تقديم
نرى اليومَ أهمّيّة البحث العلميّ وارتباطه المباشر بحياتنا اليوميّة أكثر من أيّ وقت مضى. وعلى الرغم من أهمّيّة باقي مجالات المعرفة، إلّا أن المعرفة العلميّة تبقى ذات أهمّيّة خاصّة لصلتها المباشرة بالتنمية الاقتصاديّة، والقرارات اليوميّة كأخذ المطاعيم ضدّ الأمراض، وطرق تناول المضادّات الحيويّة. في الحقيقة، إنّ الثقافة العلميّة تعدّ إحدى أهمّ المهارات الأساسيّة للقرن الحادي والعشرين، ومن أهمّ مؤشّرات التطوّر المجتمعيّ، إذ تشكّل أساسًا لاتّخاذ القرارات السياسيّة والاقتصاديّة المستندة إلى الحقائق، كما أنّها تساهم في تحسين السلوكيّات الفرديّة، وتساهم في التوصّل إلى قرارات ترتكز على أسس أخلاقيّة (Laetsch, 1987, in Liu, 2009). ربما ليس ثمّة فرصة لطرح هذا الموضوع أفضل من يومنا هذا، إذ نواجه جائحة كورونا.
كما رأينا في معظم دول العالم، فإنّ قرار شخص واحد بعدم اتّخاذ الوقاية اللازمة، قد يؤثّر على كامل المجتمع، ويلقي بتبعات على اقتصاد الدولة. إضافة إلى ذلك، فقد أظهر الوباء العالمي كميّة المعلومات المغلوطة (Misinformation) المتداولة، ورأينا ما سمّي بوباء المعلومات (Infodemic). وللأسف، إنّ هذا الوباء هو فقط واحد من تحدّيات كبيرة كثيرة بانتظار الإنسانيّة، كلّ منها يتطلّب منّا معرفةً رصينةً، ومسؤوليّة فرديّة ومجتمعيّة في اتّخاذ قرارات مبنيّة على المعرفة والأبحاث العلميّة المعاصرة.
تُعدّ نسبة الأبحاث العلميّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال العقود الماضية ضئيلةً، إذ شكّلت المنشورات العلميّة والهندسيّة فيها عام ٢٠١٣ ما نسبته ١.٨٪ من الأبحاث المنجزة في العالم (Siddiqi et al., 2016)، وهو ما يشير إلى الحاجة الماسّة لتنمية هذا المجال بحثيًّا ومجتمعيًّا. وهنا يأتي دور تعلّم العلوم وأهمّيّة المعرفة العلميّة، ليس بوصفها مفاهيم ونظريات تُلقّن في المدرسة أو الجامعة، بل بوصفها أداةً استقصائيّةً ومجموعة مهارات فكريّة لاتّخاذ قرارات أكثر فاعليّة، ومنهجًا في الحياة يستند إلى التفكير الناقد. وهذا يحتاج إلى حضور العلوم في الحياة العامّة، وفي البيئات غير الرسميّة.
يناقش المقال موضوع تعلّم العلوم في البيئات غير الرسميّة، إضافةً إلى تسليطه الضوء على دور المتاحف والمراكز العلميّة بصورة خاصّة. يتطرّق المقال أيضًا إلى أهمّيّة تعليم المفاهيم والقضايا العلميّة المعاصرة التي غالبًا ما تتعرّض للإهمال ضمن مناهج التعلّم المدرسيّ، حيث يجري التركيز على العلوم كمعرفة فقط لا كمهارات أو منهج تفكير.
العلوم في البيئات غير الرسميّة
تعلّم العلوم غير الرسميّ هو الذي يحدث خارج إطار المؤسّسات التعليميّة الرسميّة (أي المدرسة، أو الكلّيّة، أو الجامعة) ، وخارج المنهاج الأكاديميّ المقرّر. لذا، فإنّ هذا التعلّم يحدث على مدى حياة المتعلّم في بيئات مختلفة تتضمّن: الوسائل الإخباريّة والإعلاميّة، والفعاليّات والمهرجانات العلميّة، وحدائق الحيوانات والنباتات، والمحادثات مع المعارف، والأنشطة اللّامنهجيّة، والمتاحف والمراكز العلميّة. وبعكس تعلّم العلوم في البيئات الرسميّة، فإنّ هذا التعلّم يتيح للمتعلّم الفرصة لقيادة عمليّة التعلّم دون أيّ قيود أو اختبارات أو ضغوط أخرى، وغالبًا ما يحدث هذا التعلّم في سياق اجتماعيّ مريح ممّا يوفّر للمتعلّم بيئةً تعليميّة ذات جودة عالية (Hofstein & Rosenfield, 1996).
من الممكن، وفقًا لمجلس الأبحاث الأمريكيّ (National Research Council, 2009) تلخيص مزايا تعلّم العلوم غير الرسميّ مقارنةً بتعلّم العلوم الرسميّ كالآتي:
- حثّ اهتمام المتعلّم بالعلوم.
- زيادة المعرفة المتعلّقة بالعلوم.
- زيادة قدرة المتعلّم على التفكير النقديّ والتحليليّ والمنطقيّ.
