الآن، بعد مرور عام تقريبًا على تطبيق التعليم عن بعد، وها قد أصبح بمقدورنا _إلى حدّ ما_ تقييم هذه التجربة، لعلّه يتبادر إلى أذهاننا جميعًا سؤال بدهيّ عن النتائج الإيجابيّة والسلبيّة لهذا النهج التعليميّ الجديد على المسار التعليميّ للطلّاب، وعلى المعلّمين بصفة خاصّة.
أنقل لكم تجربتي لهذا العام بوصفي معلّمة صفّ لمرحلة الروضة الثالثة، لفئة عمريّة لا تتجاوز ستّ سنوات، إذ كنت مسؤولةً عن "فقّاعتين": فقّاعة تتعلّم حضوريًّا كلّيًّا، وفقّاعة أخرى تتعلّم عن بعد كلّيًّا عبر تطبيق Zoom.
تحدّيات وفرص
على الرغم من أنّ عجلة التعليم لم تتوقّف ليوم واحد، فلا نستطيع أن ننسى التحدّيات والعقبات التي واجهناها، خاصّةً في بداية مشوارنا: الملل والجمود الذي يطغى أحيانًا على العمليّة التعليميّة، وقلّة التفاعل من قبل الأطفال خاصّةً في هذه الفئة العمريّة الصغيرة، وغياب التواصل المباشر بين المعلّم والطالب، وفوق ذلك الانعزال الاجتماعيّ للطالب بسبب عدم خوضه تجارب حقيقيّةً في التعامل الواقعيّ مع الآخرين ومعالجة مشكلاته النفسيّة والاجتماعيّة، وهو ما سيحتاجه في حياته المستقبليّة لاحقًا، إضافةً إلى الكثير من العقبات والتحدّيات الأخرى، التي كان بعضها تقنيًّا، في حين كان بعضها الآخر إنسانيًّا.
على صعيد آخر، في ظلّ التغيير الكبير الذي يسيطر على عالمنا، لا يمكننا أن نغفل عن كون هذا النهج التعليميّ الجديد "التعليم عن بعد" أحد أهمّ الحلول البديلة، وهو فرصة لاستكشاف طرائق جديدة للتواصل والتعلّم والتعاون، وأنّه كان ذا دور كبير فعّال في رفد العمليّة التعليميّة وإغنائها، وفتح آفاق جديدة أمام المعلّمين والطلّاب على حدّ سواء.
محطّات في تجربة شخصيّة
وسط القرارات المدرسيّة الجديدة، وفي ظلّ هذه المتغيّرات الجوهريّة في طبيعة وملامح التعليم، وجدت نفسي أمام مجموعة من التساؤلات المقلقة حول هذه التجربة الجديدة:
كيف يمكن موازنة سير العمليّة التعليميّة بين الفقّاعتين؟ كيف يمكن أن أقوم بتطويع الاستراتيجيّات لتواكب نمطين مختلفين في التعليم؟ وكيف يمكن قياس مدى فاعليّة هذه الاستراتيجيّات وأثرها على المتعلّمين؟ كيف يمكننا تحقيق مخرجات التعلّم ذاتها مع الفقّاعتين؟ كيف يمكن تحسين معايير هذا النهج التعليميّ الجديد، التعليم عن بعد، وأدواته ليحقّق هدفًا مستديمًا للفقّاعة الافتراضيّة؟
تلقّيت العديد من التدريبات، الرسميّة وغير الرسميّة، التي كان لها دور كبير في تشكيل نظرتي للتعليم، إذ أيقنت أنّ التعليم الافتراضيّ له خصوصيّته، وهو لا يعني استنساخ التعليم الحضوريّ كما هو، إنّما تطويعه بما يتناسب مع السياق المنزليّ والعوامل الأخرى.
- بدأت بتسجيل الحصص إلكترونيًّا وأرشفتها، وتحميلها على منصّة Seesaw التفاعليّة للإفادة منها في أيّ وقت، وشعرت أنّ الحصص التي تظهر فيها المعلّمة، وهي تشرح في فيديو بسيط، لاقت تفاعلًا أكبر من الحصص التي تحتوي عرضًا تقديميًّا مصحوبًا بصوت المعلّمة.
