تخيّل أنّك قطرة ماء سقطت عليها أشعّة الشمس في يوم جميل، لم تطق الدفء فتبخّرت وصعدت إلى السماء لتلتقي مع قطرات أخريات أصابهنّ ما أصابك، أو تخيّل نفسك عملاقًا بوسعك تخليص الأرض من أكبر مشكلاتها، فبمَ تبدأ؟ ولماذا اخترت هذه المشكلة بالذات دون غيرها؟ تخيّل أنّك عالم رياضيّات، ما الآلة التي تودّ اختراعها؟ ولماذا؟
تَخيُّل الطلّاب يقود إلى تعلّمهم، وقد نكون قد سمعنا بمقولة عالم الفيزياء الأشهر آينشتاين: "إنّ القدرة على التخيّل أهمّ بكثير من المعرفة"، ولكنّنا لم ننزل هذه العبارة حقّها من التأمّل والتمحيص عندما كنّا نسكب كثيرًا من المعارف في عقول طلّابنا، ونحشو أدمغتهم بما يتضمّنه الكتاب المنهجيّ من معلومات، ثم نستدعي تلك المعارف كلّها في ورقة الامتحان بطرح أسئلة متنوّعة ومتباينة المستوى، ونقرّر، بناءً على مدى تمكّن الطالب من استرجاعه المعارف الكثيرة، علامة تحدّد مصيره في التعليم الجامعيّ، أو تصنّف مرتبته بين ترتيب زملائه في الصف. فكم من طالب حُرِم من الدخول إلى الجامعة لعدم قدرته على استدعاء الكم الهائل من المعارف للحصول على العلامة اللازمة، وكثير من المعلّمين يضطرّون إلى الخضوع لهذه الإجراءات بسبب طبيعة النظام التعليميّ الذي يتطلّب معيارًا لفرز الطلّاب وإرسالهم إلى الجامعة، دون أن يكلّفوا أنفسهم تنفيذ هذا الفرز بطرق إبداعيّة تتلاءم مع اهتمامات الطلّاب وميولهم، ولا تتعارض مع أسس النظام التعليميّ الذي يعملون فيه، وتمنح في النهاية درجة تلائم مستوى الطالب الحقيقيّ، وتقيس مهاراته بدقّة.
التخيُّل طريقًا للتعلّم
قد يتبادر إلى الذهن أنّ المقصود بالتخيّل، في هذا المقال، ترك الطالب يؤلّف أحداثًا أو فرضيّات كما يشاء أو كما يحلو له، ولكنّ المقصود هنا التخيّل الذي يحقّق أهداف التعلّم، أو التخيّل الموجّه وفق ما يريده المعلّم من نتاجات سيحقّقها في الغرفة الصفّيّة، أو التخيّل التأمّليّ المرتبط بما يتناوله الكتاب المنهجيّ، ومهما كانت التسمية التي يطلقها المعلّم على التخيّل، فالمقصود به ذلك النوع الذي يعزّز تعلّم الطلّاب، ويساعدهم على تحقيق نتاجات التعلّم.
يكتسب التعلّم بالتخيّل أهميّته من سهولته بدايةً، ومن قدرة الطلّاب، مهما تباينت الفروق الفرديّة بينهم، على تأديته، ومهما كان الطالب واقعيًّا، فلا بدّ في لحظة من اللحظات أن يتخيّل صورة مغايرة لواقعه، أو يقترح تحسينًا لهذا الواقع، وما عمليّة التحسين إلّا تخيّل، وما دام الطالب قادرًا على التخيّل بهدف تحسين واقعه، فسيكون قادرًا على التخيّل بهدف تحسين تعلّمه.
قد يجعل التخيّل الطلّاب في مرتبة متساوية لمرتبة المعلّمين، إذ كلاهما يستطيعان التخيّل، الأمر الذي يخلق مشاركة وجدانيّة بين الطالب والمعلّم من حيث اشتراكهما في تخيّل حلول متشابهة، وخلق مزيد من المساحات التي يلتقي فيها المعلّم مع طلّابه. بالإضافة إلى أنّ التخيّل يعفي الطالب المبتدئ من الحرج عندما يطرح المعلّم سؤالًا لا يعرف إجابته، والأمر كذلك بالنسبة إلى المعلّم الذي سيجعل التخيّل حصّته مليئة بالتحدّث والمشاركات، وسيقلّل الوقت المخصّص للمعلّم في الحصّة لحساب الطالب، فضلًا عن أنّ ممارسة التخيّل في الغرفة الصفّيّة سيزيل تدريجيًّا دور المعلّم كمصدر وحيد للمعرفة لصالح دور المعلّم الموجّه والمرشد.
أهمّيّة التخيّل في التعليم
يحقّق التخيّل المخطّط له عدّة أهداف في الحصّة الصفّيّة، من أهمّها:
- - يدفع التخيّل الطالب إلى المشاركة في نشاطات التعلّم، فعندما يفسح معلّم اللغة العربيّة، مثلًا، المجال أمام الطالب ليتخيّل نفسه خطيبًا أمام جمهور، يعزّز لديه مهارة التحدّث والصوت الجهوريّ. وإذا أتاح المعلّم للطالب مجالًا ليتخيّل نفسه مسؤولًا عن البيئة، فسيدفعه إلى ابتكار حلول للمشكلات التي تواجه البيئة، وفي الرياضيّات يمكن أن يتيح تخيّل الطالب نفسه معلّمًا مجالًا لحلّ المسألة الرياضيّة بأبسط الطرق وأسهلها، وفي الكتابة قد يدفع تخيّل الطالب نفسه كاتبًا للقصّة إلى إضافة أحداث أخرى إليها أو تغيير نهايتها.
