مقدّمة
يظهر الرفاه عادةً بتحقيق التوازن في المشاعر والأفكار والعلاقات الاجتماعيّة والقدرة على إدارة توتّرات الحياة، وهو يمتاز عن السعادة بما يشمله من المشاعر الإيجابيّة، ولكنّه يتعدّاها بأشواط، إذ إنّه خليط بين الشعور الجيّد والفعاليّة الذاتيّة، كامتلاك الهدف والانخراط والثقة والمودّة والشعور بالانتماء والإنجاز والنجاح، غير أنّ الشعور الحسن والتمتّع بالصحّة النفسيّة وانعدام وجود الاضطرابات النفسيّة لا يساوي الرفاه، وإنّما يُؤسِّس له. من أجل ذلك أصبح الرفاه المدرسيّ ضرورة ملحّة في الوقت الحاضر، ولا بدّ من العمل على تطبيقه.
نتعرّف في هذا المقال على ماهيّة الرفاه المدرسيّ وأهمّيّته وتحدّياته وكيفيّة تطبيقه في المجتمع المدرسيّ، ولكن لا بدّ من النظر أوّلًا نظرة سريعة إلى الرفاه بشكله المجرّد وأسسه النظريّة والنفسيّة.
مفهوم الرفاه وأسسه النظريّة والنفسيّة
يعدّ مصطلح الرفاه بمعناه العامّ، وفق ما ورد في تقرير إطار رفاهيّة المدارس، حالة إيجابيّة للفرد وما يشعر به من السعادة والاكتفاء والإنجاز والتأقلم والمرونة، وقد أصبح متداولًا بشكل كبير في الآونة الأخيرة نتيجة زيادة ضغوط الحياة والتغيّر السريع في العالم، ولا سيّما بعد ظهور فيروس كورونا المستجد. لذا، فإنّ الرفاه ضرورة وليس رفاهًا، بعكس ما يظهره هذا المصطلح للسامعين، وهناك مصطلحات أخرى تشير إلى المعنى نفسه إلى حدّ كبير، مثل مصطلح "جودة الحياة".
هناك أنماط متعدّدة للرفاه، كالرفاه العاطفيّ والبدنيّ والاجتماعيّ والبيئيّ المتّصل بالمكان، ولا يكتمل الرفاه ولا يحافظ على ديمومته إلّا باكتمال هذه الأنماط كلّها، وإنّ الفئات المُستهدَفة فيه والأكثر حاجة إليه هم الأقلّ رفاهًا، بمعنى أنّ هناك مساحة كبيرة للتطوير، ولكنّهم في الوقت نفسه هم الفئة الأصعب للعمل معهم وتطوير جودة حياتهم.
بدأ علم النفس بهدف مساعدة البشر وتخفيف معاناتهم وتخليصهم من الأمراض النفسيّة وضغوطات الحياة، أي بهدف إبقائهم على قيد الحياة أو مساعدتهم على التخلّص من الاضطرابات النفسيّة، أمّا بعد ظهور مصطلح الرفاه بمعناه العامّ، فقد هدف إلى أبعد من ذلك، إذ وصل إلى درجات متقدّمة من النماء والازدهار والإنجاز، كما أوضح ذلك تقرير شرح نموذج سيليغمان: نظريّة الرفاه. إنّ أوّل من تحدّث عن الرفاه، ولكن ليس بشكله الحاليّ، هو ماسلو، وذلك بتحقيق الذات كأعلى سلّم الحاجات، وفي السنوات الأخيرة ظهرت نظريّة الرفاه وفق نموذج "PERMA" التي بناها سيليغمان، رئيس الجمعيّة الأمريكيّة لعلم النفس عام 2012، بعد أن سبقه العديد من العلماء الذين تحدّثوا عن الرفاه، وقد وضّح سيليغمان أنّ بناء الرفاه يتكوّن من خمس لبنات أساسيّة، هي: العاطفة الإيجابيّة، والانخراط في نشاط للعيش في اللحظة الحاضرة، والعلاقات الإيجابيّة البنّاءة، والعثور على المعنى في الحياة والإنجاز، ولكلّ محور طرق محدّدة لتحقيقه، ورغم أنّ تحقيق الرفاه بسيط، إلّا أنّه ليس سهلًا في الوقت نفسه، وهنا تكمن المعضلة.
