انطلاقًا من فكرة "إنسانيّة الإنسان"، أي ما يكون به الإنسان إنسانًا. وحاجتنا لإبراز هذا البُعد وتجذيره كممارسة يفترض بالأساس محاكاةً وتأسيسًا للغة مفاهيميّة تتشكّل عبر لغة الجسد، فقد اخترت مهارة التعلّم الاجتماعيّ لأرى أوجه الاختلاف والتغيّر، ما قبل وأثناء أزمة كورونا.
صُمّمت المدرسة والبيئة الصفيّة، باعتبارهما حاضنة تعليميّة، لغة تواصل بيني وبين الطلبة. هذه اللُّغة يُعبّر عنها بجميع أشكال التفاعل الإيجابيّ، من قبيل الحوارات أو النقاشات خلال العمل الجماعيّ/ مشاركة لحظات الفرح والحزن/ مساعدة الآخرين في الإجابة عن الأسئلة... ويتجاوز الأمر جدران الصفّ، ليشمل مقصف المدرسة، من خلال جلوس الطلّاب على طاولة الطعام وتبادل أطراف الكلام واللعب في الملعب الخارجيّ.
يساعد التعليم المباشر في خلق لغة تواصليّة وفهم للحالة النفسيّة لدى الطلبة ومدى استعدادهم الذهنيّ لتقبّل المعلومة، كما يُساهم في كسر الحواجز بين المُعلّم والمتعلِّم. فالجسد هو قناة التواصل بين طرفيّ العمليّة التعليميّة، حيث تتيح المدرسة، كفضاء تعلّمي مباشر، للمعلّم سلطة ضبط الجسد والتحكّم فيه عبر توجيهه بما يخدم الهدف المنشود. فهدف المُعلّم، كما المؤسّسة التعليميّة، هو الضبط والتوجيه وجعل الطالب كيانًا منتجًا ومركّبًا اِجتماعيًّا فعّالًا.
يمارس المُعلّم سلطة مباشرة ورمزية على الطلّاب عبر آليّات ضبط، قائمة بالأساس على لوائح تنظيميّة تقرّها المدرسة ويعمد المُعلّم لتكييفها بناءً على حاجيات كلّ صفّ. هذه الممارسة تتطلّب لعبة ظهور وإخفاء لشخصيّات يتقمّصها المُعلّم طيلة العمليّة التعليميّة. فيغدو الصفّ بذلك كمسرح يتحرّك فيه صاحب الأقنعة (المُعلّم) ويغيّر فيه أقنعته بناءً على الحاجة ومتطلّبات كلّ دور.
وانطلاقًا من تجربة التعليم بالمدرسة، لاحظت أنّه في التعليم المباشر تكون عملية الضبط والتوجيه أسهل، في حين يكون التشتت وفقدان التركيز سهلًا وسريعًا في التعليم عن بُعد؛ إذ يحدث أن تهتز علاقات القوى بسبب غياب السلطة الكاملة على الفضاء التعلّميّ، باعتبار أنّ الفضاء التعلّميّ افتراضيّ، وغير خاضع لضوابط تنظيميّة أو تسييريّة كتلك التي في الصفّ الدراسيّ المباشر.
خلال هذه العمليّة، دائمًا ما يفكّر المُعلّم في اللُّغة المعتمدة، وكيف ينجح في تحقيق قناة تواصل بينه وبين الطلّاب، خاصّة في مفتتح العام الدراسيّ. هذه اللُّغة تفترض اشتغالًا مسبقًا من المُعلّم على التفكير بآليّات للإقناع والتأثير والتحفيز، تكسر مع السائد وتسلّط الضوء على الطالب باعتباره الفاعل الرئيسيّ في عمليّة إنتاج المعرفة.
تقوم العمليّة التعليميّة في السياق العادي على "مسرحة" الدرس، ذلك بخلق لغة تفاعليّة يحضر فيها الجسد (الأداء الركحي) والصوت ولغة العيون، هذه العناصر في تفاعلها تؤسّس للغة خطابٍ جديدةٍ تكسر رتابة الزمن التعليميّ وتبني مساحات تفاعل يشارك فيها الفاعلون في الصفّ (الطلبة والمُعلّم).