- في إحدى الحصص المصوّرة، استخدمت الدمى المتحرّكة، وربطت أسماء تلك الدمى بأسماء الطلّاب في كلا الفقّاعتين، تفاجأت بتفاعل الأطفال إلى حدّ بعيد في هذه الحصّة، لا سيّما الفقّاعة الافتراضيّة، إذ صاروا ينتظرون أسبوعيًّا الحصص المصوّرة، ليعرفوا اسم من ستختار المعلّمة للحصّة المصوّرة القادمة.
- أسست حقيبة الكترونيّة مبسّطةً تتضمّن عددًا من المصادر والعروض المرئيّة والتمارين الإلكترونيّة، بعضها كان على منصّة Wordwall، يحلّها الطالب ويحمّلها على المنصّة التفاعليّة Seesaw.
- خلال الحصّة المباشرة، حرصت على إشراك الأطفال في العمليّة التعليميّة، واستثمار البيئة المنزليّة قدر الإمكان بما يخدم المحتوى التعليميّ، مثلًا: يشارك الأطفال شيئًا موجودًا حولهم يبدأ بحرف معيّن. وفي الرياضيّات، يشاركون لعبةً من ألعابهم فيها شكل ثنائيّ الأبعاد. أجرينا أيضًا تجارب انتقال الضوء خلال الحصّة الافتراضيّة؛ طلبت منهم إحضار أيّ مصدر ضوء موجود حولهم، وإطفاء النور في الغرفة التي يجلسون فيها، ثمّ طبّقنا تجربة انتقال الضوء عبر الأوساط الشفّافة كالماء مثلًا، أو الزجاج، والأوساط نصف الشفّافة كالأوراق، أو أيّ قطعة قماش أو ثياب موجودة حولهم، كذلك الأوساط المعتمة كالورق المقوّى مثلًا، إذ شارك الأطفال خلال هذه التجربة أجسامًا مختلفةً بسيطةً مناسبةً حاضرةً في منازل الجميع. وهذا ما دعم المفهوم والهدف من هذه التجربة لديهم.
مضينا قدمًا، وطبّقنا تجارب الضوء على الأسطح العاكسة فأحضر الأطفال المرايا، ولاحظوا انعكاس الضوء على سقف الغرفة، رغم أنّهم يوجّهونه نحو الأسفل.
- خلال رحلتنا التعليميّة، تطرقنا في الرياضيّات إلى الأشكال الثلاثيّة الأبعاد، فبعد أن تعرّفنا على شكل المكعّب وخصائصه، وبعد أن بحث عنه الأطفال حولهم في بيئتهم المنزليّة وبين ألعابهم، قرّرنا صنع المكعّب خلال الحصّة المباشرة باستخدام أدوات بسيطة كالأعواد والصلصال، وكنت قد أرسلت رسالةً للأهل بتحضير هذه الموادّ للأطفال قبل الحصّة. وصلتني ردود فعل إيجابيّة من الأهل حول هذا النشاط التفاعليّ.
- عملت على تنويع الاستراتيجيّات خلال الحصص التفاعليّة بما يتناسب مع هذه الفئة ومهاراتهم. مثلًا: استراتيجيّة المعلّم الصغير، ولهذه الاستراتيجيّة من دور كبير في صقل شخصيّة الطفل وتعويده على تحمّل المسؤوليّة والجرأة. طبّقت هذه الاستراتيجيّة مع كلا الفقّاعتين، وقدّم طفل من كلّ فقّاعة نفسه بشخصيّة المزارع متنكّرًا بملابس تناسب هذه الشخصيّة، وشاركنا العديد من الثمار الموجودة في مزرعته الصغيرة على طريقته الخاصّة، ليعرفنا خلال ذلك على حرف الأسبوع، وهو حرف "الميم".
