تنطلق المدرسة في رؤيتها ورسالتها من رؤية وزارة التربية والتعليم ورسالتها والقيم التي تعدّها جوهريّةً، ومن ذلك أيضًا انبثقت الاستراتيجيّة الوطنيّة لتنمية الموارد البشريّة 2016-2025. كان لا بدّ لبلد كالأردنّ، محدود الموارد، أن يستثمر في موارده البشريّة خلال عمليّة إصلاح للتعليم في ضوء الاقتصاد المعرفيّ. يعدّ النظام التعليميّ في الأردنّ من الأنظمة الممكّنة التي تحظى برعاية ملكيّة سامية، وكان هذا سببًا مباشرًا لتمكّنه -رغم شحّ الموارد- من مواجهة ما طرأ عليه من ضغوطات، خاصّة فيما يتعلّق باستيعاب الطلبة اللاجئين، وتوفير التعليم اللازم لهم، مع مسؤوليّتها بتقديم تعليم ذي جودة عالية. كانت الأزمة السوريّة هي الأكثر تأثيرًا على المدارس في الأردنّ من شمالها إلى جنوبها، وظهرت التحدّيات الكثيرة، كتفعيل التفويج في "نظام الفترتين" في المدارس الأساسيّة (تخصّص الفترة الصباحيّة للطلبة الأردنيّين، والفترة المسائيّة للطلبة السوريّين)، وإقرار أسس قبول الطلبة، وتدقيق الوثائق الرسميّة لتسجيل الطلبة، وطرح خيارات التعليم النظاميّ وغير النظاميّ لاستيعاب الأعمار كافّةً في إطار حملة "التعلّم للجميع".
على مستوى المدرسة التي تعمل بنظام الفترتين، كانت التحدّيات أكثر اختصاصًا، فبالإضافة إلى ما سلف من تحدّيات، برزت ظاهرة العنف بين الطلبة من الفترتين، وعدم الرضا من أولياء أمر الطلبة الأردنيّين، وعدم تقبّل التغيير الذي طرأ على المدرسة. وهذه المقالة تحاول الإجابة عن سؤال: كيف استطعنا مواجهة تلك التحدّيات؟
الممارسات الفاعلة
نعلم أنّ الركائز الأساسيّة في عمليّة التعلّم تتمثّل في دائرة مركزها الطالب، الذي هو محور العمليّة التعليميّة التعلّميّة، ثمّ الدائرة الأكبر وهي المعلّم وما يرتبط به من ممارسات من تصميم المهمّات التعليميّة، والمنهاج، والوسائل، والأساليب، والأنشطة، وتقويم تعلّم الطلبة، والتنمية المهنيّة. ثمّ تأتي الدائرة الأكثر اتّساعًا، أي أولياء أمر الطلبة والمجتمع المحلّيّ الداعم لعمليّة التعلّم في المدرسة. بهذا النسق تبنّت المدرسة مجموعةً من الممارسات الفاعلة لمواجهة التحدّيات السابق ذكرها:
التعلّم التشاركي
لقد أثبتت الدراسات التربويّة أنّ الطلبة عندما يعملون معًا، يتعلّمون معًا من خلال العلاقات الاجتماعيّة التي تنشأ بينهم والمهمّات التدريسيّة التي تبنيها المعلّمة لتتلاءم مع الخصائص النمائيّة لمرحلتهم العمريّة. وبالحديث عن مسألة العنف التي نشأت بين طلبة الفترتين، فقد امتدّ العمل التشاركيّ ليشمل صفوفًا من طلبة الفترتين (الأردنيّين والسوريّين ذكورًا وإناثًا) من الفئة العمريّة نفسها، يعملون معًا في مجموعة من الأنشطة تعدّها المعلّمات لتكون مبنيّةً على مبدأ (التعلّم عن طريق اللعب)، وترتكز المهمّة التعليميّة منها على مبدأ التشاركيّة في العمل، جنبًا إلى جنب مع ما تقدّمه المرشدة التربويّة والمعلّمات من الدعم النفسيّ-الاجتماعيّ الذي كان متطلّبًا رئيسًا للتعامل مع الطلبة السوريّين القادمين من الحرب.
لوحظت بعد تطبيق الأنشطة بمدّة وجيزة الرغبةُ عند الطلبة من الفترتين للحضور أيّام السبت، والاندماج الفاعل في الأنشطة، وهو ما أدّى إلى انخفاض واضح في درجة العنف بين الطلبة الأردنيّين والسوريّين، وتقبّلهم بعضهم بعضًا. اقترحت المرشدة التربويّة والمعلّمات العمل على مواضيع تخصّ البيئة المدرسيّة، والحديقة الداخليّة، وتدوير الورق، وخرجن مع الطلبة بمشاريع عزّزت الانتماء المدرسيّ لدى الطلبة المشاركين.