يلبس الطالب، كما المُعلّم، جبّة هُوَوِيّة بمجرّد انتمائهم لفضائهم التعلّميّ/ التعليميّ، والتي تشكّلت استنادًا إلى منظورٍ ورؤيةٍ ما قبْلية للمدرسة. فقد ساهم تنوّع المرجعيّات الثقافيّة والنسيج الهويّاتيّ بالمدرسة، التي بها أدرّس، في صقل السلوك الاجتماعيّ للطلبة، لأنّه نجح في كسر القولبة والتنميط، وأسّس للاختلاف وخلق تصوّرًا جديدًا للآخر قوامه الاحترام والتعاون ومراعاة اِختلاف وجهات النظر. ويمكننا أن نتساءل هنا: هل نجح الحجْر الصحيّ والتعلّم عن بعد، في تقويض هذا البناء؟
الملاحظ أنّ للتعلم عن بعد بالغ الأثر على الطلاب، فغياب لغة الجسد والقرب الاجتماعيّ والعاطفيّ بينهم، خلق علامات تدعو للقلق، من تبعاتها النفسيّة والاجتماعيّة والتواصليّة. فالقرب من الآخر والجلوس معه وتبادل أطراف النقاش، غدا شبحًا يُخيف الجميع دون استثناء، وقد لمستُ ذلك خلال فترة التعلّم عن بعد، في خطابات الطلّاب وحتى في أشكال مزاحهم. هذا التحوّل الذي أحدثه الحجر المنزليّ، مع الغياب التامّ للجسد الماديّ وشكل تواصليّته، أنتج نمطًا مختلفًا من اللّغة التواصلية المُتكئة على الافتراض (صوتًا وصورة) وهو ما كسر كل امتيازات الشكل الآخر للتعلّم المباشر.
لذلك نجد المُعلّم يعوّل، في عملية التعلّم عن بعد، على وعي الطالب ومدى حرصه ورغبته في التعلّم، لذا من المحبّذ فتح الكاميرا لمعرفة ردود أفعال الطلاب؛ فتعبيرات الوجه كفيلة بأن تعكس فهم الطلبة من عدمه أو مدى رضاهم عن الدرس. وسعيًا لكسر حاجز الخوف وإخراج الطلّاب من عزلتهم الاجتماعيّة، وقع تطويع التكنولوجيا لخدمة هذا البعد ومحاولة خلق مساحات تواصل جديدة حتى وإن كانت افتراضيّة، عبر تقسيم الطلّاب إلى مجموعات لإعداد عمل جماعيّ أو النقاش حول مبحث ما.
وعلى الرغم من أنّ كِلا شكلي التعليم (المباشر أو عَن بعد) يمثلان جسرا عبور نحو المعرفة، لكنّ الفرق أنّ العبور من الفضاء الاجتماعيّ المباشر، الذي يمثّله الفصل وأروقة المدرسة بكلّ معمارها، إلى فضاء المعرفة والتعلّم يعتبر عمليّة سلسة وواضحة. وعلى خلاف ذلك، فالعبور من الفضاء الافتراضيّ إلى مساحات التعلّم، يعتبر عسيرًا بعض الشيء، لما تتطلّبه هذه النقلة من اشتغالٍ إضافي مُضمر، من خلال عمليّة تحويل الفضاء المنزليّ، الذي يمثّل عادة مساحة الراحة والاستجمام، إلى فضاء مدرسيّ تعلّميّ يُطالب فيه المتعلِّم بعزل وعيه عن مكان تواجده، وتأثيث خياله بفضاء التعلّم، ليدخل في الدرس.
ومن الملاحظ أنّ أزمة كورونا أعادت للعائلة دورها الرئيس والمركزيّ في عمليّة التعليم والتعلّم فقد "أجبر" أولياء الأمور على الرجوع، إعلانًا لعودة مركزيّة العائلة في العملية التعليميّة رغم إكراهات الواقع. ونلمس ذلك بالأساس في عمليّة التنسيق مع أولياء الأمور وأشكال تعامل المؤسّسة التعليميّة معهم، ففشلُ التنسيق قد يؤدي إلى فشل العمليّة التعليميّة.
ختامًا، أتاحت لنا تجربة التعليم عن بعد والتعليم الوجاهيّ، فرصة إعادة التفكير في أشكال وآليّات جديدة في التعلّم؛ إذ أصبح التركيز أكثر الآن على اعتماد الوسائط التكنولوجيّة، واستخدام المادّة الصوتيّة والفيديو باعتبار مركزيّتهما في عملية التعلّم. كما أعاد هذا النسق الجديد في التعليم بناء العمليّة التعليميّة وتعزيز مركزيّة الطالب فيها وبذلك قلب هرم العمليّة التعلميّة.