تواصلت قبل الحصّة بيومين تقريبًا مع أمّ الطفل الذي يحضر عن بعد، وأخبرتها بالفكرة فأبدت ردّة فعل إيجابيّةً، وأعلمتني باستعدادها للمساعدة، وهيّأت ابنها لذلك بتشجيعه ليحلّ محلّ المعلّمة في هذه الحصّة ويقدّم الحرف على طريقته، تحدّثنا معًا عن موضوع الحصّة، وحرف الأسبوع، وتساءلنا: من هو المزارع؟ ماذا يرتدي؟ وماذا يفعل؟ ذكرنا بعض الثمار التي تحوي حرف الميم. بعد كلّ هذه النقاشات شعرت بجاهزيّة الطفل واستعداه ورغبته الحقيقيّة بتقديم هذه التجربة. نالت التجربة إعجاب الأطفال، وكرّرناها مع كلا الفقّاعتين مرّةً أخرى.
- خلال الحصص الإلكترونيّة، أجرينا مسابقات بسيطةً، لما لها من دور في تحفيز الأطفال وحثّهم على البحث، وخلق جوّ من الحماس في الحصص. مثلًا: تخبر المعلّمة الطلبة أن أسرع طالب يحضر ثلاثة أشياء فيها خطّ منكسر يفوز، أو تذكر المعلّمة كلمات، بشرط أن يقفز الأطفال فقط عند سماع صوت حرف معيّن كالفاء، ويستبعد كلّ من يقفز خطأً، ويبقى طالب واحد في نهاية المطاف يفوز بقلب تهديه له المعلّمة.
- شارك طلّاب الفقّاعة الافتراضيّة في الأنشطة المدرسيّة (مثلًا شاركوا في نشاط يوم الشخصيّات بتقمّصهم لشخصيّة قصّتهم المفضّلة، والتنكّر بزيّها، ومشاركتنا القصّة بالحديث عنها عن بعد).
- فيما يخصّ الرحلات، فلا شكّ أنّه لا غنىً عن الرحلات التعليميّة الميدانيّة، ولكن نتيجةً للتحدّيات وظروف المرحلة التي أوقفت الرحلات الميدانيّة للجميع، فقد قمت بتوظيف الرحلات الافتراضيّة في العمليّة التعليميّة مع كلا الفقّاعتين، وكان لها دور داعم في إكساب الأطفال المعلومات والخبرات. ذهبنا خلال وحدة المرافق العامّة في رحلة افتراضيّة إلى متحف قطر الإسلاميّ، ومتحف قطر الوطنيّ، وزرنا حديقة الحيوان. أمّا عن الكيفيّة؛ فقد توجّهت إلى تلك المرافق في جولة فرديّة قبل الحصص، وتقمّصت دور مذيعة برنامج أطفال، وصوّرت الفيديوهات، وعلّقت عليها، بالإضافة إلى توجيه الأسئلة المباشرة للأطفال داخل الفيديو، ثمّ شاركت الفيديو معهم خلال الحصص المباشرة، وأدرت نقاشًا معهم حوله. كذلك، حملته على المنصّة ليكون متاحًا لهم في أيّ وقت.
خلاصة
كانت المصادر الإلكترونيّة من الملامح العامّة للنهج التعليميّ الجديد، وتميّز بأنشطة مختلفة، وكون هذه التجربة جديدةً، فقد احتاجت منّا جهدًا مضاعفًا للتأسيس لها من جمع للمصادر، وتوليف للأنشطة وبحث عنها، واختيار المناسب منها، وتعديلها، وتقويمها بما يتناسب مع هذا السياق الجديد والفئة العمريّة.
وعلى الرغم من حاجتنا لأنماط تعليمة جديدة تواكب جميع التطوّرات، أنماط تنتقل بنا من الخيار الواحد إلى الخيارات المتعدّدة، يبقى التعليم الحضوريّ الطريقة الأكثر فاعليّةً؛ فالتعليم لغةً إنسانيّة بحاجة للقاءات حيّة مباشرة، وأيّ أسلوب تعليميّ لا يتوفّر فيه اتّصال مباشر بين الطالب والمعلّم قد يؤثّر على جودة العمليّة التعليميّة، وجودة المحتوى التعليميّ.