أهمّيّة الرفاه المدرسيّ وتحدّيات تحقيقه
من المهمّ جدًّا البدء بالعمل على تحقيق الرفاه في سنوات مبكرة من عمر الإنسان، لذا، تعدّ المدرسة واحدة من الأمكنة الأولى التي يجب توفير الرفاه فيها، إذ تلعب دورًا أساسيًّا في دعم الطلّاب لاختيار نوعيّة الحياة، وتزويدهم بالمعارف والمهارات والاتّجاهات اللازمة لرفع وعيهم وجعلهم يدركون تأثير خياراتهم في جميع جوانب حياتهم، ومنها الجوانب الأكاديميّة التي لها علاقة وثيقة بالرفاه، فكلّما زاد الرفاه بجميع أنماطه زاد الإنجاز الأكاديميّ النوعيّ، والعكس صحيح. ولكن، كما أسلفتُ، إنّ توفير الرفاه وتطويره ليس بالأمر الهيّن، ولا سيّما في المدرسة، فالتدخّلات أو النشاطات الفرديّة لا تجدي نفعًا أو لا تحقّق المأمول، إذ يتطلّب الرفاه المدرسيّ ثقافة عامّة لتطويره ونهجًا مهنيًّا مسبقًا ومدروسًا يُطبَّق في أنحاء المدرسة كلّها، ويشترك فيه ذوو العلاقة من معلّمين وإداريّين. وقد بيّن تقرير تحسين الرفاهية في المدارس أنّ هناك ثلاث تحدّيات رئيسة لتطوير الرفاه المدرسيّ، تتمثّل بالآتي:
أوّلًا: إنّ النظام الأكاديميّ المُعتمِد اعتمادًا رئيسًا على الامتحانات، أو التركيز المفرط على أهمّيّة الأداء الأكاديميّ الذي يضع الجميع في زاوية أهمّيّة العلامة وحدها، يجعل المعلّم أسيرًا لضغط الإدارة وأولياء الأمور والطلبة أنفسهم للتركيز على ذلك، متجاهلين الأدوار الأخرى للمدرسة، ما يقود المجتمع المدرسيّ كلّه إلى طريق تقليديّ واحد يتّصف بضيق الأفق والإصرار على الامتحان وحده. تلجأ بعض المدارس، من أجل تزيين الواقع وإظهار عكس ذلك، إلى تزويد طلبتها ببعض النشاطات المختلفة من هنا وهناك في أوقات معيّنة، ويعتبر ذلك رفاهًا مزيّفًا، إذ لا يجدي نفعًا لأنّه وإن تمّ إشراك الطالب ببعض النشاطات التي قد تبدو ظاهريًّا مُسهِمَة في رفاهه، كالتدريب على آلة موسيقيّة أو تأدية دور مسرحيّ أو المشاركة في منافسة رياضيّة، إلّا أنّه يبقى رفاهًا غير حقيقيّ، ولا يُشعِر الطالب بالحاضر أو بتحقيق الإنجاز، فضلًا عن إبقاء شعوره وفكره ساكنين في قاعة الامتحان.
ثانيًّا: إنّ ما يحدث خارج أسوار المدرسة، كتأثير الأسرة والمجتمع والثقافة المحلّيّة العامّة ووسائل التواصل الاجتماعيّ، يعيق تطوير رفاه الطلبة إذا تعارض مع ما تنشده المدرسة نحو الرفاه، إذ لهذه القوى تأثير أكبر في رفاه الطالب من تأثير المدرسة، فإذا كانت المدرسة، على سبيل المثال لا الحصر، تُطوِّر برنامجًا منظّمًا حول النشاط البدنيّ والطعام الصحّيّ والأنماط الحياتيّة الجيّدة وفق مبادرات وبوسترات تحفيزيّة وبيع الطعام الصحّيّ في ردهات المطاعم لديها، في حين كانت الأسرة تغرّد عكس ذلك، أو كانت هناك موجات من الدعايات الإعلاميّة الجارفة لمطاعم وعلامات تجاريّة مشهورة تغري الطلبة وتوقعهم في شباكها، فإنّنا نستطيع القول هنا إنّ كلًّا من الأسرة والمجتمع والثقافة العامّة تعمل في اتجاه مغاير للرفاه المدرسيّ، وتعرقل عمله وتحبطه وتعطّله. لذا، تعتبر الأسرة خاصّة من أكبر التحدّيات التي تقف عائقًا أمام الرفاه المدرسيّ.
