لم يكن التعليم أكثر أهمّيّة للتقدّم البشري في أيّ وقت مضى ممّا هو عليه اليوم، ومع ذلك فمن المتعارف عليه عالميًّا أنّه يمرّ بأزمة وهنالك دعوات متكرّرة إلى "إعادة تصوّر التعلّم وابتكاره"، وساهم الوباء الذي انتشر أخيرًا وإغلاق المدارس عالميًّا لفترات طويلة في جعل هذه الأزمة أكثر وضوحًا.
تشير الدراسات إلى أنّ القيادة هي أحد العوامل الرئيسة التي تؤدّي إلى نجاح العمليّة التعلّميّة/التعليميّة، وخلُص أحد التقارير الهامّة والصادر عام 2021 إلى أنّ فعاليّة مدير المدرسة هي من أهمّ العوامل من حيث التأثير في تعلّم الطلاب، قائلًا "إنّ القيادة التربويّة تُعتبر من أكثر المجالات التي يؤدّي الاستثمار فيها إلى نتائج إيجابيّة ملموسة على عمليّة التعلّم" (Grissom et al., 2021, p.14). فللمديرين أهمّيّة قصوى لأنّ أسلوب القيادة الذي يتبنّونه يؤثّر مباشرةً في النظام البيئيّ للتعلّم.
سأشارككم في هذا المقال تجربتي في اتّباع أسلوب القيادة التحويليّة في عملي الجديد في مدرسة دوليّة وبعض آثارها حتى الآن. يجدر ذكر أنّ المدرسة حديثة نسبيًّا ولها أساس قويّ ورؤية واضحة وخطط طموحة، وموظّفوها معظمهم من الشباب من حيث العمر والخبرة.
ركائز القيادة التحويليّة
كنت أعرف أنّ أسلوب القيادة الذي سأتبنّاه سيحدّد بصورة كبيرة مدى النجاح الذي سأحقّقه. بعدما قرأتُ موسَّعًا عن القيادة التحويليّة وتأثيرها في أعمال Burns وBass وغيرهم، وجدت نفسي أتّفق مع تعريف Burns (1978) للقيادة التحويليّة بأنّها "عمليّة يدعم فيها القائد والتابع أحدهما الآخر للوصول إلى أعلى مستوى من الروح المعنويّة والدافعيّة" ( p.1)، كما أتّفق مع السلوكيّات التي حدّدها Bass (1985) كما سأوضّح لاحقًا. لذا، قرّرت الانخراط في ممارسات القيادة التحويليّة لإيجاد ثقافة تحفّز العمل المشترك بين أعضاء الفرق المختلفة لتحقيق النموّ المنشود.
كانت المهمّة الأولى تغيير الصورة التقليديّة لدور المدير حيث يقدّم غالبًا كشخصيّة بعيدة من الموظّفين تتّخذ قرارات أحاديّة الجانب، وعلى بقيّة المجتمع المدرسيّ تنفيذها. وفي المقابل، تتمحور القيادة التحويليّة حول نهج تعاونيّ نحو معالجة مجالات التنمية جماعيًّا، وتغيير ثقافة المدرسة بهدف تحقيق النموّ المستدام. إنّ هذا الأسلوب يركّز على القيادة التي تؤكّد على تمكين الأفراد وإيجاد المساحة التي يحتاجونها للعمل بصورة تعاونيّة وأخذ زمام المبادرة.
يسلّط Burns (1978) الضوء على هذا الأسلوب لناحية إدارة العمل إذ "يساعد القادة والمقادون بعضهم بعضًا على الارتقاء إلى مستوى أعلى من الروح المعنويّة والتحفيز" (p.1)، ويركّز (1985) Bass على استهداف الإدراك والقيم والتوقّعات وتطلّعات الموظفين وتغييرها. بينما يركّز في تعريفه على الدور الذي يضطلع به القائد وقدرته على تحفيز التغيير من خلال العمليّات التالية: التأثير المثاليّ، الاهتمام الفرديّ، التحفيز الملهم، التحفيز الفكريّ.
