مقدّمة
نعتقد أنّ تغييرًا جذريًّا حدث في العقود السابقة لدى الجيل الجديد من الطلّاب، ولا سيّما المراهقين منهم، حيث أصبحوا أوفر معرفة بالعالم من حولهم، وواعين للعديد من المشكلات والأمور التي نواجهها جميعًا، وأشدّ اتصالًا بالأنباء والأخبار العالميّة وببعضهم بعضًا وبمناهجهم التربويّة، كما يظهر أنّ الضغوط المدرسيّة وواجباتها لا تتوقّف بانتهاء الدوام المدرسيّ، بل تتعدّاه إلى أبعد من ذلك. في الواقع، نجد أنّ الكثير من الأهالي يحاولون جاهدين أن يشكّلوا البيئة التي تدفع أولادهم إلى النجاح، ويضعون التوقّعات الرفيعة لأطفالهم، والتي تكون أحيانًا صعبة المنال.
من هنا، نجد مصطلح "الرفاه" أو العافية الشموليّة منتشرًا في وقتنا الحاضر في مدارسنا، وقد أصبح يتردّد على أسماعنا باستمرار في الدوائر التربويّة. فتُرى، ما سبب الاهتمام به؟ وهل المصطلح مجرّد كلمة نظريّة رنّانة وشائعة، أم هو عنصر حقيقيّ وأساسيّ لعمليّتي التعلّم والتعليم؟
يحاول هذا المقال الإجابة على هذه الأسئلة وفق تأمّلات حول واقع الرفاه والعافية الشموليّة في المدارس، وما يدفع التربويّين إلى الاهتمام به وما يواجهونه من تحدّيات لتطبيقه، والحلّ الذي يمكن أن يُتجاوَز به بعض التحدّيات، ودور المرشد في تحقيق ذلك.
واقع تراجع الصحّة النفسيّة لدى الجيل الجديد
يصعب، في كثير من الحالات، السماح للأطفال باللعب في بيئة خارجيّة في الطبيعة كما كنّا نفعل وكما كان يفعل أسلافنا من الأجيال السابقة، ولا يشمل ذلك بالتأكيد الألعاب الرياضيّة المُنظَّمة، والتي بدورها وبقوانينها الصارمة تكون نفسها أحيانًا مصدر التوتّر لدى الأطفال.
هناك عامل آخر يبدو أنّه يؤثِّر أيضًا في صحّة الأطفال النفسيّة والاجتماعيّة والعاطفيّة، يتمثّل في ظاهرة التنمّر التي سُلِّط الضوء عليها في العشرين سنة الأخيرة. وهناك من يعتقد أنّ هذه الظاهرة قد نالت اهتمامًا أكثر ممّا ينبغي، ولكن هناك دراسات أكّدت على أنّ التنمّر يُشكِّل مشكلة عويصة وخطيرة وجديرة بالاهتمام. وهناك العديد من الدراسات التي توثِّق الحالات المرتفعة للتنمّر في المدارس، ومن بينها دراسة لفتت انتباهي (Fleming & Jacobsen, 2010)، حيث ركّزت على عدّة بلدان عربيّة وشرق أوسطيّة، سُئل فيها طلّاب مدارس في الإمارات المتّحدة والأردن ولبنان وعُمان والمغرب إذا كانوا قد تعرضّوا للتنمّر في مدارسهم خلال فترة محدّدة، وكانت "نعم" إجابة واحد من بين كلّ ثلاثة طلّاب.
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعيّ هي الأخرى سبيلًا للتنمّر على الأطفال ومصدرًا للقلق، وهذا النوع من التنمّر كثيرًا ما يحدث دون علم أو تدخّل الأهالي أو المربّيين حتّى يُشتكَى منه. وإذا أخذنا بعين الاعتبار حقائق إحصائيّة أخرى، كارتفاع حالات الانفصال والطلاق والتحدّيات الاقتصاديّة وغير ذلك مثل جائحة كوفيد 19، فلا غرابة أن نكتشف بأنّ أطفالنا الآن يعانون من الضغوط والتوتّرات أكثر ممّا كانت تعاني منها الأجيال السابقة، ولا ينعمون بالصحّة النفسيّة ذاتها التي كانت تنعم بها الأجيال السابقة كذلك.