- تشجيع المتعلّم على الاهتمام بالعلوم وتطوّرها.
إضافةً إلى ذلك، فإنّ تعلّم العلوم غير الرسميّ في الغالب يخلق اتّصالًا شخصيًّا وارتباطًا ما بين المتعلّم والمعلومة، ممّا يضيف تراكمًا نوعيًّا إلى جودة التعلّم، ويرسخ المعلومة في ذهن المتعلّم ووجدانه. وبما أنّ التعلّم غير الرسميّ ليس مربوطًا بمنهاج تعليميّ محدّد، فإنّه يتيح للمتعلّم فرصة أكبر لمواكبة الأبحاث العلميّة الجديدة التي تحدث كلّ يوم، والتي ترتبط بحياتنا وتحرّكاتنا يوميًّا. أخيرًا، فإنّ تعلّم العلوم غير الرسميّ، كونه ذا تأثير أكبر على اهتمام المتعلّم بالعلوم، فبإمكانه أن يزيد من اهتمام الشباب في مواكبة المهن العلميّة، وذلك يعود بفائدة كبيرة لتنمية المجتمع. ومن الضروريّ الإشارة هنا إلى أنّ تعلّم العلوم غير الرسميّ لا يغني عن تعلّم العلوم الرسميّ ضمن إطار المدرسة أو الجامعة، بل هو مكمّل معزّز له، لكنّه تعلّم ضروريّ أساسيّ حقًّا إذا أردنا مجتمعًا مزدهرًا منفتحًا حضاريًّا. وعلى الرغم من قلّة فرص تعلّم العلوم غير الرسميّة في عالمنا العربيّ، توجد بعض المبادرات والمراكز التي تعمل في هذا الاتّجاه، مثل رابطة المراكز العلميّة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
مساحات لانخراط المتعلّم حسيًّا ومعنويًّا
لقد لعبت المتاحف العلميّة على مدى التاريخ دورًا مهمًّا في بناء الجسور ما بين العالم العلميّ والمجتمع. في بداية نشأتها، كانت المتاحف العلميّة بمثابة مراكز لعرض قدرات الدولة والافتخار بإنجازاتها العلميّة والتقنيّة والعسكريّة. وكانت هذه المتاحف تتبع منهجيّة "شاهد دون أن تلمس"، فكانت تترك مسافةً كبيرةً أو حاجزًا ما بين الزائر والمعلومة العلميّة. ولكن منذ ستينيّات القرن الماضي، شهدت المتاحف العلميّة تغييرات فلسفيّة مهمّة، تهدف لإيجاد أساليب عمليّة تفاعليّة جديدة لإشراك الزوّار بالعلوم بدلًا من أن يكونوا مشاهدين فقط (Battrawi & Wahbeh, 2015). ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر ما يسمّى المراكز العلميّة التفاعليّة، أو "المتاحف العلميّة من الجيل الثاني"، إذ بدأت من مركز الإكسبلوراتوريوم في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكيّة، ومركز أونتاريو للعلوم في كندا (Amodio, 2013).
يميّز المراكز العلمية ما توفّره من معروضات تفاعليّة تركّز على المتعلّم، وتكون ذات صلة مباشرة بحياة الزائر، إضافةً إلى برامجها العلميّة التي تهدف إلى نشر الثقافة العلميّة المجتمعيّة وزيادة انخراط المجتمع بالعلوم والأبحاث العلميّة. هكذا، تمثّل المراكز العلميّة "عاملَ تغيير" (agents of change) في المجتمع سواءً من الجانب التربويّ، أو الاجتماعيّ، أو التنمويّ. وقد أظهرت عدّة من الأبحاث التربويّة مدى تأثير المراكز العلميّة التفاعليّة على تعلّم العلوم المجتمعيّ، فهي بحسب Ecsite، (2008):
- تزيد من معرفة الزائر وفهمه للعلوم.
- تقدّم تجربةً تعلّميّةً ملتصقةً بالذاكرة من الممكن أن تؤثّر _على المدى البعيد_ على توجّهات الزائر نحو العلوم وتصرّفاته.
- لها تأثيرات شخصيّة واجتماعيّة على الزائرين، وتشجّع تبادل المعرفة والعلم ما بين الأجيال المختلفة.
- لها تأثيرات اقتصاديّة.
يتيح تعلّم العلوم ضمن سياق المتاحف والمراكز العلميّة المجال لشتّى طرق التعلّم والفهم المختلفة، إذ يأتي الطلّاب بقدرات ومهارات مختلفة مما يجعل عمليّة التعليم عمليّة معقّدة، لكن في المركز العلميّ بإمكان الطالب تطبيق مهاراته بحريّة، والانخراط مع المعلومة بطريقته الخاصّة (Hofstein & Rosenfield, 1996). إضافةً إلى ذلك، إنّ المراكز والمتاحف العلميّة تقدّم فرصةً حقيقيّةً للطلّاب والزوّار للاحتكاك المباشر مع المعلومة والتجربة العلميّة، وأحيانًا العلماء بأنفسهم أيضًا، ممّا يوفّر عامل دهشة لدى الزائر. هذا يساعد ذلك على زيادة جودة التعلّم، والاهتمام بالعلوم عمومًا. للحصول على تعلّم علوم حقيقيّ من الضروريّ أن يتوفّر للمتعلّم التشجيع، وإثارة الفضول، والإقرار الذاتيّ بضرورة الفهم العلميّ، وإعمال الفكر المستقلّ (Hodson, 1996). وبما أنّ المتاحف العلميّة توفّر _إلى حدّ ما_ هذه العوامل كافّة وتشجّع عليها، فإنّها تمثّل سياقات فعّالة لتعلّم حقيقيّ للعلوم.