ثالثًا: لمّا كان المعلّم هو الشخص الأكثر تواجدًا مع الطالب في المدرسة، كان عليه أن يتمتّع بالرفاه اللازم، إذ لا يستطيع بأيّ شكل من الأشكال أن يُزوِّد الطلبة بالرفاه إن لم يكن يتمتّع به، فالإدارات المدرسيّة الحصيفة التي تأمل بالرفاه المدرسيّ، لا بدّ أن تهتمّ برفاه المعلّم من خلال عدّة أساليب وطرائق حتّى تحقّق ما هو مأمول ومرجوّ، فكيف يمكن للمعلّم أن يبتسم للطلبة ويشجّعهم على الاهتمام بحسّ الانتماء والمودّة والثقة وبناء علاقات إيجابيّة ومشاعر الاكتفاء والمرونة إن كان هو يفتقد إليها؟
أعتقد أنّ هناك تحدّيًا رابعًا لم يُذكَر بشكل واضح في أدبيّات الموضوع، وهو ميزانيّة المدرسة، وقد يكون مردّ ذلك إلى اعتباره أمرًا بديهيًّا لا حاجة لذكره، إلّا أنّ توفّر الميزانيّة في المدرسة بأشكالها المختلفة، كالبنى التحتيّة والمرافق واللوازم والموادّ والموارد البشريّة، هي القاعدة الأساسيّة لتحقيق رفاه الطلبة، وهذا ما ألمح إليه بعض الكتّاب بشكل استنتاجيّ غير مباشر، وكما أسلفت، فإنّ العمل مع الأفراد الأقلّ رفاهًا هو الأصعب لتطويرهم، وهو بشكل أو بآخر يخبرنا أنّ المدرسة البسيطة التي تتّصف بالأساسيّات هي الأصعب للعمل مع طلّابها، ولتحقيق رفاههم الشامل.
تعتبر هذه التحدّيات عوائقَ كبيرة وليست مشكلات بسيطة نستطيع تداركها بسهولة، ولكن من الجيّد توفير درجة معيّنة من رفاه الطلبة حتّى وإن كانت متواضعة، على أن تكون في ظلّ نظام أكاديميّ غير تقليديّ، ومع معلّم يتمتّع بالرفاه نوعًا ما، ووفق نظام أسريّ وثقافة عامّة مُتقبِّلة لرفاه الطلبة، من أجل البناء عليه والتقدّم به نحو الأمام. لذا، من المهمّ التعرّف إلى بعض الطرق التي نستطيع من خلالها أن نوفّر نوعيّة حياة جيّدة للطلبة.
كيفيّة تطبيق الرفاه داخل المدرسة
إنّ رؤية المدرسة ورسالتها هي ما يضمن رفاه الطلبة، أي أنّه من الضروريّ أن تعكس الرؤية والرسالة مفهوم الرفاه بشكل أو بآخر، ولكنّ التأسيس لرفاه الطلبة يبدأ برسم السياسات وبناء الخطط وتوفير الإمكانات، إذ لا بدّ في البداية، للإدارة المدرسيّة أن تعمل على سياسة حماية الطفل، ونشر مفاهيمها وأنظمتها وأفكارها وعرضها عرضًا واضحًا على جدران المدرسة، وتحديد التزاماتها ابتداءً من عمليّة التوظيف، وتعيين مسؤولين وسفراء حماية الطفل، وإشراك جميع الأطراف بها ولا سيّما أولياء الأمور، بالإضافة إلى تدريب العاملين في المدرسة جميعهم على حماية الطفل، يشمل ذلك سائقي الباصات وعمّال التنظيف ومُعدِّي الطعام. ويعدّ تعريف الطلبة إلى حقوقهم من أهمّ عوامل سياسة الرفاه في المدرسة، إذ يرشدهم ذلك إلى كيفيّة سير الإجراءات بغية الإعلام عن أيّة إساءة من أيّ جهة كانت، وذلك من أجل تطوير شعور الطالب بالأمان والراحة.
إنّ كلًّا من النظام السلوكيّ الداخليّ والسياسة العامّة لسلوك الطلبة من الأعمدة الرئيسة التي تدعم رفاههم، والتي تُعزِّز السلوك القويم وتُشجِّع قيم الخير والودّ والتناغم والجمال، كما تُركِّز على الأمور المشتركة وتنبذ العنصريّة والفئويّة، وتساوي بين الطلبة جميعهم، فضلًا عن وضعها عواقب السلوك لتمنع التنمّر والعنف وتنشر روح الازدهار والنماء والفاعليّة والإنجاز.