أثر القلق والتوتّر في تراجع الصحّة النفسيّة المدرسيّة
أستطيع أن أؤكِّد، انطلاقًا من ممارستي مهنة الإرشاد والصحّة النفسيّة للطلبة، على الزيادة المتواصلة، التي رأيناها في السنوات الأخيرة، في أعداد الأطفال والأهالي الذين يطلبون المشورة والمساعدة لأطفالهم بسبب الضغوط الاجتماعيّة والعاطفيّة والنفسيّة التي يعانون منها، والتي تختلف أشكالها، فقد تكون قلقًا من الامتحانات أو قلقًا عامًّا أو نقصًا في الدافعيّة أو الكآبة أو غير ذلك من الضغوط. غير أنّ العامل الوحيد المشترك بين هذه الشكاوى هو اعتبارها معيقة لأداء الطلبة الأكاديميّ، فما صحّة ذلك؟
بعض التوتّر قد ينفع الطفل، أو على الأقلّ لا يؤذيه، فالتوتّر الناتج عن التحدّيات أو التنافس البنّاء قد يكون حافزًا لتحسين الأداء في مجال ما، سواءً أكان أكاديميًّا أم جسديًّا أم غير ذلك، ولكنّ شدّة التوتّر أو امتداده لفترة طويلة قد يصبح مؤذيًا جدًّا. هناك دراسة وجدت أنّ التعرّض للضغط والتوتّر بشكل متواصل يحدّ من تطوّر الدماغ، وقد يؤدّي إلى تقلّص جزء منه (Sapolsky, 1990)، وهذا الجزء هو المسؤول عن تخزين الذاكرة، إذ يؤثّر تقلّصه تأثيرًا سلبيًّا ومباشرًا في قدرة الطفل على التعلّم، والأسوأ من ذلك أنّ التوتّر طويل الأمد يعوق قدرة الجسد على إنتاج البروتين، وبالإضافة إلى المضارّ الصحّيّة، فهو يكبح نموّ الدماغ وقدرته على التعلّم.
هناك علاقة مباشرة وواضحة إذًا بين الضغط النفسيّ المزمن والتراجع في التعلّم والأداء الأكاديميّ، حيث إنّ الطلبة الذين يواجهون مشكلات أكاديميّة أحيانًا هم من يتعرّضون بانتظام للتنمّر، أو يعانون من مشكلات عائليّة في بيوتهم، أو لا يستطيعون التأقلم مع أقرانهم، أو يواجهون صعوبات في التعلّم لم يتمّ تشخيصها بعد. في الوقت نفسه، هناك دراسات واضحة تشير إلى أنّ المستوى العالي للصحّة النفسيّة يفضي إلى التعلّم الجيّد.
كيف يمكن تجاوز معوّقات الرفاه والعافية الشموليّة في المدارس؟
قد نجد في مختلف المدارس أعدادًا من الأفراد ذوي الطبيعة المرنة من الناحية الاجتماعيّة والعاطفيّة، فلا يهابون من أوضاع قد يجدها غيرهم ذات تحدّ. فما الذي يجعل هؤلاء أقدر على مواجهة التحدّيات من غيرهم من الطلّاب؟
تلعب الوراثة بلا شكّ دورًا في هذا التفاوت في المرونة (Resilience)، بالإضافة إلى عدّة عوامل أخرى تخرج عن نطاق المدرسة. قد تضمّ هذه العوامل تحدّيات عائليّة، تقترن بمدى توافر أو غياب علاقات آمنة وداعمة مع أفراد العائلة أو الأصدقاء. لكن يوجد عوامل ومؤثّرات أخرى يمكن التعامل معها داخل المدرسة، فهناك مهارات اجتماعيّة وعاطفيّة قابلة للتعليم والتعلّم، تمكّن الفرد وتعطيه القدرة على التعامل مع نطاق واسع من المشكلات والتحدّيات.
إنّ أحدث ما يقترحه علم الأعصاب هو أنّ شخصيّة المدرّسين وتصرّفاتهم وأسلوبهم والتناغم العاطفيّ المكوّن بينهم وطلبتهم هي أكثر الأمور تأثيرًا في تعلّم الطلّاب، إذ لهذه العوامل تأثير قويّ في قدرة الطالب على التعلّم تفوق تأثير محتوى المادّة الدراسيّة نفسها. كما توحي المعطيات أنّ هذه العوامل تنمّي في الطلبة الذكاء العاطفيّ وتحسّن لديهم مهارة التنظيم، ممّا يرتقي بقدراتهم التعلّميّة وصحّتهم النفسيّة كذلك.
إنّ التناغم العاطفيّ، وفق علم الأعصاب، وتشجيع المعلّم ومساندته عند موازنته مع موضوعات دراسيّة شيّقة، تكون جميعها مزيجًا صائبًا من العمليّات الكيميائيّة في الدماغ لتحفيز التعلّم (Huang et al., 1999; Kang & Schuman, 1995). وما يجدر ذكره أنّ هذا التناغم بين المعلّم والطلبة ليس "قيمة مضافة"، ولكنّه مطلب أساسيّ للعمليّة التعلّميّة، ولا سيّما عند التعامل مع الطلبة الذين يعانون من تحدّيات أكاديميّة أو اجتماعيّة أو عاطفيّة.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ المربِّي الذي يتمتّع بالمهارات والتقنيّات اللازمة يحتاج أيضًا إلى الشعور بالدافعيّة والإلهام ليستطيع إعطاء الحصّة بشكل فاعل. يقودنا هذا إلى أهمّيّة تحقيق الصحّة النفسيّة والعافية الشموليّة للمعلّمين وضرورة استخدام السياسات والتطبيقات التي تدعم الكادر التعليميّ بأكمله.