ولا ينحصر دور المتاحف والمراكز العلميّة على التعلّم فقط، إذ إنّها أيضًا تشكّل مراكز مجتمعيّةً تهدف إلى خلق تغيير حقيقيّ في المجتمع. على سبيل المثال، توفّر مدينة العلوم في نابولي الايطالية (Citta della Scienza) نموذجًا جديدًا للمراكز العلميّة، فهي تتضمّن مركزًا تفاعليًّا للعلوم، ذا قبّة سماويّة، وحاضنة للشركات الناشئة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والصحّة، ومركزا للعلاقات الدوليّة يهدف إلى خلق شراكات بحثيّة علميّة ما بين إيطاليا والعالم بإنابةٍ وتفويض من وزارة الأبحاث الإيطاليّة. إضافةً إلى ذلك، هي تقع في المنطقة الصناعيّة القديمة في مدينة نابولي، المنطقة التي أهملت ولم يُعد إعمارها. فبالتالي فان مدينة العلوم في نابولي تمثل مركزا تنمويًّا مجتمعيًّا يعمل على نشر الثقافة العلميّة، وخلق فرص عمل للشباب، وإعادة بناء جزء مهمّ من المدينة، وتمثيل الحكومة لخلق شراكات علميّة فعّالة.
فرصة لنشر معارف أساسيّة للقرن الحادي والعشرين
كما ذكرنا آنفًا، إنّ البشريّة في لحظة حاسمة من تاريخها تستدعي منّا جميعًا الارتقاء بالوعي والمسؤوليّة الاجتماعيّة والتعزيز الكافي للثقافة العلميّة لمواكبة ما يحدث من تغييرات علميّة، ومناخيّة وطبيّة وتكنولوجيّة، وما ظاهرة الاحتباس الحراريّ والتغير المناخيّ، وتقنيّة الذكاء الاصطناعيّ، وأمن الحاسوب والمعلومات إلّا أمثلة على ذلك.
إنّ التعلّم الرسميّ المنهجيّ الأكاديميّ في المدرسة والجامعة وغيرهما ضروريّ جدًّا لأجل توظيف العلم في الحياة، لكن غالبًا ما تُهمَل هذه المواضيع العلميّة المعاصرة بين مطرقة منهاج المساقات التعليمية كمًّا من جهة، وسندان المدّة الزمنيّة المتاحة من جهة أخرى. لذلك، فإنّ المتاحف العلميّة هي مساحات وفضاءات مهمّة للتطرّق إلى هذه الموضوعات المعاصرة في العلوم.
خاتمة
تطرّق المقال بسرعة إلى موضوع تعلّم العلوم غير الرسميّ بهدف تسليط الضوء على أهمّيّة المتاحف والمراكز العلميّة. وعلى الرغم من قلّة توفّر هذه المساحات في عالمنا العربي، فهي قيد النموّ، وثمّة العديد من المبادرات الملهمة في هذا المجال. ولا بدّ من ذكر ضرورة الخلط الدائم ما بين التعليم المدرسيّ والتعليم خارج المدرسة للوصول إلى منظومة تعلّم متكاملة يكون المعلّم جزءًا أساسيًّا فيها.
المراجع
- Amodio, L. (2013). Science Communication at Glance. In Anne-Marie Bruyas & Michaela Riccio (eds.), Science Centres and Science Events: A Science Communication Handbook. Springer.
- Battrawi, B., & Wahbeh, N. (2015). Towards a Vision for an Interactive Science Centre in Ramallah. Rua Tarbawiyeh, 46 & 47, 69 - 80.
- Ecsite (2008). The Impact of Science and Discovery Centres: A Review of Worldwide Studies. The Science Centre Enrichment Activity Grant Project.
- Hodson, D. (1996). Practical Work in School Science: Exploring Some Directions for Change. International Journal of Science Education, 18(7), 755-760.
- Hofstein, A., & Rosenfield, S. (1996). Bridging the Gap Between Formal and Informal Science Learning. Studies in Science Education, 28, 87-112.
- Liu, X. (2009). Beyond Scientific Literacy: Science and the Public. International Journal of Environmental and Science Education, 4(3), 301-311.
- National Research Council (2009). Learning Science in Informal Environments: People, Places and Pursuits. The National Academies Press.
- Siddiqi, A., Stoppani, J., Anadon, LD., & Narayanamurti, V. (2016). Scientific Wealth in the Middle East and North Africa: Productivity, Indigeneity, and Specialty in 1981–2013. Plos ONE, 11(11), e0164500.