- - ترسيخ ما يتخيّله الطالب في الذهن قد يؤدّي إلى تنفيذه في الواقع، ذلك أنّ ما يتخيّله الطالب مرتبط بالواقع الذي يعيش فيه، وهذا الأمر يساعد على تثبيت التعلّم في ذهن الطلّاب مدّة طويلة، ويتطوّر الأمر ليصبح ما يتخيّله الطالب سلوكًا ثابتًا في حياته وممارساته اليوميّة. فالطالب الذي تخيّل نفسه كاتبًا أو معلّمًا أو مسؤولًا سيحرص على التمثّل بالصفة المُتخيَّلة التي من شأنها أن تنمّي شخصيّته وأن تجعله مُتقبَّلًا في المحيط الذي يكون فيه.
- - يزوّد التخيّل الطلّاب بمهارات إبداعيّة تعينهم على حلّ المشكلات، والبحث عن طرق إبداعيّة في مواجهة التحدّيّات واكتشاف أسهل الطرق التي تؤدّي إلى الحلول، فمن شأن الحديث عن العالم في حالة غياب وسائل التواصل الاجتماعيّ أن يدفع الطلّاب إلى ابتكار طرق متنوّعة لتحقيق التواصل بين البشر، وإيجاد طرائق مختلفة للكشف عن الأمراض فيما لو غابت أجهزة التصوير الحديثة لأعضاء الجسم، بالإضافة إلى أنّ تخيّل حصول تطوّر إضافيّ في تقنيّات العلاج اليوم سيدفع الطلّاب إلى ابتكار آليّات جديدة لتشخيص الأمراض وعلاجها.
- - المتعة في التعلّم، فالتخيّل يجعل التعلّم قريبًا ممّا يفضّله الطلّاب ويلائم احتياجاتهم وينسجم مع مهاراتهم.
شروط التخيّل التعلّميّ
ثمّة شروط مهمّة يجب أن تتوفّر في التخيّل كي يحقّق أهدافه في التعلّم، تتمثّل في النقاط الآتية:
- - أن يتمّ التخيّل في مكان هادئ بعيد عن الضوضاء أو الضجيج.
- - أن يشمل جميع الطلّاب، إذ سيكون من غير المفيد أن يُطلَب من الطالب ممارسة التخيّل في الوقت الذي يُشرَح فيه الدرس، أو تُنجَز فيه مهمّة جماعيّة.
- - أن يخصّص المعلّم الوقت الكافي للاستماع إلى نتائج تخيّل الطلّاب، إذ لا فائدة من بقاء ما تخيّله الطالب في ذهنه إذا لم يخبر به أحدًا.
- - أن يرتبط التخيّل بتعلّم الطلّاب ودرسهم، ولا بأس من أن يقدّم المعلّم توجيهات وإرشادات أثناء تخيّل الطلّاب أو عند الاستماع إلى تخيّلاتهم. ولتعظيم الفائدة يكون على المعلّم تأدية تخيّلات أمام طلّابه، ليكون قدوة لهم في تحقيق نتائج التخيّل ومناقشتها معهم، ويمكن السماح للطلّاب بإغماض أعينهم، وحثّهم على تدريب أنفسهم على تصفية الذهن وتركيزه على موضوع التخيّل.
- - أن يحذر المعلّم من السخرية من تخيّلات طلّابه، وألّا يسمح بتنمّر بعض الطلّاب على ما يسمعونه من تخيّلات زملائهم، فالفروق الفرديّة في التعبير والتأمّل بين الطلّاب ستظهر عندما يعلن كلّ واحد منهم تخيّلاته، ولا شكّ أنّ تلقّي التخيّلات بالسخرية والضحك يؤدّي إلى نتائج عكسيّة.
تحدّيّات متوقّعة
من أولى التحدّيّات التي يمكن أن يواجهها المعلّم عدم تمكّنه من إدارة غرفته الصفّيّة، حيث ينظر الطلّاب إلى وقت التخيّل على أنّه وقت للراحة والتخلّص من المهمّات المرتبطة بالدرس، إثر غياب تركيز المعلّم وانتباهه. لذلك، فإنّ على المعلّم تدريب نفسه واكتساب مهارات ذات علاقة بإدارة التعلّم في الغرفة الصفّيّة.
يعدّ الوقت عنصرًا آخر قد يمنع إجراء التخيّل الفعّال، إذ يرى بعض المعلّمين أنّ نشاط التخيّل يضيع وقت الحصّة. لذلك، لا بدّ من تغيير قناعات المعلّمين أوّلًا حول أهميّة التخيّل ودوره في تحسين التعلّم، وأثره في تحفيز الطلّاب على المشاركة والتحدّث بالتزامن مع توفير الوقت الكافي لتنفيذه، وجعل الطلّاب يشعرون بأثره وقيمته في تعلّمهم بتخصيص مساحات كافية لعرض تخيّلاتهم، والتخطيط لإدخال هذه الممارسة ضمن ممارسات المعلّمين التعليميّة.