النجمة قرب المركز أثناء إطلاق الزفير.
- استمرّ في ذلك إلى أن تنتهي من زوايا النجمة الخمس جميعًا.
التطبيق الثالث: الحواسّ الخمس
يجعل هذا التطبيق الطفل قادرًا على التجاوب مع القلق عن طريق تركيزه على الحاضر من خلال حواسّه الخمس، وهي البصر والشمّ والسمع واللمس والذوق، وبذلك ينشغل عن الواقع المقلق.
- نطلب من الطفل تسمية شيء يدركه بكلّ حاسّة لديه: شيء أمامه يراه (مثال: لون السماء). رائحة أيّ شيء يشمّه (مثال: رائحة الصابون على يديه). شيء بإمكانه أن يلمسه (مثال: أيّ قطعة من ملابسه). شيء يسمعه (مثال: صوت السيّارات في الخارج). تذكرّ طعم شيء تذوّقه (مثال: طعم معجون الأسنان الذي يستخدمه الطفل).
- نطلب من الطفل أن يتنفّس ببطء وهدوء خلال التمرين ما بين كلّ حاسة وأخرى.
التطبيق الرابع: تحديد وقت القلق
تعليم الطفل كيفيّة إدارة مشاعر القلق بتخصيص وقت للحديث مع الأطفال عن شيء مقلق.
- حدد ساعةً للتحدّث مع طفلك عن الشيء المقلق.
- حدد المدّة الزمنيّة التي تخصّصها للحديث عن القلق، والْتزم بالموعد والمدّة المحدّدين. (مثال: 10 دقائق)
- بعد انتهاء المدّة المحدّدة اطلب من طفلك ترك هذه الأفكار، (مثال: نربطها في بالون ونطلق سراحها في الهواء) مع التوضيح بأننا سنعاود الحوار في وقت ومدّة محدّدة لاحقًا.
- الْتزم بهذه الخطوات إلى أن تشعر أنّ الطفل لم يعد بحاجة إلى تكرار التمرين.