وبحسب المصدر نفسه، التحفيز الملهم يعني التشارك برؤية واضحة وإشراك أصحاب المصلحة في عمليّة التطوير ومنحهم إحساسًا بالملكيّة والاستثمار من خلال التصرّف كقدوة. يشمل الاهتمام الفرديّ قيام القائد بالتدريب، والتوجيه، وتقديم الملاحظات بطريقة تتّفق مع حاجات الجميع. ويدعو التحفيز الفكريّ إلى تشجيع أعضاء الفريق على تبنّي طرق جديدة في التفكير والعمل، وإعادة النظر في القيم والمعتقدات التي يتبنّونها. قبل كل شيء، على القائد طلب أفكار جديدة من أعضاء الفريق وإظهار التسامح مع الأخطاء والمشاركة في تحمّل المسؤوليّة عندما تفشل المبادرات.
أعتقد أنّه من خلال القيادة التحويليّة، يمكن أن تصبح المدارس أنظمة بيئيّة تعليميّة تزدهر وتنمو باستمرار. سأصف في ما يلي بعض الممارسات المرتبطة بالعمليّات الأربع التي ركّز عليها Bass (1985) واللّازمة لقيام القائد التربويّ بتحفيز التغيير والنموّ، وتتمحور هذه الممارسات حول المشاركة والتواصل والأصالة والرؤية، والأخلاق، والعلاقات، والتمكين.
رؤية موحّدة وتواصل فعّال
تتمثّل الخطوة الأولى في التوصّل إلى رؤية مشتركة في العمل بترسيخ قيم مشتركة وإيصالها بطريقة واضحة ومستمرّة. استخدمنا أول اجتماع للموظّفين لتحديد ثقافة المدرسة من خلال تحديد مجموعة مشتركة من القيم أوّلًا واستخدام تلك القيم للتوصّل إلى لغة مشتركة بين أعضاء الفريق. حدّد كلّ منّا أهمّ ثلاث قيم (شخصيّة ومهنيّة) بالنسبة إليه، ثمّ اتّفق على القيم المشتركة ودوّنت في ملصق (بوستر) وعلّق في صالة المعلّمين.
ثمّ عرضت خطّة عمل المدرسة على أعضاء الفريق مع تسليط الضوء على كيفيّة ارتباطها بالخطّة الاستراتيجيّة للمدرسة. ركّزت على إظهار الدور الذي اضطلع به أعضاء الفريق في تطوير خطّة العمل هذه من خلال ملاحظاتهم ومراجعات المناهج وتقارير البرامج وتغذيتهم الراجعة في الاستبيانات. لقد وجدت أنّ المعلّمين أصبحوا بعد ذلك أكثر استعدادًا للتقدّم بمبادرات وربطها بالأهداف، وقبولهم بسهولة أكبر لممارسات التنفيذ المرتبطة بالأهداف المحدَّدة، والتي تمّت مشاركتها والاتّفاق عليها سابقًا.
خلال الاجتماعات الأسبوعيّة القصيرة، يُذكّر أعضاء الفريق بالأهداف المشتركة ويوضعون في صورة ما أُنجز من خطط العمل ويُفتح المجال للأسئلة والملاحظات والإعلانات. جدول الأعمال مفتوح ويستطيع الجميع الإضافة إليه، والبند الأوّل في كلّ اجتماع هو متابعة ما اتّفق عليه من الاجتماع السابق.
يمتدّ الاهتمام بالتواصل الإيجابيّ ليشمل أولياء الأمور والطلّاب أيضًا من خلال اللقاءات الدوريّة المنتظَمة مع الأهل، والتي تتناول موضوعات تهمّ أولياء الأمور مثل الروتين المدرسيّ الصحّيّ والتقييم والإرشاد المهنيّ للطلبة. تُعتبر هذه الاجتماعات منصّات مفتوحة للاستماع إلى ملاحظات أولياء الأمور. خلال هذه الاجتماعات يُتطرّق إلى آخر المستجدّات وتُعرض أهداف المدرسة وتُناقش.
يُعمّم جميع أعضاء الفريق المبادئ العامة والممارسات الهامّة من خلال وسائل التواصل المتاحة. أبعثُ أنا مثلًا رسائل صباحيّة عبر البريد الإلكترونيّ ثلاث مرّات في الأسبوع لأعضاء هيئة التدريس كافّة تتكوّن من دعوات قصيرة للتفكير في ممارسة معيّنة مع مثال مرئيّ، إمّا من ممارسة في المدرسة، أو أمثلة خارجيّة. أستخدم هذه الرسائل أيضًا لمشاركة الأحداث المحلّيّة والعالميّة، والتي يمكن أن تثري حياتنا وتعزّز تَعلُّمنا مع توجيه سؤال يثير التفكير في موضوع الحدث أو عبارة توضح كيفيّة ربط الحدث بالتعلّم.