هذه المشاريع، وغيرها من المشاريع الأكاديميّة، مثل: حصص التقوية، والمبادرات الطلّابيّة، ونادي الموسيقا، ونادي كرة القدم، ونادي كرة السلّة، ونادي الشطرنج، دعمت بناء بيئة مدرسيّة تمتاز بالتشاركيّة والعمل الجادّ والتصميم والانضباط والتأمّل. ولم يقف الموضوع عند هذا الحدّ، بل تجاوزه لتصبح المدرسة من المدارس المميّزة على مستوى اللواء، وعلى مستوى المملكة في إحراز مراكز متقدّمة في المسابقات المدرسيّة. لدينا الآن فريق واحد فقط نصفه من الطلبة الأردنيّين والنصف الآخر من الطلبة السوريّين يشارك باسم المدرسة، فيفرح بالفوز ويتعلّم من الخسارة.
مع كلّ ما سبق ذكره، تبقّى الدائرة الأوسع (المعلّم) هي الأساس، فكيف استطاعت المعلّمات أن يعملن معًا في ظلّ هذه الظروف؟
مجتمعات التعلّم المهنيّة
تُبنى مجتمعات التعلّم المهنيّة على رؤية مشتركة ينبثق عنها نتاجات تخصّصيّة، قد تتعلّق بالمبحث أو بجزء خاصّ منه، وقد تتشكّل بناءً على التخصّص، أو الفئة المستهدفة، أو معايير أخرى تتعلّق بتحقيق النتاج الذي من أجله أسّس مجتمع التعلّم المهنيّ. تُعدّ هذه المجتمعات أداة تطوير فاعلةً في المدرسة يمكن من خلالها الخروج بحلول إبداعيّة لمشكلات مشتركة على مستوى المبحث، أو التخصّص، أو الفئة العمريّة المستهدفة، أو النتاج التعلّميّ. عندما ظهرت مشكلة القلق من تأثّر جودة التعليم المقدّم للطلبة بفعل استحداث "دوام الفترتين"، الذي يعدّ إرباكًا لنظام المدرسة المعتاد، أُسّست مجتمعات تعلّم مهنيّة تخصّصيّة:
النوع الأوّل كان على مستوى التخصّص، واشتمل على جمع معلّمات الصفوف الثلاثة الأولى من الفترتين للوقوف على مشكلة مثل القراءة والكتابة عند الطلبة. ضمّ هذا النوع المباحث الأساسيّة الأربعة (الرياضيّات، والعلوم، واللغة الإنجليزيّة، واللغة العربيّة)، إذ قام كلّ منها على محاولة الخروج بحلّ للضعف في المفاهيم البنائيّة في المبحث.
أمّا النوع الثاني من مجتمعات التعلّم المهنيّة فقد شمل معلّمات التخصّصات الأدبيّة والدينيّة والمهنيّة والفنّيّة والرياضيّة، وعملن فيه مع المرشدة التربويّة في المدرسة لمواجهة مشكلات: العنف، وتقبّل الآخر، والصحّة النفسيّة، ومراحل النموّ. وذلك عن طريق الأنشطة اللّاصفيّة، التي كانت تنفذ عن طريق العمل التشاركيّ للطلبة من الفترتين كما أسلفنا.
إنّ الوقت الذي استثمر في بناء مجتمعات التعلّم المهنيّة في المدرسة، يعدّ وقتًا نوعيًّا اختصر الكثير من الوقت والجهد الذي كان سيبذل لو عمل الكلّ منفردًا، كان لا بدّ لإدارة المدرسة من أن تجازف بشيء من الجهد لإعداد هذه المنظومة المتكاملة التي تعمل كخليّة نحل. ولا بدّ أن نذكر أنّ هذه الممارسة لم يكن بالإمكان أن تكون بهذه الفاعليّة دون تقديم التدريب اللازم للمعلّمات في التخطيط والتنفيذ والتقويم.