تُوضِّح سياسة العمل الإرشاديّ، التي تتضمّن مهمّات المرشد وأدواره وطرق مساعدته، كيفيّة عمل المرشد وتسهم في رفاه الطلبة، إذ يعمل قسم التوجيه والإرشاد بشكل متناغم مع جميع أقطاب العمليّة التعليميّة من إدارة ومعلّمين وأولياء أمور ومجتمع محلّيّ، فينظّم حملات توعية للإدارة والمعلّمين ويدرّبهم على كيفيّة تطوير رفاه الطلبة ونمائهم وشعورهم بالرضا والإنجاز، بالإضافة إلى نشر هذه الثقافة وبثّ روح الابتهاج من خلال حصص التوجيه الجمعيّ لتعريف الطلبة إلى أنماط الرفاه وكيفيّة تحقيق كلّ نمط وتطويره.
انطلاقًا من الاجتماعات التي أجريتُها مع المعلّمين والإداريّين وأولياء الأمور لتزويدهم بالطرائق والأساليب المُسهِمَة بتحقيق الرفاه، وبالاستناد إلى تقرير شرح نموذج سيليغمان: نظريّة الرفاه، يمكن القول إنّنا نستطيع توفير رفاه الطلبة وتطويره من خلال النقاط الآتية:
أوّلًا: على المستوى الفرديّ:
- الاستماع إلى موسيقى محبّبة ونماذج ملهمة.
- قضاء وقت نوعيّ مع أفراد تهتمّ لأمرهم.
- تطوير مشاعر الامتنان لما تملكه وتتمتّع به.
- عَيشُ اللحظة الآنيّة، فالماضي قد انتهى والمستقبل لم يأتِ بعد.
- قضاء وقت في الطبيعة ومشاهدة ما يحدث حولك وسماعه ومراقبته.
- الانخراط في مجموعات جديدة وفق اهتمامات مشتركة للتعرّف إلى أشخاص جدد.
- تجربة نشاطات جديدة خلّاقة.
- الاشتراك في مؤسّسات أو أندية أو مجموعات مهمّة بالنسبة إليك.
- وضع أهداف ذكيّة في الحياة وخلق طرق مُبتكَرة للاحتفال بالإنجاز.
ثانيًا: على المستوى المدرسيّ:
- تخصيص يوم مدرسيّ كامل للرفاه.
- وضع بوسترات تُوضِّح أنماط الرفاه وطرق تحقيقه في المدرسة.
- وضع شاشات عرض في عدّة أماكن في المدرسة تحتوي على موادّ تُعزِّز فكرة الرفاه المدرسيّ، مثل اليوغا والطعام الصحّيّ والتأمّل وعبارات تشجيعيّة وتحفيزيّة عن الإنجاز وأهمّيّة بناء علاقات إيجابيّة وخوض تجارب حياتيّة جديدة.
- تعليق جمل مُلهِمة عن رفاه الطلبة بصورة أعمال فنّيّة أو كاريكاتوريّة جذّابة على جدران المدرسة.
- استقبال المعلّمين الطلبةَ على الباب الرئيس للمدرسة، وإلقاء التحيّة عليهم في بداية الدوام المدرسيّ للترحيب بهم.
- الاجتماع مع أولياء الأمور وإرسال رسائل ونشرات تربويّة إليهم تُوضِّح لهم رفاه أبنائهم وتشجّعهم على تطويره.
- تنظيم الرحلات التثقيفيّة والترفيهيّة للطلبة.
- عرض فيديو قصير في بداية الدوام المدرسيّ للطلبة جميعهم عن الرفاه في القاعة الرئيسة أو المسرح.
- تعيين سفراء الرفاه من المعلّمين والطلبة، تكمن مهمّتهم في رفع الوعي والمساعدة على تحقيق التطوير والازدهار.
- إنشاء مبادرات رفاه مجتمعيّة للعمل مع المجتمع لتعزيز الشعور بالانتماء والإنجاز.
خاتمة
بناءً على ما تقدّم، يبدو لنا أنّ تحقيق الرفاه في المدرسة عمليّة طويلة وليست سهلة، إذ إنّ كلّ مدرسة تبدأ ممّا هي عليه أو ممّا وصلت إليه، وهذا ما يجعل عمليّة الرفاه بسيطة وصعبة في الآن نفسه. ومع ذلك، فإنّي أشجّع جميع المدارس على البدء في التخطيط لتحقيق رفاه الطلبة، ولا سيّما في ظلّ المتغيّرات الحديثة والتطوّر التكنولوجيّ السريع الذي بدا أنّه يعوق أحيانًا أو يعرقل هذا التوجّه.