في أوّل اجتماع للهيئة التدريسيّة هذا العام، حُدّد إدراج رفاهيّة المتعلّم والممارسات التصالحيّة (Zehr & Gohar, 2003) كجزء أساسيّ من خطّة عمل المدرسة، وبدأنا بتتبّع التقدّم في هذا المجال خلال الاجتماعات الدوريّة. نُظّمت ورش عمل للمعلّمين حول الممارسات التصالحيّة وحول جوانب التعلّم الاجتماعيّ العاطفيّ للطلبة SEL وللمعلّمين والمرشدين. وركّزت في الرسائل الصباحيّة على هذين الموضوعين.
ورُبط هذان الموضوعان بالتغذية الراجعة من الطلّاب التي جُمعت من طريق مجموعات التركيز المنتظَمة، إذ أظهرت ملاحظات الطلبة مدى الحاجة إلى العمل على الجانب الاجتماعيّ والنفسيّ لهم. عرضت هذه التغذية الراجعة، الإيجابيّة والسلبيّة، على المعلّمين ممّا ساعد في تحفيزهم وتاليًا دفعهم للتعبير عن مخاوفهم وحاجاتهم. علّق العديد من المعلّمين لاحقًا على مدى قوّة أثر التغذية الراجعة من الطلبة عليهم وكيف غيّرت أداءهم.
أصبحت سياسة السلوك بعد ذلك مثار نقاش دائم للمعلّمين، ووُضع مخطّط تدفّق جديد وتولّى المرشد ومشرف شؤون الطلّاب دور التيسير بدلاً من الدور التصحيحيّ. كثيرًا ما أسمع الآن المعلّمين يتحدّثون بحماس عن طلّاب معيّنين وعن حاجاتهم ويناقشون الاستراتيجيّات التي تناسب هؤلاء الطلبة، وتلك التي لا تناسبهم ويتدخّلون لدعم الطالب أثناء مواجهتهم صعوبات معيّنة. يشعر المرشد الآن بأنّه أقلّ عزلة، إذ توصّل الفريق إلى قناعة بأنّ رفاه الطالب ونموّه الاجتماعيّ والنفسيّ مسؤوليّة جماعيّة وليست ملقاة على المرشد فقط. أظهرت مجموعات التركيز غير الرسميّة مع الطلّاب مستوى متزايدًا من الرضا عند سؤالهم عن المدرسة كبيئة آمنة وداعمة.
تطوير القدرات
تمكّنت من خلال الاجتماعات الفرديّة مع بعض الموظّفين ومشاهدة الآخرين أثناء العمل من التعرّف إلى أفراد الطاقم، وملاحظة نقاط قوّتهم وحاجاتهم وسماتهم الفريدة. أستخدم أيضًا الجولات اليوميّة التي أقوم بها في كلّ أنحاء المدرسة للتعرّف أكثر إلى أعضاء الطاقم حيث أتقصّد الدخول إلى الفصول الدراسيّة وإلقاء التحيّة على الطلبة والمعلّمين وفي بعض الأحيان حضور بعض الدروس، ما يسمح لي بإجراء تقييم غير رسميّ، ويساعدني في تقديم الدعم بصورة أكثر فعاليّة. أُحدّد من خلال هذه الزيارات الممارسات الجيّدة وأعمّمها على الآخرين كما أشخّص الممارسات السلبيّة للعمل على التخلّص منها. في البداية كان المعلّمون ينزعجون من هذه الجولات، ولكن بعدما أيقنوا أنّ الهدف منها هو أساسًا دعمهم أصبحوا يدعونني لزيارتهم لمشاهدة درس يفتخرون بطريقة تقديمه أو يطلبون الدعم عندما يواجههم تحدٍّ معيّن.
بعد فترة وجيزة، بدأ بعض أعضاء الفريق يطلبون مقابلتي بانتظام لتلقّي الدعم والإرشاد. الطريقة التي أتّبعها في دعمهم مبنيّة على تبادل المعرفة والخبرة، واقتراح القراءات، والتأمّل معًا في الممارسات، والعصف الذهنيّ حول الخطوات المستقبليّة. وساهمت هذه الطريقة في تطوير علاقة داعمة تركّز على رفع الروح المعنويّة للمعلّم وضمان النموّ والتأثير الإيجابيّ في العمليّة التعليميّة. ومع الوقت، شعر المزيد من المعلّمين بالراحة في التوجّه إليّ طالبين النصح حول التحدّيات التي يواجهونها. ولا شكّ في أنّ بناء القدرات وتطوير الكفاءة يحتاجان إلى الوقت والصبر.