لقد أصبحت مجتمعات التعلّم المهنيّة ثقافةً راسخةً في المدرسة، بعد أن استطاعت المدرسة من خلالها الوقوف على حلول مشتركة ساهمت بأن يُقدَّم التعليم في السياق نفسه للطلبة الأردنيّين والسوريّين على حدّ سواء. إنّنا نقوم ببنائها لمواجهة كلّ جديد: الاختبارات الوطنيّة والدوليّة، المنهاج التفاعليّ لرياض الأطفال، النهوض الوطنيّ وإدارة المرافق المدرسيّة، وغيرها الكثير. أمّا حديثًا -في ضوء جائحة كورونا- كانت فائدتها في دعم تعلّم الطلبة عن طريق مجموعات عمل تستخدم التطبيقات التكنولوجيّة، والمنصّات التعليميّة المتاحة، ونظام إدارة بيانات الطلبة، والتواصل مع أولياء الأمر عن بعد. فكيف استطعنا قبل ذلك أن نجعل أولياء أمر طلبة الفترتين يجدّفون في اتّجاه واحد؟
الاندماج الاجتماعيّ
لا نستطيع أن ننكر الأثر الكبير لمشاركة أولياء الأمر في المدرسة، سواء على الطالب أو في العمليّة التعليميّة التعلّميّة؛ فالمدرسة لا يمكن أن تعمل بمعزل عن أولياء الأمر. وعندما لوحظ أنّ المستضيف والمضيف يعانيان من عدم تقبّل كلّ منهما للآخر، وأنّ هذا سيؤثّر في سمعة المدرسة ومكانتها، وقد يكون سببًا في تراجع المدرسة، وانشغالها بتقريب وجهات النظر، والاجتماعات الطويلة التي لا يحضرها إلّا عدد قليل من أولياء الأمر يمثّل نسبةً لا تكاد تصل 3% من مجتمع المدرسة، كان لا بدّ لإدارة المدرسة من أن تفكّر بطريقة مختلفة! فكان مشروع الاندماج الاجتماعيّ. الفكرة هي إنشاء مجلس أولياء أمر ومعلّمين (من الأردنيّين والسوريّين)، وكما في التعليمات المدرسيّة، يكون له مهمّات محدّدة في دعم تعلّم الطلبة، وتحسين بيئة التعلّم، والمشاركة في اتّخاذ القرار. وهو يختلف عن مجلس أولياء الأمر التقليديّ من جهة مشاركة الجنسيّات الموجودة في المدرسة جميعها في هذا المجلس، ليكون كلّ عضو منتخب منهم حاملًا لهموم من يمثّلهم وتحدّياتهم، ووسيلةً فاعلةً لإيصال صوتهم. ليس هذا فقط، بل ويحقّ للأعضاء جميعهم المشاركة في اتّخاذ القرارات التربويّة الخاصّة بتعلّم الطلبة. مثلًا: جرى التنسيق من خلال هذا المشروع لتبنّي مبادرة القراءة في حصص إشغال الفراغ، إذ نعلم أنّ هذه الحصص تشكّل تحدّيًا لإدارة المدرسة عند غياب المعلّم. وشارك أولياء الأمر والمجتمع المحلّيّ بفاعليّة في إسناد المدرسة أثناء الصيانة في أحد الأعوام الدراسيّة. كما نُفّذت أنشطة عديدة بمشاركة من الأمّهات في الأعمال الإنتاجيّة كالصوف، والأوريجامي (فنّ طيّ الورق)، وأعمال الفسيفساء، والجداريّات.
كان لهذا المشروع أثر كبير في تقبّل أولياء الأمر للتغيير الذي حدث في المدرسة، وفي أنّنا بتّنا نستطيع معًا أن نتجاوز كلّ صعب، كما جعل من المجتمع المحلّيّ ومؤسّساته منفذًا لنشر قصص النجاح التي حقّقها الطلبة والمعلّمات، والمكانة التي أصبحت تحتلّها المدرسة في المنطقة.
خاتمة
لا يستطيع مدير المدرسة أن يقف مكتوف اليدين عند اكتشافه التحدّيات، وهو يستطيع بالممارسات الفاعلة أن يُحدث تغييرًا حقيقيًّا! تصدّرت الممارسات التربويّة الممنهجة، وعلى رأسها العمل التشاركيّ، وتنمية مجتمعات التعلّم المهنيّة، ومشروع الاندماج الاجتماعيّ التغييرَ الذي شهدته المدرسة نحو التقدّم والرفاه والازدهار. بُنيت خلال تنفيذ هذه الممارسات سلسلةٌ من الأنشطة اللّاصفيّة القائمة على استراتيجيّة العمل التشاركيّ، ومجتمع تعلّم مهنيّ فاعل من المعلّمات اللاتي يدرّسن في الفترتين، تخلّله اندماج اجتماعيّ بين أولياء الأمر والمجتمع المحلّيّ من الأردنيّين والسوريّين وغيرهم على حدّ سواء.
امتازت الأنشطة بالتشاركيّة والانضباط والتصميم والتأمّل، وتبلورت هذه المرتكزات لتكون ثقافةً راسخةً في المدرسة، ساعدت فيما بعد في تبنّي كثير من المشاريع بالمنهجيّة نفسها. كلّ ذلك من أجل تحسين تعلّم الطلبة، وتمكين مجتمع المدرسة لمواجهة التحدّيات المستقبليّة التي من الصعب توقّعها، كما في جائحة كورونا.