قد يستحيل، بالنسبة إلى الطلبة، التنبّؤ والتخطيط لمواجهة التحدّيات التي قد تواجه طفلًا ما، والتي قد تؤذي صحّته النفسيّة أو الاجتماعيّة وتعيق تعلّمه، ولكنّ الأبحاث العلميّة أظهرت وجود مهارات يستطيع الطفل بتعلّمها أن يتعامل مع التحدّيات التي لا بدّ أن تواجهه في حياته. تساعد هذه المهارات على تمكين الأطفال من فهم مشاعرهم وإدارتها، وتطوير مهارة التعاطف، بالإضافة الى بناء علاقات آمنة وداعمة، كما تساعدهم على توظيف جميع أجزاء الدماغ توظيفًا متناغمًا لتحسين صحّتهم النفسيّة ومرونتهم، فتسمح بذلك للدماغ بالنموّ والتطوّر بدعم قابليّته للتعلّم.
بناءً على ما سبق، أرى أنّه من الأهمّيّة بمكان أن يباشر الطلبة بأخذ دروس مخصّصة للمهارات الاجتماعيّة والعاطفيّة منذ الصفوف الأولى، أي من الروضة، ولغاية المرحلة المتوسّطة، وحتّى بعد ذلك.
أيّ دور للمرشد في تحقيق الرفاه والعافية الشموليّة في المدارس؟
يجب ألّا ننسى وجود المرشدين في المدارس وأهمّيّة الدور الذي عليهم تأديته. يتوجّب على المرشد، من الناحية النظريّة، أن يعمل على مساعدة الطلبة لتحقيق الصحّة النفسيّة والاجتماعيّة لديهم والحفاظ عليها، ولكن مع الأسف، نجد في العديد من المدارس شيئًا من التقاعس في ما يتّصل بهذا الأمر، حيث يكون دور المرشد مهمّشًا ولا يتجاوز بعض الزيارات العشوائيّة للطلبة، بل يقتصر دوره في بعض الأحيان على تقديم بعض الحصص تقديمًا منعزلًا دون أن تقع ضمن مخطّط أوسع وأشمل في المدرسة. نرى كذلك أنّ بعض المدارس تعتقد بأنّ دور المرشد يقتصر على تغطية الحصص عند غياب بعض المعلّمين.
بالإضافة إلى ذلك، يرتبط دور المرشد في العديد من المدارس بفريق الانضباط المدرسيّ، ومع أنّ الطلبة يلزمهم أحيانًا كلّ من الانضباط والإرشاد، إلّا أنّه لا يجوز ربطهما ببعضهما، فلكلّ منهما أسلوب يختلف تمامّا في تعديل سلوك الأطفال. على المرشدين السعي إلى تطبيق نهج واسع وشامل لتحقيق الرفاه والعافية الشموليّة في المدارس، من أجل إجراء تقييم متواصل للاحتياجات العاطفيّة والاجتماعيّة في المدرسة، واقتراح طرق لتطوير مستوى الرفاه في مجتمع المدرسة كلّه، كما ينبغي وضع سياسات وإجراءات ومعايير ومهمّات وظيفيّة واضحة لتوجيه عمل المرشد. في الحقيقة، يجب أن يلعب المرشد دورًا ضمن الفرق الأساسيّة في المدرسة، وأن يُستشار في معظم القرارات المدرسيّة المهمّة على الأقلّ.
خاتمة
بناءً على ما تقدّم، نجد أنّ النهج الشموليّ لدعم العافية والصحّة النفسيّة يجب أن يتضمّن آليّة للمراقبة والتقييم والتطوير المستمرّ في المدارس، فهذا النظام يجب أن يحتوي على استراتيجيّات لتوفير المعلومات، وبناء المهارات للمدرّسين والأهالي، من أجل مساعدتهم على تلبية احتياجات الطلبة التي تتجاوز الجوانب الأكاديميّة.
في اعتقادي الراسخ أنّه على المدارس أن تتبنّى تطبيق السياسات التي صُمِّمَت لتأييد الصحّة النفسيّة للطلبة والمدرّسين والعمل على تنميتها. بكلمة أخرى، لقد آن الأوان لتبنّي سياسات الرفاه والعافية الشموليّة في المدارس وتطبيقها على المستوى الوطنيّ في جميع أنحاء المنطقة.
مراجع
- Fleming, L. & Jacobsen, K. (2010). Bullying among middle-school students in low- and middle-income countries. Health Promotion International, 25(1), 73-84.
- Huang, Z., Kirkwood, A., Pizzorusso, T., Porciatti, V., Morales, B., Bear, M., Maffeil, L., & Tonegawa, S. (1999). BDNF Regulates the Maturation of Inhibition and the Critical Period of Plasticity in Mouse Visual Cortex. Cell, 6(98), 739-755.
- Kang, H. & Schuman, E. (1995). Long-lasting neurotrophin-induced enhancement of synaptic transmission in the adult hippocampus. Science, 267(5204), 1658-1662.
- Sapolsky, R. M. (1990). Stress in the wild. Scientific American, 262(1), 116-123.