علاوة على ذلك، حرصت على جمع تغذية راجعة من المعلّمين حول أدائي ما ساهم في نموّي المهنيّ من جهة، وفي تنمية شعورهم بأنّ صوتهم مهمّ ويؤخذ بالاعتبار من الجهة الأخرى. تُشارَك دائمًا نتائج الاستطلاعات وخطط العمل مع الجميع كما تُتّخذ خطوات لمواجهة التحدّيات التي يحدّدها المعلّمون، وآخر مثال على ذلك هو بروز نسبة عدم رضى ذات دلالة لدى الموظّفين حول نظام تقييم أدائهم ما دفع الإدارة إلى تشكيل لجنة من أعضاء الطاقم لدراسة نظام التقييم وتقديم الاقتراحات لتعديله.
فضلًا عن كلّ ذلك، فإنّ الإعراب عن التقدير للموظّف مثل رسائل الشكر المنتظمة عبر البريد الإلكترونيّ التي تشيد بالعمل المنجز في المدرسة، وتوزيع الجوائز على الموظّفين المميّزين في مجالات مختلفة، تحدث فرقًا كبيرًا في الروح المعنويّة. إنّ دعوة المعلمين لي إلى حضور دروسهم والاطّلاع على أنشطتهم وتجارب التعلّم التي يقودها الطلّاب في الفصول يعني أنّهم أصبحوا يشعرون بالتقدير من المؤسّسة، ما قد يؤدّي أيضًا إلى المزيد من الممارسات المميّزة على نطاق أوسع.
التعزيز الملهم
أحرص على أن تكون جميع تصرّفاتي هادفة ومقصودة سواء في كيفيّة الاستماع للآخرين أو ما أقوله لهم. أعبّر بصراحة عمّا أقدّره وأعتبر أنّ من واجبي قول رأيي بصدق حول ما أراه من ممارسات، وكيف تؤثّر هذه الممارسات في تعلّم الطلبة. أريد أن تنبع ممارسات فريقي من الشعور بالملكيّة وخدمة المصلحة العامّة، وألّا تكون مفروضة بموجب اللّوائح والأنظمة. ولكي يتحقّق هذا، يجب أن يشعر المعلّمون بثقتي في قدراتهم قولًا وفعلًا، وكذلك من خلال الاستماع إليهم، بابي مفتوح دائمًا، ويمكن لأيّ شخص الدخول والتحدّث معي.
إنّ العمل مع فريق القيادة التربويّة، ومختلف قادة الفرق لتمكينهم وتحفيزهم، هو الطريقة التي أطمح من خلالها لضمان رفع مستوى التحفيز والروح المعنويّة واستدامتها. عندما يشعر أعضاء الفريق بالكفاءة والدعم، ويبتعدون عن ثقافة إلقاء اللّوم، فإنّهم يؤثّرون إيجابًا في نموّ المؤسّسة وتطوّرها.
بهذه الطريقة أستطيع أن أرى تغييرًا "له أرجل" بحسب (Perkins & Reese, 2014)؛ التغيير الذي يستهدف الأطر والمجتمع والمؤسّسة. سيساعدنا ذلك في تحقيق رؤية لنظام بيئيّ يتمتّع فيه المتعلّمون المتمكّنون بالقدرة على قيادة المبادرات الإبداعيّة والاستباقيّة بصورة جماعيّة من أجل استمرار النموّ في بيئة داعمة.
المراجع
Bass, B. M. (1985). Leadership and Performance. Free Press
Burns, J. M. (1978). Leadership. Harper and Row
Grissom, J. A., Egalite, A. J. & Lindsay, C. A. (2021). How Principals Affect Students and Schools: A Systematic Synthesis of Two Decades of Research. The Wallace Foundation
Perkins, D. & Reese, J. (2014). When Change Has Legs. ASCD. https://www.ascd.org/el/articles/when-change-has-legs
Zehr, H. & Gohar, A. (2003). The Little Book of Restorative Justice. Good Books. https://sites.unicef.org/tdad/littlebookrjpakaf.pdf