درس العودة... وللحلم بقيّة
درس العودة... وللحلم بقيّة
2025/01/23
أسماء رمضان مصطفى | مُعلّمة لُغة إنجليزيّة- فلسطين

النزوح الأخير - النصيرات

الأربعاء، كانت لحظات ترقّب عصيبة. كانت غزّة على موعد مع الإعلان عن وقف إبادتها جماعيًّا، أمام مرأى العالم الأصم الأبكم ومسمعه، العالم المُتعامي عمّا حدث هنا لخمسة عشر شهرًا متواصلة منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023. الكثيرون هنا في غزّة، لم يكونوا على ثقةٍ بأنّ المؤتمر سيحمل لهم أخبارًا تبشّرهم بشمس حياة جديدة. والأكثريّة كانت تشكّ في أنّ المؤتمر سينعقد فعلًا، فقد سمعوا على مدار الأربعمائة وسبعين يومًا التي سبقت، وعودات كثيرة خلال جولات مفاوضات عديدة، وفي كلّ مرّة أصيبوا بإحباط وخذلان.

في خضم تحليلات الشعب الغزّيّ الخبير بالحروب على الرغم بساطتهِ، كنتُ أرقبُ مجموعة من الأطفال أمام باب القهوة الصغيرة "البطيخة"، والتي كنت أزورها كلّ يوم لمتابعة الأخبار هناك. كان خبر الليلة الأبرز قفزات الأطفال فرحًا وطربًا بما يتوقون إلى سماعه من العاصمة القطريّة الدوحة. كنتُ أقرأ عيونهم المفعمة بالأمل، تشعّ وجوههم نورًا يضاهي نور الشمس مع مرارة ما تعاقب على قلوبهم وملامحهم، والتي أصبحتَ تبصر من خلالها قلب رجل ستينيّ لطفل في العاشرة من عمرهِ، وسيّدة ناضجة لطفلة لا يتعدّى عمرها تسعة أعوام.

متفائلون تمامًا بأنّ الإعلان قادم تلك الليلة. شعرت بثقتهم بذلك من خلال أصواتهم الرنّانة التي ملأت الدنيا تكبيرًا وهتافات العودة إلى الشمال: "يمين... شمال... ح نروّح ع الشمال". تدحرجت من عيني دمعةً لم أستطع حبسها عندما ذكروا "الشمال"، شمال مخيّمي العزيز وأحبّتي وحياتي الجميلة الهادئة هناك.

كان أغلب الأطفال من طلّابي في مخيّم نزوحي الأخير "ضيوف النصيرات"، حيث نزحتُ قبل ستّة أشهر. كنتُ أتنفس هواء الشمال حيث أنزح في أقرب نقطة من جنوب وادي غزّة، من غزّة المدينة، وشمالها الحبيب. وكنت أشعر كلّ يوم أنني تركت قلبي هناك، وأنّني لن أنجو ما لم أعد إليه.

نظر إليّ أحمد، تلميذ نجيب وذكيّ، وجاء يسلّم عليّ وتبعه جميع الأطفال. حاورته سريعًا بسؤالين صغيرين: "لماذا أنت فرحان بهذه القدر؟ أمتفائل أنت؟" قال لي: "طبعًا" بكلّ ثقة وبصوت عالٍ. وأكمل قائلًا: "رح نرجع ونعمّرها، وأتعلّم زي ما وعدّتك، وأضلّ أشتغل وأبيع طحين وأربح وأساعد أهلي. وبس أكبر بدي أسافر وأرجع دكتور، وأتزوّج وأعزمك على فرحي يا مِسّ".
ضحكتُ وضحك الجميع، وفي قلبي غصّة: كيف كبر أحمد بهذا القدر؟ ومن المسؤول؟

وقبل أن يذهب ليكمل رقصته العفويّة على أنغام أغنيّة "أنا دمي فلسطينيّ"، والتي ارتفع صوتها من سماعة المقهى لجميع ضيوفه والعابرين من أمامه، باغتّه بسؤال آخر: "ماذا أوّل شيء ستفعله عندما تعود؟" قال: "سأزور قبر صديقي العزيز. استشهد مع كلّ عائلته. كنّا أصدقاء لدرجة أنّنا كنّا نتقاسم الساندويتش في وقت الاستراحة في المدرسة، ونكتب الواجب معًا، ويعاقبنا الأستاذ لأنّنا ننسخ إجاباتنا من بعض كلّ يوم، ولا نتوب. الله يرحمك يا تامر. راح لربنا، أحنّ عليه من الدنيا كلّها".

قاطعته صديقته لانا بقولها: "الله يرحمه، تعال نكمّل فرحتنا. يا رب يعلنوا هذه المرّة عن الهدنة". أمسكَت بيد أحمد وخرج الجميع إلى مدخل القهوة، وعادوا يهتفون "هدنة... هدنة".

رأيتها شابّة يافعة؛ لانا ستكبرُ وتعيد بناء البيت. وأحمد سيتعلّم الطبّ في الخارج ويعود حاملًا همّ الوطن. ستنجب لانا من الأبناء والبنات من يكمل المسير، ويحافظ على الإرث الغزّيّ الثقافيّ والحضاريّ والتاريخيّ. ويتزوّج أحمد وينجب من الأبناء والبنات من يستطيع أن يعيد بناء البيت والمدرسة والمشفى. وستعود غزّة إلى الحياة قريبًا، ويعود الغزّيّون إلى حياتهم برضاء تامّ وحبّ خالص لموطنهم الأصليّ، فهم باتوا وحدهم من يعرف قيمة الأرض والوطن أكثر من ثمانية مليار آخرين في أرجاء المعمورة.

وفي لحظة، انتبه الجميع إلى شاشة "الجزيزة"، وأعلنت قطر عن خبر يرتقبه العالم بأسره، مفاده التوصل إلى اتّفاق يفضي إلى وقف إطلاق النار في غزّة.

هتف الجميع، وبكى بكاء المتضرّع لله أن يتمّ التنفيذ حقًّا، وأن يبلّغهم الله هلال ليلة دخول الاتّفاق حيّز التنفيذ.

أمّا أنا فجلست أحاول وقف شلّال دموعي، ولكنّني لم أستطع، ولم أستطع توثيق اللحظة بهاتفي؛ فمثل هذه اللحظة لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة إطلاقًا. سيتحدّث الناجون من حرب الإبادة على غزّة لأبنائهم وأحفادهم عن مشاعرهم هذه اللحظة.

لملمتُ جراحي المبعثرة في ثمانية نزوحات بهدوء، وهاتفت قلبي الصامد هناك في الشمال...

قلت له: "سأعود قريبًا بإذن الله، نحن على موعد مع الحياة من جديد".