مقدّمة
يمرّ الطفل في عدّة مراحل إثر سنوات نموّه الأولى، ويكون لديه القدرة على أداء مهارات معيّنة في فترات محدّدة منها، ولكن، هناك بعض الأطفال الذين قد يواجهون صعوبات وتحدّيات تؤثّر في عمليّة نموّهم، وفي حياتهم الاجتماعيّة والأكاديميّة. لذا، يكون هؤلاء بأمسّ الحاجة إلى تحديد المشكلة التي يعانون منها، وإلى تقديم المساعدة لهم في أسرع وقت ممكن، غير أنّ بعض الآباء والأمّهات يجدون صعوبة في التعامل مع التحدّيات التي يواجهها أبناؤهم، أو في تحديد الخطوة التي يتوجّب عليهم اتّخاذها. من هنا، تظهر فكرة التدخّل المبكّر التي تقتضي الاستعانة بأخصّائيّين في عدّة مجالات، لتقييم حالة الطفل وتشخيصها، وتوجيه الأهل إلى ما يحتاجه.
من أجل ذلك، انطلاقًا من الإيمان المطلق بمبدأ التدخّل المبكّر، وبأهمّيّة تقبّل الآخر، وبالأمل في مستقبل أفضل لأطفالنا، نهدف من هذا المقال إلى عرض تجربة أنموذجيّة تمّ تطبيقها في قسم الروضة في مدرسة الأهليّة والمطران حول برنامج التدخّل المبكّر، لما حقّقه من نتائج إيجابيّة تصبّ في مصلحة الأطفال وذويهم، فنعرض فيه أنموذج التجربة وفق تفصيل خطوات عمل البرنامج وركائزه ومسار تطوّره.
التدخّل المبكّر وأسس البرنامج
يعنى التدخّل المبكّر بتقديم الدعم للأطفال الذي يعانون، في السنوات الثلاثة الأولى من عمرهم، من تأخّر في النموّ، أو من مشكلة صحّيّة، أو الذين لديهم احتياجات خاصّة قد تؤثّر في قدرتهم على التعلّم، كما يقدّم بعض الخدمات للأطفال وعائلاتهم. يساعد التدخّل المبكّر الأطفال على تجاوز التحدّيات بتعزيز بعض المهارات لديهم، من مثل: المهارات الإدراكيّة (التفكير وحلّ المشكلات)، والمهارات التواصليّة (الاستماع والاستيعاب والتعبير)، والمهارات الحركيّة والحسّيّة (المشي والنظر والسمع)، والمهارات العاطفيّة والاجتماعيّة (اللعب وفهم المشاعر وبناء الصداقات)، والمهارات الحياتيّة اليوميّة (الأكل والاستحمام وارتداء الملابس). يسهم ذلك في تقليل الفجوة العمريّة التي تحصل عندما يتأخّر نموّ الطفل عن أقرانه، إذ إنّ عدم متابعة الطفل في مراحله الأولى قد يفاقم المشكلة ويضاعف حدّتها.
من هذا المنطلق، تمّ تأسيس مركز الكاشف عام 1995، حيث بدأ بتقديم خدمات المساندة في المدرسة لمساعدة كلّ طفل على تحقيق أفضل ما لديه، وبدأ العمل على توفير خدمات العناية بالتواصل ضمن خدمات مركز الكاشف، بمساعدة أخصّائيّ نطق يُعنَى بالكشف عن أطفال الروضة الذين يعانون من تأخّر أو اضطراب نطق ولغة، وتقديم المساعدة اللازمة لهم، من أجل تجنّب التحدّيات التي قد يتعرّض الأطفال إليها في مسيرتهم الأكاديميّة وحياتهم الاجتماعيّة.
خطوات البرنامج وكيفيّة تحقيقها
تتمثّل الخطوة الأولى في البرنامج بإجراء فحص نظر وتخطيط سمع لكلّ طفل قبل دخوله إلى الروضة، بهدف الكشف عن أيّ مشكلة يواجهها. إذا تمّ التحقّق من وجود مشكلة، يُتابَع الطفل دوريًّا، وتُنفَّذ الإجراءات والتوصيات اللازمة لمساندته، وتوفير الدعم اللازم له من المعلّمين، ثمّ يتمّ التواصل مع الأهل والتنسيق معهم لأجل متابعة حالته.
بعد ذلك، يراقب الأخصّائيّ الأطفال داخل الغرف الصفّيّة، ويطلب من المعلّمين تعبئة أداة الكشف الخاصّة بهم، بناءً على مراقبتهم الدقيقة لسلوك طلّابهم خلال الشهرين الأوّلين من العام الدراسيّ، ويقيّم الأخصّائيّ مهارات الأطفال الذين قد تمّ تشخيصهم خارج المدرسة، والأطفال الذين بدت عليهم علامات تأخّر مثيرة للقلق، أو الأطفال الذين بدا أنّهم يعانون من بعض المشكلات.
في الخطوة الثالثة، بعد الاطّلاع على نتائج أداة الكشف من المعلّمين، يُفصَل الأطفال إلى فئتين:
فئة الأطفال الذين اجتازوا أداة الكشف، وفئة الأطفال الذين لم يجتازوها، أولئك الذين يحتاجون إلى تقييم دقيق، يشمل جميع الجوانب التي تتطلّب دعمًا، ومن ثمّ، يُعقَد اجتماع مع المعلّمين والأهل لتحديد طريقة التدخّل الأمثل، ومتابعة إجراءاتها خلال العام الدراسيّ.
تظهر الحاجة، في بعض الحالات، ورغم المتابعة الشاملة في المدرسة، إلى تحويل الطفل إلى جهات خارجيّة لإجراء تقييم شامل وتشخيصه، بغية الوصول إلى الخطوة الأهمّ المتمثّلة في متابعة الجلسات العلاجيّة، حيث يكون الطفل بحاجة إلى تدخّل مكثّف لوقت أطول، ومتابعة مستمرّة تُضائِل الفجوة العمريّة لديه، أو تعينه على اكتساب المهارات التي يحتاج إليها ليحقّق التّقدّم الذي نأمل.
يقتضي تحقيق هذه الخطوات تدريب المعلّمين ومساعدتهم على مراقبة الأطفال وكيفيّة التعامل معهم حسب احتياجاتهم ومتطلّباتهم، فضلًا عن توعيتهم بطبيعة المشكلة التي يعاني منها كلّ طفل قبل تفاقمها، وتوضيح الصعوبات أو العوامل المتعلّقة بالتحدّي الذي يواجهها الأطفال، من أجل تحقيق مبدأ الدمج، ومراعاة الاحتياجات الفرديّة بأفضل ما يمكن. بالإضافة إلى تقديم ورشات عمل للأهل، يتمّ فيها توضيح آليّة عمل البرنامج وأهمّيّة التدخّل المبكّر، وتعريفهم إلى الجوانب التي نساعد الطفل فيها، بناءً على المُتوقَّع منه في مرحلته العمريّة. يقود ذلك إلى ضرورة مساعدة الأطفال داخل الغرف الصفّيّة بشكل فرديّ أو جماعيّ، حسب ما يقتضيه الموقف، فيساند الأخصّائيّ معلّم الصفّ والمعلّم المساند، ويزوّدهما بالاستراتيجيّات والنصائح الدوريّة، للإسهام في دمج الطفل مع أقرانه.
ركائز البرنامج: التواصل واللغة
يواجه الأطفال الذين يعانون من اضطرابات لغويّة من صعوبة في التواصل الاجتماعيّ، نظرًا لما بين اللغة والتواصل من علاقة، فنحن نتواصل لنعبّر عن احتياجاتنا وأفكارنا ومشاعرنا، ولنشارك الآخرين بذلك ويشاركونا فيه، مستخدمين إيماءات وحركات جسديّة. لذلك يتطلّب التواصل توفّر مهارات أساسيّة، كالاستماع والانتباه والتبصّر، وتطوير مهارات أخرى، كاللعب بمختلف أشكاله منذ الطفولة المبكّرة، من أجل تنمية مهارات الفهم والاستيعاب، واكتساب مفردات لغويّة مختلفة، ليكون الطفل قادرًا في ما بعد على التعبير عن ذاته بما ناله من تلك اللغة ومفرداتها، فيؤلّف الجمل ويتفاعل مع الآخرين، ويتقدّم بالجانب اللفظيّ تقدّمًا تدريجيًّا، فيصبح قادرًا على إنتاج الأصوات الكلاميّة بشكلها الصحيح، وبوضوح وطلاقة تساعد الطرف الآخر على فهم رسالته.
أمّا اللغة بشكليها، المحكيّة والمكتوبة، فهي الحجر الأساس الذي يتطوّر تدريجيًّا في حياة الطفل منذ ولادته، ليكون قادرًا على التواصل والتعلّم والقراءة والكتابة في ما بعد، وتتضمّن خمسة جوانب رئيسة:
- - الصوتيّات أو الفونولوجيّ، وهو النظام المسؤول عن الأصوات الكلاميّة، ويشمل قواعد دمجها واستخدامها.
- - المفردات والمخزون اللغويّ، أي المصطلحات والمعاني التي تكتسبها وفق السياقات.
- - النحو، وهو علم يُعنى بكيفيّة تركيب الجمل.
- - الصرف، وهو علم يُعنى ببنية الكلمة وصيغتها.
- - مهارات التواصل الاجتماعيّ، وهي القواعد المرتبطة باستخدام اللغة في المحادثات والمواقف الاجتماعيّة.
تحقّق هذه الجوانب الخمسة الأساسيّة استمراريّة اكتساب المهارات العليا من اللغة، مثل الاستنتاج والاستيعاب، وتفسير العبارات المجازيّة. كما أنّ الوعي الفونولوجيّ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقدرة على تطوير مهارات القراءة والكتابة، لما يتضمّنه من استخدام الأصوات عند إنتاج الكلمات.
مسار تطوّر البرنامج
ظهرت نتائج البرنامج بما حصّله الأطفال من تطوّر في عدّة مهارات، حيث رُبِطت الأهداف العلاجيّة الخاصّة بالخبرات الأكاديميّة التي يتعرّضون لها، ما انعكس إيجابًا على تقدّمهم. وقد تطوّر البرنامج وفق آليّات مختلفة تناسب احتياجات الأطفال المستجدّة في كلّ سنة دراسيّة.
ضمّ البرنامج مؤخّرًا أخصّائيّ علاج وظيفيّ، تكمن مهمّته في علاج النطق وفق خدمات التدخّل المبكّر، بدلًا من خدمات العناية بالتواصل التي كانت معتمدة سابقًا. يساعد أخصّائيّ العلاج الوظيفيّ الأشخاص على فعل الوظائف وتعلّم ما يحتاجون إليه في حياتهم، فيقيّم مجالات الحياة كلّها، ويعالج الأشخاص الذين يواجهون مشكلات فيها، سواءً أكانت مشكلات جسديّة، أو عصبيّة، أو حسّيّة، أو إدراكيّة، أو نفسيّة، أو اجتماعيّة، من خلال التركيز على تطوير قدراتهم وتحسينها. يستند ذلك إلى النظر في البيئة المحيطة للشخص بشكل عامّ، والعمل على إزالة العوائق الموجودة فيها أو تعديلها، بالإضافة إلى مساعدته على تحقيق الاستقلاليّة في حياته عامّة.
خاتمة
في النهاية، يمكن القول إنّ نجاح البرنامج وتطوّره ناجم عن إيمان القائمين عليه بتميّز كلّ طفل، وعن تركيزهم على نقاط القوّة لدى الأطفال قبل نقاط الضعف، لما في ذلك من تخطيط طويل الأمد يهدف إلى إكسابهم المهارات اللازمة لمسيرتهم الأكاديميّة وحياتهم الاجتماعيّة. وبعد، فمن الاهمّيّة بمكان، إدراك المشكلات والتحدّيات التي يواجهها الأطفال في بداية مراحل نموّهم، والتبكير في التدخّل والإسراع في اتخاذ التدابير المناسبة من أجل تجاوز كلّ ما يؤخّر طفلًا عن مرحلته العمريّة.